مجلة الرسالة/العدد 298/رسالة الفن

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 298/رسالة الفن

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 03 - 1939



الأغاني المصرية

للفنان محمد السيد المويلحي

أعتقد أن أسمى اللغات قاطبة وأقربها إلى العقل والقلب، وأكثرها شيوعاً وانتشاراً في مسالك الأرض: هي الموسيقى وحدها لأنها لغة الطبيعة السهلة التي تجري على كل لسان لتعبر عن خوالجه، وتترجم إحساسه وتصور أمله وعقله، بل وتسجل مقدار ما يتمتع به من حضارة وسمو، أو ما هو عليه من انحطاط وخمول!

ولا أحب في هذا المقام أن أستشهد بأقوال حكماء العالم فإنها معروفة، وإنما أحب أن أركز هذه الأقوال جميعاً في جملة واحدة للحكيم الصيني (كونفوشيس) الذي قال: (أروني أغاني أمة من الأمم أركم مدى ما وصلت إليه من حضارة ورقي. .!).

وقبل أن أعرض مع القارئ مبلغ ما وصلت إليه (أغانينا) من حضارة ورقي أو انحطاط وهبوط، سأحاول - ما استطعت - أن أعطيه فكرة عن الأغاني في شيء من الإيجاز، فإن للإسهاب وقتاً آخر.

1 - الأغاني الوصفية: وتشمل الموسيقى المسرحية ومحاكاة ما تسمعه الأذن من التفاعيل الطبيعية.

2 - الأغاني الحماسية: وتستعمل في إشعال النفوس وتهيئتها لجو الحروب، والتضحية والفداء. . .

3 - الأغاني الشعبية: وتمتاز بلونها السهل الذي لا تركيب فيه ولا تعقيد.

4 - الأغاني الغزلية: وهي التي تترجم خلجات النفس وأماني الفؤاد، وتصوير ما يلاقي الإنسان في حبه من توفيق أو فشل، وأثر هذا التوفيق أو هذا الفشل في حياته وتفكيره. .

5 - الأغاني الصوفية: وهي التي يتداولها رجال (الذكر) ببراعة بارعة وقدرة قادرة على التصرف والخروج من نغم إلى نغم ومن مقام إلى مقام؛ ثم الرجوع إلى النغمة الأصلية والمقام الأول بسلامة ودقة.

6 - أغاني العمال: ويستعملونها لمساعدتهم على أعمالهم الشاقة واحتمال ما هم فيه من حاجة وضنى.

7 - أغاني الفرح: ويعبر بها الإنسان عن هناءته وسعادته وحبه لكل شيء جميل في الحياة. .

8 - أغاني الأطفال: وتستعملها الأمهات للتنبيه وللمناجاة، ولجلب النوم، ولإطفاء الغضب.

9 - أغاني الحيوانات: ويستعين بها الرعاة والحدأة على السيطرة على الحيوانات لتنتج أعظم إنتاج وأوفره. .

10 - أغاني النواح: وهي التي تجري لحناً حزيناً مؤثراً فتلهب العواطف، وتحرك القلوب، وتثير الدموع.

11 - أغاني المناسبات: وهي التي تغني في أوقات خاصة لمناسبات خاصة كأغاني رمضان، وأغاني الحج، وأغاني المواليد، وأغاني الزار. . . الخ.

12 - أغاني الكنيسة: وهي من أروع الموسيقى القديمة ولها لون يضفي على النفس إهاباً من السعادة والنور.

هذه بعض الأغاني التي تستعمل بعضها أكثر الشعوب استعمالاً يتفق وحضارتها أو تأخرها. فالشعوب الحية الناهضة تستعمل الأغاني الوصفية، والحماسية، والشعبية والخ، وقلما تلجأ للأغاني الغزلية إلا في القليل النادر، وفي البيئات المحدودة، ثم هي لا تعرف أغاني الحزن أو تعرفها ولكن لا تعزفها. .!

