مجلة الرسالة/العدد 299/ابنتي. . .!

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 299/ابنتي. . .!

ملاحظات: بتاريخ: 27 - 03 - 1939



للأستاذ محمد سعيد العريان

مرحباً يا عزيزتي الصغيرة!

هاأنتِ ذي يا ابنتي أمام عيني حقيقةً أراها وكنتِ حلماً من أحلامي!

وهأنذا ألقاك بعد صبرِ صابر وجهدٍ جاهد وطول تشوُّف وارتقاب؟

مالك مغمضةَ العينين أكثر ما تكونين يا ابنتي كأنما لا تجدين في دنياك الجديدة ما يغري على اليقظة والنظر؟

وما لك صامتةً أبداً فما تفتحين فمك إلا للبكاء كأنما تشعرين بالغربة في هذا العالم الجديد؟

وما لهذه اليدين والرجلين دائبات على الحركة أبداً كأنما تحاولين الفكاك من قيد غير منظور؟

أين كنتِ يا ابنتي؟ ومن أين جئتِ؟ والى أين المسير؟

أهذا يوم ميلادك يا ابنتي أم هو أول الطريق في مرحلةٍ بين مرحلتين من عالم مجهول إلى عالم مجهول؟

حدِّثيني حديثك عن دنياك التي كانت، ودنياك التي تكون؛ فأنت أقرب عهداً يا بنية إلى ما كان، وأصفى نفساً إلى تصوُّر ما يكون!

هأنذا أرى شفتيك تختلجان وأنت نائمة كأنما تهمسين بسرٍ في أُذُن!

وتبسمين أحياناً بسمات غامضة كأنما تستمعين إلى نحوي صامتة في دنيا الأحلام التي تصل جديدَك في هذا العالم بماضيك القريب في العالم المجهول!

وتعبسين أحياناً باكيةً بلا صوت ولا دموع كأنما لا يعنيك أن يسمع أحد أو يرى؛ لأن الذي تعنين أن يعلم بشكواك ليس خَلْقاً من الخلق ولكنه روح من روح الله؟

حدِّثيني ماذا ترين يا بُنيةُ في منامك وماذا تسمعين؟

مَنْذَا يسامرك يا ابنتي في أحلامك وما عرفتِ شيئاً بعدُ في دنيانا تؤلِّفين من أشتاته أقاصيصَ في أحلام!

ليتني أعرف ماذا كنتِ أمس؟ وماذا أنت اليوم؟ وماذا تكونين ونكونً في غد!

أطوار ثلاثة في تاريخ البشرية ليس في أيدينا من العلم بها إلا اليوم الذي نعيش فيه؛ أم أمس قبل أن نكون، وأما غدُ بعد أن نصير. . .!

من يدري، من يدري؟ إن هنا سرّ الأزل، وسرّ الأبد، وبرهان الخلود!

حياة بين حياتين، ليس لنا من العلم بأولاها إلا بطن الأم، وليس لنا من العلم بالأخرى إلا بطن الأرض، ونحن بين الحياتين في مضطرب مائج لا نكاد نحس إلا ما تقع عليه أعيننا وما تلمس أيدينا، وإننا على ذلك لنزعم أن لنا الحق في أن نتحدث عم قبل الحياة، وما وراء المادة في جدال السفيه ودعوى المغرور!

ابنتي طفلة في المهد لم تتجاوز من العمر في تاريخ البشرية إلا أياماً معدودة، ولكنها إلى ذلك كبيرة كبيرة في نفسي وفي أوهامي، إنها لم تولدْ أمس، ولكنها كانت في رحلة ثم آبت. إنها كبيرة كبيرة لأنها كانت تعيش في أحلامي منذ سنوات وسنوات. منذ أيقنت أنني يجب أن أكون أباً؟

هل كنتِ تسمعين نجواي يا بُنيتي من وراء حدود المجهول وقد جلست ذات مساء أهتف باسمك في دنيا الأماني متسائلا: أين أنتِ يا ابنتي؟ أين أنتَ يا ولدي؟ أين أنتِ يا زوجي التي لم أرها ولم أَعرفها بعد؟ أين أنتم يا أحبائي؟

. . . طفلةُ هي على حساب الزمن إن كانت سن الحي تُعَدُّ بالسنين والأيام؛ فكم تكون سنها على الحقيقة منذ كانت أمنيةً تتراءى لي في اليقظة وطيفاً يُلمُّ بي في الأحلام؟

صورة إنسان في بضعة أرطال من لحمٍ ملفّفة في طيات الفراش، ولكنها معي أينما كنتُ، أُطوِّف بها ما أُطوِّف في دنيا عريضة من الأماني والأوهام!

خرساء مالها بيانُ بعد، فإذا التقت عينان بعينين فإن بينها وبين نفسي حديثاً أفصحَ من حديث كل ذي شفةٍ ولسان!

طفلةُ هي إذا نظرتُ إليها في فراشها هادئة مستسلمة لا تقدر على الحركة؛ فإذا أغمضتُ عيني وسبحتُ فيما أسبح من آمالي فهي غير منْ هي: صبيّة تدرج، أو فتاة تخطر، أو عروس في جلوة العرس إلى ذراع عروس. . .!

تعالي إلي يا بنيتي أضمك إلى صدري؛ إنني أنا أبوك؛ أتراك تعرفين؟

هاتان عيناك الساجيتان تنظران إلي نظرات ليستْ من مثل ما تنظرين إلى أخي وابن عمي؛ برِّبك من علمك؟ انظري إلي يا ابنتي وأَطيلي النظر، إن في عينيك سرًّا يلهمني ما لم تلهمني مشاهد الدنيا جميعاً منذ كنت إلى يوم عرْفتك!

