مجلة الرسالة/العدد 299/مقدمة (ليلى المريضة بالعراق)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 299/مقدمة (ليلى المريضة بالعراق)

مجلة الرسالة - العدد 299 المؤلف زكي مبارك
مقدمة (ليلى المريضة بالعراق)
أبي
ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1939


تقرير طبي

(مرفوع إلى حضرة صاحب المعالي وزير المعارف)

للدكتور زكي مبارك

أيها الأستاذ الجليل

كنتم سألتموني منذ شهرين أن أقدم إليكم تقريراً عما صنعت في مداواة ليلى المريضة في العراق، فأنا اليوم أجيبكم عما سألتم، راجياً أن تغضوا النظر عما وقع من إمهال وتسويف

وأسارع فأعتذر عن تقديم هذا التقرير مطبوعاً إلى الجمهور في الوقت الذي أقدمه إليكم، لأن لي في ذلك غاية نبيلة: هي تذكير زملائي من الأطباء بواجبهم في التعرف إلى الدراسات الأدبية والفلسفية، على نحو ما كان يصنع الأطباء العظام في الأمم العربية والإسلامية، وقد أعلنت هذا المعنى منذ شهور طوال في مجلة (المعلم الجديد) التي تنشرها وزارة المعارف العراقية، فاستقبله الأطباء هناك بالترحيب

ومعاذ الأدب أن يكون في نشر هذا التقرير بطريقة علنية دعاية لنفسي، فما أطمع في أن أكون أستاذاً للحكمة الوجدانية بكلية الطب بعد أن صنع الأدب بحياتي ما صنع: فقوض عيادتي بشارع المدابغ، وأغلق عيادتي بشارع فؤاد، وأصارني إلى احتراف الصحافة والتدريس

وقد كنت نشرت بعض فصول هذا التقرير بمجلة (الرسالة) في السنة الماضية فارتاع زملائي من أطباء بغداد وشكوني إلى الجمعية الطبية المصرية، وكانت حجتهم أنه لا يليق بالطبيب أن يفشي سر المريض

وما اجهل أني أخطأت، ولكن متى سلمت أعمال الرجال من الأخطاء؟ وهل يدعي العصمة إلا أهل الغفلة والحمق والخبال؟

إن أعظم مزية يتحلى بها كاتب هذا التقرير هي أنه يعترف سراً وعلانية بأنه إنسان يخطئ ويصيب، وقد يشطح وينطح في كثير من الأحايين!

وما أتخوفه اليوم وأنا أقدم إليكم هذا التقرير قد تخوفته من قبل: فقد كاد ما نشر من هذ التقرير يزلزل الأرض تحت قدمي في بغداد، واضطرني ذلك إلى الدفاع عن نفسي أمام (نادي القلم العراقي) وفيه كثير من الأطباء، فتقبل الزملاء دفاعي بأحسن القبول. ومن ذلك عرفت أن الأطباء قد يحسون معاني الإنسانية حين يتصلون برجال الأدب والبيان

وما أخفي عليكم أني كنت أعرف أن اهتمامي بمداواة ليلى سيعرضني لكثير من المكاره، فهدتني الفطرة إلى أن أحتاط لنفسي فأوهمت أهل العراق أني أديب عظيم، واستطعت بذلك أن أتصدر لتدريس الأدب العربي بدار المعلمين العالية، على قلة ما أملك من الذخائر الأدبية، وقد أعانني الله تباركت أسماؤه على تحقيق ما ادعيت، فألقيت على تلاميذي وعلى جمهور أهل العراق محاضرات أسبوعية بكلية الحقوق كان لها في آذان أدباء بغداد رنين أي رنين

ولم اكتف بذلك، بل بالغت في ستر الموقف فأنشأت الفصول التي رأيتموها في كتاب: (وحي بغداد).

فأن عجبتم من أن أوفق إلى ما وفقت إليه في زمن لا يزيد عن تسعة أشهر فتذكروا أن الإخلاص قد يزعزع رواسي الجبال

أليس من العجيب أن أهاجر إلى بغداد وأنا طبيب فأرجع وأنا أديب؟!

ولكن ما الذي ستقرءونه في هذا التقرير الذي تعد صفحاته بالمئات ويقع في ثلاثة أجزاء؟

من المؤكد انه يغاير التقارير التي أقدمها إلى مكتب تفتيش اللغة العربية من أسبوع إلى أسبوع

ستجدون في هذا التقرير صراعاً مروعاً بين الحلم والجهل، والرشد والغي، والهدى والضلال. وستجدون فيه ما هو أخطر من ذلك: ستجدون فيه صراعاً بيني وبين نفسي، والجهاد الأكبر جهاد النفس، كما قال الرسول

سترونني هززت شجرة النفس الإنسانية هزة عنيفة لأعرف ما تحمل من الثمار المعطوبة والثمار الصحاح

سترونني صنعت بالقلوب والنفوس ما تصنع الأعاصير بالشجر والنبات لا ينجو من عنفها إلا القوي المتين

فإن رأيتموني قدمت إلى أصونة وزارة المعارف تقريراً لم تعرف مثله قبل اليوم فاجزوني بكلمة ثناء تخفف ما أصارتني ليلى إليه: فقد رجعت من دارها مفطور القلب مصهور الروح. وإن رأيتموني أحدثت في عالم الطب بدعة سيئة فاغفروا ذنبي، فحسبي من المحنة أن أسكب الدمع كل يوم ما أسرفت على نفسي من الهيام بأودية المعاني، والضلال في هوى الملاح. أعاذك الله من بلاء الحب، ونجاك من فتك العيون السود!