والشعوب (الرخوة) المتأخرة هي التي تفني نفسها في أغاني الحب وأغاني الحزن، وذلك لانعدام قدرتها على السيطرة على عواطفها، والتحكم في خوالجها فهي خاضعة لشهواتها، أسيرة لغرامها، لا تعرف من الحب إلا (آهاته وأناته. . .)!.

ولننظر الآن في أغانينا لنحكم بأنفسنا على مبلغ ما وصلنا إليه فيها. . .

إنها بلغت درجة الإسفاف والانحدار تأليفاً وتلحيناً وبخاصة في السنوات الأخيرة، حتى أن الشعب أصبح على رغم صيحات الإنكار وصرخات الاحتجاج التي يرسلها المصلحون الناقمون على هذا التبذل الرخيص والمشفقون على الوطن، وشباب الوطن من هذا (اللون) المسترخي البغيض الذي يشيع في كل كلمة وكل لحن والذي تتناقله الألسن إما إعجاباً، أو محاكاة، أو ترديداً لا أكثر ولا أقل. . .!

أقول إن الشعب برغم كل هذا لا يحرك ساكناً، ولا يرسل صيحاته وإعجابه إلا للمغنى الذي يبكي أمامه ويندب حظه وحبه ويبدي ذله ودموعه بشكل ضعيف سخيف، وإلا للمغنية التي تتأوه، وترثي حبها وحبيبها فتصف قلبها الذي أضناه البعاد، وحسنها الذي أذواه السهاد. . .

فإذا حاول مطرب بعد هذا أن يساهم في حركة الإصلاح فغنى مشيداً بتاريخ بلده العظيم، أو حاضاً على النهوض والوثوب أو مصوراً جلال الحضارة ورفعة المستقبل، لا يقابل إلا بالفتور.

فمن ذا الذي خدر أعصاب هذا الشعب، حتى غدا لا يستسيغ إلا الساقط المسترخي الذي لا يقوم على أساس ولا ينهض إلا على الأنين المدعى، والحنين المصطنع؟

من ذا الذي فرض تلك الأغاني التي لا فكرة فيها، ولا غرض منها إلا ابتذالها وانحلالها؟

للشهرة نصيب، وللجهل نصيب!

فقد انتهز بعض المشهورين بالنواح والبكاء فرصة هجعة الحياة المصرية ففرضوا (لونهم) على الشعب فرضاً، وسمموا حواسه وخدروها بالآهات المصطنعة، وبالأنات المفتعلة؛ ودأبوا طول هذه السنوات لا يغذونه إلا بهذا الغناء المسموم، ولا يسمعونه إلا موسيقى جافة ميتة، وإلا ألفاظاً ساقطة لا حياة فيها ولا فكرة تحييها، ولا غرض يسمو بها إلى أفاق المجد الذي تفيض به الأغاني الأجنبية حتى أصبحوا - الآن - حجاباً صفيقاً بين الشعب وبين نوابغه من الموسيقيين العباقرة الذين ظلمتهم الشهرة الطاغية، فوقفوا صامتين مقيدين لا تسمح لهم ضمائرهم بالهبوط إلى ذلك الدرك، ولا ترحمهم الحاجة الملحة إلى طلب القوت فترفع إليهم هذا الشعب الظالم نفسه وأهله.

لا أريد هنا أن أسمي بعض المطربين والمطربات، ولكنني أقول: إن بعضهم - وهم الذين يتحكمون في سوق الأغاني وفي سوق الإذاعة، وفي سوق التمثيل السينمي في هذا الوقت على الأقل - أقول إنهم قد اغتنوا واقتنوا ما يغنيهم عن استغلال أحط الغرائز الإنسانية التي لا تزال تتغذى منهم هذا الغذاء المجرم! ما الذي يمنعهم من أن يساهموا في هذه الطفرة المباركة التي ستنهض بالشعب عن طريق أغانيه؟ ما الذي يمنعهم من أن يتركوا البكاء ولعويل ويساهموا في رفعة الشعب فيعرضوا عليه ألواناً من الحماسة والشجاعة والوصف الطبيعي الجميل؟ إن تاريخنا مجيد سجدت له الدنيا، وإن حاضرنا عظيم بنفوس أبنائه وهمة ملكيه الشاب المفدى، فلم لا نخرج للدنيا ألحاناً خالدة خالية من الحب، والغدر، والهيام السقيم واللون الإفرنجي الذي يخالف ذوقنا وفننا كما أشار بذلك سيد لشباب وحفيد إسماعيل. . .؟

