انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 3/في الأدب العربي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 3/في الأدب العربي

​العوامل المؤثرة في الأدب​
في الأدب العربي
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 02 - 1933



العوامل المؤثرة في الأدب

(1)

ليس الأدب إلا التعبير القوي الصادق عن مشاعر المرء وخواطره

وأخيلته، وهذه تتأثر بأحوال العيش وأنواع العقائد وأطوار المجتمع

وأنظمة الملك وتقلبات السياسة، ومن المفيد الإلمام بهذه العوامل المؤثرة

في الأدب لتكون دستور المؤرخ وشريعة الأديب ونبراس الباحث فيما

يصدر عن الإنسان من كد الأذهان وفيض القرائح.

فمن هذه العوامل (طبيعة الإقليم ومناخ البلد) وأثرهما في حياة الناس وسلائل الأجناس معلوم في بدائه العقول. فأحوال الإقليم هي التي تنهج لساكنيه سنن معاشهم ونظام اجتماعهم. وتكون الكثير الغالب من أخلاقهم وطباعهم، ومناظره هي التي تربي ذوق أبنائه، وتغذي كتابه وشعراءه، فالشعر الجاهلي مثلاً صورة صادقة لطبيعة البادية وحياة البدو: فألفاظه خشنة كالجبل، ومعانيه وحشية كالأوابد، وأساليبه متشابهة كالصخر، وأخيلته مجدبة كالقفر، ولن تجد في غير الجزيرة العربية أمثال الشنفري وتأبط شراً والسليك بن السلكة من هؤلاء الشعراء الصعاليك الذين تغنوا بحياة البادية ومناظرها وأباعرها وغزلانها وكثبانها وأطلالها وجبالها بشعر متين الحبك صادق الوصف جاف اللفظ عنجهي الخيال. وقد أختلف الشعر في شبه الجزيرة نفسها باختلاف الأماكن: فهو في نجد غيره في الحجاز، وهو في أهل الوبر غيره في أهل المدر. ولهذا العامل وحده نعزو انقراض الأراجيز وهي أقدم الأطوار لشعر البادية حين إرتحل ناظموها من الصحارى المجدبة إلى سواد العراق وريفه. وفي حواشي العراق وظلاله، وخمائل نجد وجباله، أخضر عود الشعر واستقام وزن القصيد ومن ثم قال القدماء أن امرأ القيس ومهلهل بن ربيعة وعمرو بن قميئة هم أول من قال الشعر وأطال القصائد، وما كانوا في الواقع إلا زعماء النهضة الأدبية في هذه البلاد.

وظل عامل الطبيعة يفعل فعله في الأدب خلال القرون، فخالف بين الشعر في عواصم الشرق وبينه في الأندلس فقد وج الشعراء العرب في أوربا ما لم يجدوه في آسيا من الأجواء المتغيرة والمناظر المختلفة والأمطار المتصلة والجبال المؤزرة بعميم النبت، والمروج المطرزة بألوان النور، فهذبوا الشعر وتأنقوا في ألفاظه ومعانيه، ونوعوا في أوزانه وقوافيه، ودبجوه تدبيج الزهر، وسلسلوه سلسلة النهر، وسلكوا به مسلك التنوع والتجديد. وهذا العامل هو الذي يخالف اليوم بين الأدب في مصر وبينه في الشام والعراق. فالطبيعة المصرية تكاد أن تكون نائمة: فالجو معتدل في جميع الفصول لا يكاد يختلف، وحقول الوادي الحبيب لا تعرى من الزهور والزروع، والسماء السافرة والصحراوان الوسيعتان لا تكاد مناظرهما تتغير. فإذا لم تكن طبيعة بلادنا نائمة فهي على الأقل مسالمة، لأنها لا تزعجنا بالزلازل العنيفة، ولا تهزنا بالعواصف الرعن، ولا تخزنا بالبرد القارس والحر اللافح، فطبعت أهلها على الوداعة والفكاهة والبشاشة والكسل والمحافظة على القديم من العادات والأخلاق والآداب فلا تتطور هذه الأمور في مصر إلا بمقدار. ولذلك تجد شعرنا منضد اللفظ جيد السبك بطيء التجدد هادئ الأسلوب لين العطف لا يأخذ الأمور إلا بالملاينة والرفق. بينما تجد الشعر في الشام شديد الحركة كثير التنوع سريع التجدد قلق الأساليب لتعدد المناظر واختلاف الصور وتقلب الطبيعة ونشاط الحياة. وهو في العراق قوي أبي ثائر ساخط متوثب منتشر على ألسنة الخاصة والعامة لالتهاب المخيلة وتوقد الشعور وصفاء الحس من إفراط الطبيعة في الحر والبرد وغلبة الحياة البدوية على كثرة السكان.