أتذكر أيها الوزير الجليل كلمة جاءت في كتاب (ثورة الأدب) الذي ألفه كاتب من أقطاب الكتاب في هذا الجليل؟

أتذكر أن ذلك المؤلف قال: إن هناك آفاقاً من المعاني يتحاماها كتاب العصر الحديث؟

فما رأيك في من يكفر عن سيئات أولئك الكتاب فيتحمل المشاق في ارتياد تلك المجاهيل؟

لقد اقتحمت تلك الآفاق بلا زاد ولا ماء، وأنا أعرف أني أعرض سمعتي للأقاويل والأراجيف، لأن الناس عندنا لا يفهمون كيف يدخل الطبيب على نفسه ليشرح على حسابها أهواء النفوس والقلوب والعقول؟

اقتحمت تلك المهالك وليس لي إلا سناد واحد هو الشعور بأني أودي خدمة للأدب والطب. وهل يخدم الأدب والطب بأفضل من التغلغل في تشريح النزعات والأهواء؟

وهل كنت أملك الفرار من الصنع الذي صنعت؟

لقد قضيت نحو تسعة أشهر في بغداد وأنا في حوار موصول مع ليلى وظمياء، وأنت تعرف كيف يتعرض القلب - حين يألف مثل هاتين الشيطانتين - للطواف بأركان الحقائق والأباطيل

أقول هذا وأنا أشعر بأني لم أوفق كل التوفيق في تدبيج هذا التقرير لأنه خلا خلواً تاماً من شوائب الرياء، في وقت صار فيه الرياء سيد الأخلاق، وإلا فما الذي كان يمنع من أن أضيف إلى نفسي وإلى ليلى محامد ومناقب يسير بها الركبان؟ ما الذي كان يمنع من أن أقول إن ليلى لم تعتب علي مرة واحدة وإني كنت في هواها أعقل الناس؟

منع من ذلك التعقل مانع واحد هو الغرام بالصدق. منع من ذلك أني أشعر بأن الأدب العربي أصبح على شفا الهاوية بفضل شيوع التدليس في تصوير العواطف والغزائز والطباع

منع من ذلك أني أبغض أشد البغض أن تشعر وأنت تقرأ هذا التقرير بأن فيه شيئاً من الزور والبهتان

وهل من القليل أن تراني وصلت إلى ضمير الحياة العراقية ثم وصفته بأسلوب يخفي سحره الدقيق على هاروت وماروت؟

في هذا التقرير، أيها الوزير، ما يشبه التحامل على الأطباء ولي في ذلك عذر مقبول.

فأنت تعرف أن الحكومة كانت أوعزت إلى الجمعية الطبية المصرية أن تقيم مؤتمرها العاشر في بغداد لتعينني على مداواة ليلى المريضة في العراق.

ولكن أولئك الأطباء حاربوني وقاتلوني بلا ترفق، وقد جزيتهم بما يستحقون، وأنا مع ذلك أشعر بأني أحسنت إليهم كل الإحسان.

أما يكفي أن أصور بقلمي فلماً للمؤتمر الطبي العاشر، فلماً رائعاً لم يشهد مثله الناظرون؟

سترى في هذا التقرير أن ليلي - وإن بالغت في الدلال - لم تضمر غير الحب ولم تمنح الواشين الآثمين غير الصد والإعراض

سترى أن ليلى عرفت أني لم أكن إلا طيفاً زار في السحر بساتين الكرخ وبغداد.

ويؤذيني أن أعرف أنه قد يصعب أن أرى ليلى بعد اليوم فقد قيدني أهلي وأبنائي بقيود من حديد، وقهروني على أن أعترف بأني من مصر لا من العراق

وإن رأيتم في هذا التقرير حبسا شديداً للأمة العراقية فلا تعجبوا، فما ذقت طعم الحياة إلا في العراق، ولا رأيت صدق القلوب إلا في العراق، ولا عرفت جمال النيل إلا بعد أن رأيت لون مائه في دجلة والفرات

وما أسفت على شيء كما أسفت على أن لم يقدر لشاعرنا شوقي أن يزور العراق.

وقد دعوتكم إلى زيارة العراق، فمتى تجيبون؟

أحب أن أعرف متى أراكم في العراق بين قومي وأهلي؟

أحب أن تسمعوا سجع الحمائم في الموصل، وأن تروا غابات النخيل في البصرة، وأن تعانوا بقايا السحر في بابل، وأن تكحل أعينكم بغبار الصحراء في النجف، وأن تستصبحوا بظلام الليل في بغداد

أدعوكم أيها الوزير إلى زيارة الأماكن التي قضت بأن يتموج هذا التقرير بعباب الهدى والضلال.