حدثيني حديثك الصامت يا عزيزتي لعلي استشفّ من وراء حديثك سرَّ المجهول؛ ما أنتِ؟ وأين أنت؟ وما كان ماضيكِ؟ وكيف تأملين أن يكون غدك. . أأنتِ هنا أم أنت هناك؟

. . . شمس تشرق وتغيب، وليل يطبق وينجلي، ورياح تعصف وتهدأ؛ وإنسان يعبس ويضحك، ومعدة تمتلئ وتفرغ، وقلب صافٍ صفاء الحق أو عابس عبوس الضلال، وعيون فيها بريق الشهوات أو فيها دموع الألم، ووجوه سافرة ووجوه عليها نقاب. . . هذه هي دنيانا أيتها الصغيرة، فما هي دنياك؟

أتراك تعرفين يا عزيزتي الصغيرة؟. . . ما أرى صمتك الطويل يا بنيتي إلا حذراً ورقبة حتى تعرفي ما أنتِ في دنياك الجديدة. . .! تُرى من أدبك هذا الأدب يا بنيتي؟

سائح جوّال رمتْ به الأقدار إلى وادٍ غير واديه؛ ودنيا غير دنياه، وعيش لم يعش مثله فيما استدبر من حياة؛ ماذا يقول وكيف يتحدث. . . أهكذا أنتِ في صمتك يا عزيزتي؟

هذه أمك يا صغيرتي لم تحمل ولم تلد قَبلُ؛ علِّميها الأمومة يا صغيرتي، إنها لم تكن تعرف. . .!

هاهي ذي حانيةُ عليك صابرة على ما تعاني من أوجاع الأمومة الأولى وإن في عينيها لبريقاً لم أر مثله فيما رأيتُ من عينيها قَبْل!

مغتبطة سعيدة أن تضمك إلى صدرها في حنان ورقة وإن بها من الآلام ما يذهل كل ذات ولد!

وهاتان شفتاك الصغيرتان تبحثان عن شئ هنا. . . مَنْ علّمك أيتها الصغيرة أن هنا أودع الله ما أودع ليكون لك شبعاً وريِّا؟

ورأيتك تلقمين ثديها مغمضة العينين تناول الخبير الفطن، فأحسنت الرضاعة، وما تحسن أمك أن ترضع!

يا عجبا! الطفل الصغير يعلم أمه الأمومة قبل أن تتعلم هي أن تكون أماً!

في كل مرأى عين منك يا صغيرتي درس يهديني ويلهمني!

هل أنت سعيدة بدنياك أيتها الصغيرة؟ هل تتألمين لشيء؟ هل تؤملين في شيء؟ هل وجدت الحياة كما علمك باريك الأعظم؟

من لي بأن أسمع جواب ما سألت! ولكن، لا، لا، حسبي الذي أرى؛ إنك أنت أنت لأنك لا تجيبين؛ إنك أنت أنت لأني لا أعرف من أنت؛ حسبي من العلم ما تلهمني نفسي؛ إن ذلك أعمق أثراً في جناني من كل بيان!

هذا جسمك ينمو كل يوم شيئاً شيئاً، وهذه حركاتك تقوى وتشتد، وهذا صراخك يتنوع نبره وتختلف أنغامه؛ وغداً - إن شاء الله سيكون لك غد - ستكبرين يا صغيرة حتى تبلغي ما تبلغين؛ وكم يلذني أن أتمثلك في خاطري صبيةً وفتاةً وسيدة كما آمل أن تكوني؛ ولكن شيئاً واحداً هو أغلى من كل ذلك آمل أن يظل معك صبية وفتاة وسيدة؛ هو قلب الطفلة، وابتسامة الطفلة، ونظرة الطفلة، و. . .، وصمت الطفلة حين تضج الحياة من حولك وتصطخب، ويلتمس كل سؤال جوابه. . .!

ولكن، آه. . . إن حكمة المقادير لتأبى. . .!

هكذا كنا جميعاً، وهكذا صرنا؛ وكانت لنا حياة أين منها الحياة التي نعيش اليوم!

عيشي لي يا ابنتي واسلمي، وكوني ما تكونين؛ فأنت أول من أبوت، وأنت أول من علمني معنى الحياة. . .!

. . . لماذا تبكين يا بنية؟ هأنذا على مقربة منك، تملين عليّ وأكتب؛ تعالي بين ذراعي، إنهما على ما إنهما، لألين مسا على جنبيك من هذا الفراش الوثير!

. . . تبكين لأني منصرف عنك منذ ساعات إلى أوراقي أكتب؟ من علمك هذه الغيرة يا بنية؟ إن فيك لطباع الأنثى وإن لم تكونيها بعد!

ابتسمي لأبيك أيتها الصغيرة؛ لا تبكي؛ إنني أنا أبوك؛ لقد تعلمت منذ الساعة ما أنا، وعرفت ما علي من واجب؛ إنني لك منذ الآن، لا يصرفني شأن من شئون الحياة عن هذا الواجب إلا أن يكون سعياً إلى ما يصلح من شأنك. . .

تعالي تعالي علميني! إنني أنا والدك ولكنك أنت ولدتني يوم ولدت لأنك أنشأتني خلقاً آخر من يومئذ. . .

تعالي، قبلي أباك!. . لا تعرفين؟. . هذه قبلتي على جبينك يا صغيرة تذكرينني بها إلى معاد؛ وإنها لدين إلى أجل لا بد أن اقتضيه يوماً من شفتيك! محمد سعيد العريان