على أن هذا العامل قد أخذ يضعف منذ أواسط القرن الماضي لسهولة المواصلات وكثرة المخترعات وانتشار المدنية، فيستطيع الإنسان أن يعيش في آسيا وأفريقيا كما يعيش في أوربا، وسيزداد ضعفاً في المستقبل دون أن يمحي ويبيد.

ومنها (خصائص الجنس) فشعر العرب يختلف عن شعر اليونان في المذهب والخيال والغرض، وشعر ابنالرومي يختلف عن شعر ابن المعتز وقد نشأ في بلد واحد وعصر واحد، لأن الجنس الآري أميل إلى الاستقصاء والتفصيل والتحليل والتعمق، والجنس السامي لذكاء قلبه وحدة خاطره يفهم الشيء في لحظة، ثم يلخصه في لفظة، فهو أميل إلى التعميم والأجمال والبساطة. ومنها (دوام الحرب بين جنسين أو أمتين لفتح بلاد أو صد عاد أو تحرير وطن). فأن هذه الحروب تتمخض عادة عن أبطال ينمون في الخيال، ويعظمون في الصدور، ويكبرون في الزمن، حتى تنسب إليهم الخوارق، وتخلع عليهم المحامد، فتسير بذكرهم الرواة، وتتحدث بأفعالهم القصاص، وتنتقل شهرتهم من فم إلى فم ومن جيل إلى جيل، وهي في خلال ذلك تتسع وتفيض حتى تصبح سيرهم لدى الشعب حديثاً وطنياً يجب أن ينشر، وتراثاً قومياً يحرصعلى أن يزيد، فيقيض الله لهذه السير المتجمعة على طول الدهور شاعراً سمح القريحة فينظمها بأسلوب شائق ونمط جميل، كذلك دارت الإلياذة الإغريقية على حروب اليونان لأهل طروادة. ومهابهاراته الهندية على الحرب التي نشبت بين نيدهو وبني كرو، والشاهنامة الفارسية على تاريخ الأكاسرة ووصف الحرب التي اشتعلت بين أهل إيران وأهل طوران، وقد كانت تلك الحروب مفخرة الفرس الأولين ورمزاُ للخلاف الدائم بين ألهي الخير والشر (وكذلك دارت أغاني رولان الفرنسية على حروب الفرنج لعرب الأندلس. وهذا هو الشعر القصصي أو الملاحم الذي خلا منه الشعر العربي لأسباب لا يتصل ذكرها بموضوع اليوم) على أن عامل الحروب قد أثر في النثر العربي والشعر العامي وأن لم يؤثر في الشعر الفصيح. فأن نشوب الحروب الصليبية قد اقتضى تدوين بعض القصص الحماسية كقصة عنترة وسيرة بني هلال والأميرة ذات الهمة إثارة للنفوس وتحميساً للشعب وتفريجاً من الهم.

ومنها (طبيعة العمران وتوزع الثروة وما يتصل من ذلك من حال الاجتماع) فأن تقدم الحضارة ورخاء العيش ونماء الثروة تؤثر في الذوق، وتزيد في الصور؛ وتساعد على نشر العلوم، وتنوع في معاني الشعر وأساليب الكتابة. وشاهد ذلك أن مدن الحجاز حينما زخرت بالمال ونعمت بالفراغ منذ خلافة عثمان إلى أواخر القرن الأول للهجرة تدفق أهلها في اللهو وعكفوا على الغناء وألقوا أزمتهم في يد الصبابة وانقطع شعراؤها إلى الغزل فافتنوا فيه وتصرفوا في معانيه وأغفلوا سائر أنواع الشعر الأخرى كعمر بن أبي ربيعة وجميل بن معمر وكثير عزة. وشاهد آخر على تأثير الأحوال الاجتماعية في الفنون الأدبية هو شيوع البذاء والفحش في شعر بعض البغداديين على عهد الرشيد والمأمون.