أدعوكم إلى زيارة العراق لتواجهوني بما في هذا التقرير من الزائف والصحيح، إن ارتبتم في بعض ما ستقرءون.

ستروه في هذا التقرير رموزاً كثيرة، وقد تجزون من يحدثكم بأني سلكت فيه مسلك الغمز والتجريح، فإن سمعتم شيئاً من ذلك فاختبروه بأنفسكم على ضوء الحق لتعرفوا أني أخلصت النصح للأمتين العظيمتين: (مصر، والعراق).

وما الذي يوجب التصريح في مواطن يكفي فيها التلميح؟

أن البلاغة تجعل اللبس والغموض من أغراض الكتاب في بعض الأحيان فكيف تحرمون على ما استباحه المفكرون في مختلف العصور والأجيال؟

إن هذا التقرير يحدد صلات مصر بالأمم العربية والإسلامية ويدلها على مذاهب الخلاص من الشبهات والأراجيف. وهو كذلك يشرح المعضلات التي يتعرض لها الجيل الحديث في مصر والشرق، وما كان يتيسر ذلك إلا إذا اعتمد الكاتب على رموز وإشارات يفهمها أولو الألباب.

وإني لواثق بأنكم ستعجبون حين ترونني وصلت إلى دقائق لم يفطن إليها أحد قبل اليوم وأنا أتلقى الوحي من ليلى ومن ظمياء

وهل كان ينتظر من رجل يلهو ويلعب أن يصل إلى ما وصلت إليه في تشريح السياسة الدولية في الشرق العربي والإسلامي؟

ذلك شيء غريب، ولكن الأغرب أن تتلقوا الحكمة عن أفواه المجانين!

وأعيذكم أن تظنوا أني آذيت بهذا التقرير أحداً من الناس، فقد عرضت بعض فصوله على ليلاي بالعراق قبل أن أعرضه عليكم فتلقته بالقبول، وهي التي علمتني مذاهب الرمز والإيماء، وسيرمي النقاد مني بداهية إن بدا لهم أن يعترضوا على ما في هذا التقرير من رموز لا يدرك مغازيها إلا الراسخون في الحب والطب

ولك يا معالي الوزير أن تبلو سرائر هذا التقرير إن أردت لك أن تسأل - بيني وبينك - عما في هذا التقرير من غرائب وأعاجيب. . .

وليس لك أن تطالبني بأن أفسر للجمهور ما يقصد إلى طيه الحكماء، وأنا من الحكماء لأني بحمد الله مجنون! في هذا التقرير خطابات شخصية، فلا يرعك ذلك: فقد كان أدبي من مواسم الأفراح الروحية في بغداد، وفيه صور كثيرة لمعالم العراق وبعض أهل العراق، وكان في نيتي أن أحلي هذا التقرير بصورة ليلى - أعزها الحب - ولكني خشيت أن أخرج على أمرها العالي، وهي قد أشارت بأن يصان وجهها الجميل عن شره العيون.

لا تعجب من أن أفتن بما وفقت إليه في هذا التقرير، فسترى أني لم أفرط فيه من شيء، وسيدعوك إلى أن تستوحي ليلى المريضة في أسوان كما استوحيت ليلى المريضة في العراق!

أيها الأستاذ الجليل

سترى في هذا التقرير صفحات تشرح الحوادث التي كانت سبباً في وقوع فاجعة بغداد، فاقرأ تلك الصفحات - غير مأمور - لترى أن ما وقع لم يكن أثراً لعداوة موجهة إلى الأمة المصرية، وإنما هو نتيجة لتصرفات أوقعت فيها المقادير بعض الناس لتعرف من في أنفسنا من الصلاحية للاستبسال في خدمت المقاصد العالية بمعاهد الشرق

وكان في نيتي أن أطوي تلك الصفحات من هذا التقرير، ولكن دعاني إلى إثباتها ما عرفت من أن بعض المفسدين يريدون أن يجعلوا تلك الفاجعة نهاية الصلات الودية بين مصر والعراق

وأرجو أن تعرفوا أني لم أتلطف في سرد تلك الأسباب، ولم أضف إليها شيئاً يمليه الغرض في مراعاة مصر أو التحامل على العراق، وإنما وقفت موقف الرجل الأمين الذي يقدر المسئولية أمام الله وأمام التاريخ

وعند قراءة الفصول الخاص بتلك الفاجعة سترون أن الله قدر ولطف: فلم تكن تلك الحوادث إلا سحابة صيف، وقد تقشعت بفضل الله الكبير المتعال

لقد قلت ما قلت، وكتبت ما كتبت في الدفاع عن العراق، ومن الله وحده أنتظر حسن الجزاء. فمن كان له هوى في أن يصدني عن قول الحق فليمض في ضلاله كيف شاء، فما أنتظر العطف من أحد، وقد أقمت حياتي الأدبية على قواعد من الحديد

وما هذه الدنيا الصغيرة التي يتعادى فيها الناس بلا بينة ولا برهان؟

وما بال قوم يؤذونني وما قدمت إليهم غير الجميل؟ اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون

(مصر الجديدة)

زكي مبارك