إن بلادنا غنية بجمالها وجلالها، وإن شمسها وقمرها وسهولها وزروعها ونخيلها ونيلها، لو اتخذت موضوعاً للوصف والغناء لكانت فتنة للقلب، وسحراً للسمع، وإشادة صادقة بجمال صادق فذ فريد!

إن الشعب كالعجين في أيدي الشعراء، والزجالين، والمطربين والمطربات. . . يتشكل بالشكل الذي يريده هؤلاء جميعاً فلم لا نهيئه للجو الذي نريده ويريده مثقفوه؟ ولم لا نضطره إلى قبول هذا اللون الجميل الجليل بل إلى حبه وهو الذي يقبل منهم التافه المنحل. . .؟

إن الذين طبعوه على البكاء يستطيعون - لو أخلصوا - أن يطبعوه على حب المجد والتضحية ومسايرة الشعوب الحية الناهضة القوية، وإن الذين صوروه في هيئة الرجل الذي لا يعرف إلا قلبه وحبه، يستطيعون أن يصوروه في هيئة الرجل لذي لا يعرف إلا مجد وطنه وفخر أمته.

إن محطة الإذاعة يقع عليها جزء كبير من هذه التبعة فلن نكتفي منها بمحو كلمات (الذل، والهجر، والغدر) من الأغاني، بل نطمع في مساعدتها ومساهمتها في هذا المشروع العظيم بكل ما تملك من سلطة وقوة. . . نطمع منها أن تمنع بتاتاً (أهازيج الغرام، وأدوار الهيام) وإن تشجع هؤلاء الذين يتقدمون إليها بأغانيهم القوية تشجيعاً يحفزهم على مواصلة عملهم والتقدم بفنهم إلى الأمام أبداً. . .

عيها أن تضرب (بالشهرة) عرض الحائط، وستجد من الشعب المثقف ومن الصحافة خير مشجع لها ومشيد بفضلها.

إن الأمر لن يكلفها إلا القليل من الجرأة والإيمان بعدالة هذه القضية فهي متعاقدة مع بعض كبار الملحنين فلتكلفهم بتلحين جديد لكلام جديد. . . فإن عجزوا فالمباريات لن تعجز والجيل الجديد من الموسيقيين لناشئين لمثقفين لن يعجز!

اعتقد أن وزارة المعارف وهي التي تشجع الفنون على اختلاف أنواعها لن تظن على الموسيقى بتشجيعها، وعلى رأسها وزيرها الأديب، ووكيلها لموسيقى بفطرته، ولذي يتمنى أن يرى الموسيقى قد أخذت مكانها الرفيع في التثقيف والتهذيب والتطريب القوي الذي لا انحدار فيه ولا استرخاء.

إن الوزارة لو اشتركت مع محطة الإذاعة في عمل مباريات تنظر فيها لجنة فنية من كبار الموسيقيين تكافأ بما يتناسب وجلال هذه المهمة لكنت خطوة موفقة، ولو كلفتهم الوزارة والمحطة بعمل قطع جديدة وكافأتهم مكافأة حسنة لكانت خطوة أكثر توفيقاً، وأكبر نجاحاً.

أيها الناس. . . لقد سئمنا الشهرة، وسئمنا هذا الاستغلال الذي يتنافر وشرف الفن، ومللنا هذا لبكاء المريض لذي لا يتفق وحضارتنا، وكبرياءنا.

نريد أن نحيا كما يحيا غيرنا. نريد أن نفخر بعزتنا، وبوطننا، وبملكينا الذي يود أن يسمو بالأغاني عن منطقة الدموع والشهوات والقلب والحب، والحسرات والزفرات. حتى لا يقال عنا إننا لا نعيش إلا لشهواتنا وقلبنا. . .!!

محمد السيد المويلحي