فقد حدث شئ من ذلك في الجاهلية وفي العصر الأموي حين كان الفرزدق وجرير ومن لف لفهما يتجاوبون بالفحش ويتهاجون بالبذاء، إلا أن ذلك لم يكن مقصوداً لذاته، وإنما كان يقال هجاء للعدو وسباباً للخصم. أما الفحش في شعر أبي نؤاس ومطيع بن أياس وحسين الضحاك وابن سكرة الهاشمي وابن الحجاج فقد كان صادراً عن خلق وناقلا عن طبع ومعبراً عن حالة. فالشعراء يقولونه ويفعلونه، وأهل البيوتات وذوو الثمالة يسمعونه ولا ينكرونه، فيما ذا نعلل ذلك الفساد الذي نال الطباع العربية الحرة فجعلها تمتهن الكرأمة وتلقي شعار الحشمة؟؟ إذا عللناه بمفاسد الترف حين تطغى الحضارة ويثور البطر كان هذا التعليل وحده غير فاصل ولامقنع. فأن أكثر أمم التمدن الحديث اليوم قد غرقوا في اللهو وشرقوا بالنعيم وأمعنوا في الخلاعة، ثم لا تجد النوابغ من شعرائهم وكتابهم يجرءون على أن ينعوا أنفسهم بالفواحش أو يجهروا في كتبهم بالفضائح، وناهيك بما حدث لفكتور مرجريت حين نشر قصة لاجرسون.

إنما الأشبه بالحق أن هناك سبباً آخر يساعد هذا السبب وهو كثرة الرقيق، وتأثير الرقيق إنما حدث من جهتين: أولاهما قيام العبيد على تربية الأحداث في كرائم الأسر، وفي كثرة العبيد دناءة في الطباع ووقاحة في القول فأفسدوا النشء وعودوهم هجر القول وفحش الحديث، وأخراهما إقحام الجواري والسراري خدور العقائل فأعدينهن من أخلاقهن بالمجانة، فسقطت المرأة من عين الرجل فأخذها بالعنف وضرب عليها الحجاب وأقام عليها الخصية على عادة الفرس وأقصاها عن تربية الولد وتدبير البيت وأتخذها للمتاع واللذة، فكان من ذلك أن فشت في الخاصة أخلاق العبيد والأماء فتنادروا بالفحش وأكثروا الشعر في الأحماض والمجون. وإليك شاهداً آخر على تأثير الأحوال الاجتماعية والأمور المادية في فنون الآداب: ظهر أدب العامة أو الشعر باللغة العامية في بغداد والأندلس في عصر واحد، ففي بغداد ظهر المواليا على لسان صنائع البرامكة من العامة، وظهر نوع آخر ذكره ابن الأثير صاحب المثل السائر قال: (بلغني أن قوماً ببغداد من رعاع العامة يطوفون بالليل في شهر رمضان على الحارات وينادون بالسحور ويخرجون ذلك في كلام موزون على هيئة الشعر وان لم يكن من بحار الشعر المنقولة من العرب، وسمعت شيئاً منه فوجدت فيه معاني حسنة مليئة وأن لم تكن الألفاظ التي صيغت بها صحيحة) ولكن الشعراء والأدباء استخفوا به واحتقروه فلم يقلدوه ولم يدونوه ولم يأبهوا لأربابه. وحاول أحد الأطباء الأدباء وهو محمد بن دانيال الموصلي أن يبتكر نوعاً جديداً من الأدب أقتبسه من ألعاب خيال الظل فألف كتاباً سماه طيف خيال فحبط عمله.

وأما في الأندلس فأبتدع عبادة بن ماء السماء القزار الموشح، وأبتكر أبو بكر بن قزمان الزجل، فطرب الناس لهما وأعجبوا بهما وأقبل أمراء القريض وزعماء الأدب على نظمهما وجمعهما فنبغ فيهما النوابغ واشتملت على روائعهما الكتب. فم السبب إذن في استهجان البغداديين لأدب العامة وعزوفهم عنه، واستحسان الأندلسيين له ونبوغهم فيه؟ السبب يعرفه المؤرخ الباحث في بغداد وهو أن بغداد كانت شديدة الأرستقراطية لأنها موطن الأشراف وذوي الأحساب والمثالة والثروة، فكانوا يترفعون عن الشعب ويستخفون بأدبه وذوقه وذكائه. ويجدون من الغضاضة أن يتحلوا بحليته ويجروا على أسلوبه؛ ولكن الأندلس كانت ديمقراطية غنية كأمريكا اليوم، فلم يعتز أحد فيها بالنسب لتساويهم فيه، ولا بالثروة لعموم الرخاء فيهم، وحسن توزيع الثروة بينهم، فكانت منازل الخاصة والعامة متصاقبة. وأذواقهم وآدابهم متقاربة. لذلك لم يتأبه الشعراء والأدباء عن تقليد الأدب العامي وتدوينه.