مجلة الرسالة/العدد 298/في ذكرى يوم الاستقلال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 298/في ذكرى يوم الاستقلال

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 03 - 1939



إلى بلدي الحبيب

للأستاذ علي الطنطاوي

(في مثل هذا اليوم (8 مارس) ولد الاستقلال السوري. الذي

عاش عامين ثم مات في (ميسلون))

متى يا زمان الشؤم يعود بلدي كما برأه الله دار السلام ومعرض الجمال، ومثابة المجد والغنى والجلال؟ متى يرجع بَرَدى يصفق بالرحيق السلسل؟ متى تثوب الأطيار المروعة إلى أعشاشها التي هجرتها، ورغبت عنها حين سمعت المدافع ترميها بشواظها الحامي؟ متى تؤوب تلك الحمائم فتشدو على أفنان الغوطة تنشد أغنية السلام؟

متى؟ متى يا زمان الشؤم؟

أتظل الأشجار عارية في جنات الغوطة. لا تعلو هاماتها تيجان الزهر، ولا تتدلى أغصانها بعناقيد الثمر، لأن الزراع قد أغفلوها فلم يتعهدوها بالسقيا، ولم يجروا إليها بالماء؟ أتبقى هذه الحقول والجنائن جرداء قاحلة لأن الفلاحين انصرفوا عنها مستجيبين لنداء الوطن الجريح. الممزق الأوصال، مهطعين إلى داعي الجهاد حين أذن بهم: حي على خير العمل؟

متى؟ متى يا زمان الشؤم يستريح الشام (بلدي الحبيب)؟

ما رأيتك استرحت يا (بلدي الحبيب) ساعة واحدة، فهل كتب عليك أن تظل أبداً في تعب وعناء؟ إني لم أكد أتبين نور الحياة وأرى وجه الدنيا، حتى رأيت المدرس يدخل علينا (معشر الأطفال) مربد الوجه فزعاً مذعوراً. فسألنا: ماله. . . فقالوا لنا كلاماً لم نفهم له معنى، قالوا: إنها الحرب! ولكن إي حرب. . . إن المدرسة مفتوحة، والأسواق قائمة، والمدينة هادئة مطمئنة فأين هي هذه الحرب؟

قالوا: هي هناك في مكان بعيد. فضحكنا وقلنا: هل هناك أبعد من (الصالحية) أو (المزة) إننا لا نبلغها حتى نمشي ساعة على الأقدام، وليس فيها حرب، فأين هي هذه الحرب؟

وهزئنا ولبثنا نلعب ولكن الأيام أرتنا وا أسفاه هذه الحرب: رأيناها في أسواق دمشق، عندما شاهدنا القتال يدور فيها كل صباح من أجل رغيف من الخبز، والفرن مغلق ما فيه إلا كوة واحدة مفتوحة، يقوم عليها الخباز والجندي إلى جانبه، يدعو واحداً بعد واحد من هؤلاء الناس الذي سدوا الشارع بكثرتهم لا يطلبون صدقة ولا إحساناً، وإنما يطلبون الخبز بالذهب فلا يجدونه، وما شحت السماء بالقطر وما أجدبت الأرض، ولكن (حلفاءنا. . .) الألمان. استأثروا بأطايب القمح وتركوا لنا شر الحنطة وأخبث الشعير ثم يا ليت أنا وجدناه.

نعم، لقد رأينا (نحن الأطفال) الحرب في شوارع دمشق حين أبصرنا الرجال يأكلون قشور البطيخ، وينبشون المزابل من الجوع، ثم رأيناها أوضح وأظهر، حين لم نعد نبصر في الشام رجالاً لأن الرجال أكلتهم الحرب. . . ثم رأيناها أشد ظهوراً بطلعتها الكالحة القبيحة حين تعودنا مرأى جثث النساء والأطفال الذين ماتوا من الجوع، نراها كل صباح ومساء، في غدونا إلى المدرسة ورواحنا منها. . .

في وسط هذه المذبحة المرعبة، وخلال رائحة البارود، وعزيف المدافع، وإعوال اليتامى والثاكلات. . . نشأت وعرفت الحياة فرأيت (البلد الحبيب) نصفه مقبرة للأموات، ونصفه مستشفى لمن ينتظر الموت.

وفي ذات صباح أفقنا على قصف يزلزل البلد، ويهز الدنيا، فسألنا: ما الخبر؟ قالوا: البشارة. هذا مستودع الذخائر يتفجر ويحترق، لقد أباده الألمان قبل هزيمتهم، لقد انتهت الحرب، وانتهى حكم الظالمين من أحفاد جنكيز خان!. . . وبعد ساعة واحدة يصل الشريف.

قلنا: من الشريف؟ قالوا: فيصل بن الحسين، هيا هبوا لاستقباله، فنهضنا ولكنا لم نبادر إلى استقباله، وإنما بادرنا إلى الجيش المنهزم نذبحه! فلما فرغنا منه مسحنا أيدينا من دمه وعدنا نستقبل الشريف. . .

نسيت دمشق جوعها وتعبها، ونسيت نصف رجالها الذين ماتوا على شاطئ غاليبولي وعلى ضفاف الترعة في سبيل مصالح الألمان، ونسيت أحزانها على من عانقتهم حبال المشانق في ساحة المرجة في دمشق والبرج في بيروت، وتكلفت دمشق الابتسام بل لقد ابتسمت حقيقة لما رأت وجه فيصل، وذهبت تبتغي أن تنثر على موكبه من أزهار الغوطة جنة الدنيا، فلم تجد في الغوطة زهرة واحدة، لقد صيرتها الحرب قاعاً صفصفاً، فنثرت على موكبه أزهار القلوب: دموع الفرح، وهتاف المحبة وتصفيق الإعجاب وحيت لأول مرة العلم العربي الذي يرفرف اليوم فوق بغداد.

وأحبت دمشق فيصلاً أصدق الحب، كما أحبها فيصل، ووثبت ترقص من الطرب وتغني حتى كأن كل يوم من حكمه عيد وفي كل بقعة من الشام عرس، وفاض الخير وابتسم الزمان، وطغت الحماسة على الأفئدة، وعم البشر الوجوه، وولدت دمشق الأموية عاصمة الأرض مرة ثانية. . . وظننت أنك استرحت يا بلدي الحبيب!

ولكنا لم نلبث إلى قليلاً حتى سمعنا صوت النذير. . . ماذا؟ ماذا هناك؟ فقال: انهضوا دافعوا عن استقلالكم الوليد، لقد جاءت القوة العاتية تخنقه في مهده. . . فجن جنون دمشق، وعصفت النخوة في رؤوس بنيها، فلم يسمعوا قول فيصل الحكيم ولا أقوال العقلاء من صحابته، ولم تمض العشية وينبثق الفجر حتى كانت دمشق كلها في بقعة الشرف في (ميسلون) ولم يؤذن الظهر حتى رجعت دمشق من ميسلون وقد تركت فيها استقلالها الوليد وقائدها الشاب صريعين مجندلين على وجه الثرى، هذا قتيل شهيد، وذاك جريح مريض، وفقدت دمشق كل شيء، ولكنها لم تفقد الشرف، كما قال من قبل فرانسوا الأول ملك الأقوياء. . . الذين دخلوا دمشق دخول المنتصرين الفاتحين. . .

وعاد (بلدي الحبيب) إلى حياة الرعب والأسى والنضال. . .

ولكنه لم يخف ولم يجبن. لقد خسر في (ميسلون) ولكنه حفظ الدرس الذي ألقته عليه الحياة في ذلك اليوم، واستراحت دمشق حيناً ثم قفزت قفزة اللبؤة الغضبى، فإذا هي في العرين (في الغوطة الخضراء) وإذا الأقوياء بجيشهم كله وعتادهم يقفون أمام الثائرين، وهم بضع مئات يقودهم رجل أمي من دمشق كان خفيراً من خفراء الأحياء، فلا يستطيع الأقوياء الظفر بهم، فيعودون حنقين، فيسلطون نيران مدافعهم على المدينة الآمنة المطمئنة، فلا يروعها إلا جهنم قد فتحت أبوابها من فوقها، فيخرج أهلها من منازلهم تاركين كل ما فيها للنار، ويمسي المساء على دمشق وثلثها خرائب كخرائب بابل وقد كانت في الصباح أجمل وأبهى وأغنى قصور دمشق. . .

وتعيش دمشق سنتين وسط الرعب والنار والحديد، ثم يحل السلام وتخرج دمشق من المعركة وقد نجحت في الامتحان الثانوي في الغوطة، كما نجحت من قبل في الامتحان الابتدائي في ميسلون. .

وأحسب أنك استرحت يا (بلدي الحبيب)!

أحسب أنك استرحت، فإذا النار تسري في أحشائك، وإذا المعارك في أسواق دمشق. . . حول صناديق الانتخاب، الذي أراده الأقوياء صورياً وشكلياً، وأباه الشعب إلا انتخاباً حقيقياً، فلما لم يكن ما يريد الشعب حطم الصناديق، وهدم قاعات الانتخاب وانطلق ثائراً مرعداً مبرقاً، يهزأ بالحديد ويفتح صدره للبارود. . . وظفر الشعب، وكيف لا يظفر وقد امتحن مرتين. . .

فقلنا: قد استراح ولكنه لم يسترح وإنما دعي إلى الامتحان العالي، إلى النضال الصامت المرعب، فثبت وناضل، ولبثت دمشق خمسين يوماً كاملة، وهي مضربة ليس فيها حانوت خباز أو بقال، وليس فيها قهوة مفتوحة، ووقعت المعارك في الأسواق وعلى أبواب المسجد الأموي، فأقبل النساء بصدورهن على الرصاص، وهجم الأطفال على الدبابات، وعزمت دمشق عزماً ثابتاً على الموت أو الظفر، وعرف العدو أنها لن تُفل عزيمتها أبداً، ولن تلين قناتها فلانت قناته ودعاها إلى الصلح أو التحالف. . .

وهتفنا هذه المرة من أعماق القلوب: لقد استراحت (بلادنا العزيزة). وعادت أيام فيصل مرة ثانية، ودقت طبول البشائر وأديرت كؤوس الفرح، ورجعت الأعراس. . .

ولكن الأعراس لم تتم. . . لم تتم يا زمان الشؤم. . .!

هذا صوت النذير العريان، وهذه ألسن النيران، وهذا صوت البركان، فماذا يحمل إلينا الغد يا زمان، أي مصيبة جديدة يأتينا بها؟ أكتب علينا ألا نستريح ولا نهدأ أبداً؟

لا بأس يا زمن الشؤم، إننا نرحب بالمصائب فسقها إلينا، إننا بنو المجد والحرية والحياة، فلا أمتعنا الله بالحياة إن لم ننتزعها من بين فكي الموت انتزاعاً. . .

وستحيا أنت يا (بلدي الحبيب) ماجداً حراً ولو متنا نحن ماجدين أحرارا!

(بغداد)

علي الطنطاوي