انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 298/بلادة أم اتزان؟

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 298/بلادة أم اتزان؟

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 03 - 1939



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

يجيء يوم في حياة الإنسان يرزق فيه البلادة المريحة، وأعني بالبلادة انتفاء الحدة والعنف فيما يساور النفس من شعور، ويدور بها من خوالج. فَمَطَةُ بوزٍ هي كل ما يبديه من أسف على فائت، وهزة كتف خفيفة لا تكاد تلمح هي ما يقابل به الحوادث الجسام، والبرود أو الجمود هو ما يتلقى به الغمز والطعن والتشهير، والابتسام هو كل ما يبدو من سروره.

زارني مرة صديق لا يزال على ارتفاع سنه فتى الروح يغلي في عروقه دم الشباب، ودفع إلي بصحيفة وقال وهو يشير بإصبعه إلى موضع فيها، وكأنه يشكه برمح: (ألا ترد على هذا؟) فرفعت رأسي إليه - فإن قامته مديدة، وأنا كما يعلم القراء، أو كما لا يعلمون، قميء صغير - وسألته: (ماذا؟) قال وهو ينتفض كأن به حمى: (هذا الشتم! هذه القباحة! هذه السفالة! هذه. . .)

فاستوقفته بإشارة وقلت: (حلمك! لقد شتمني بعضهم مرة في صحيفة كبيرة فقال عني إني (من فراش العار) وأضاف إلى زملائي جميعاً فقال عنا إننا (أبناء الزواني) فهل قال هذا - أشرت إلى الصحيفة التي ألقاها على مكتبي - شراً من ذاك؟)

فترك هذا وسألني: (ألم تقتله؟)

قلت: (يا سيدي لو كنت أعلم أنه خالد لحاولت قتله، ولكنه فانٍ مثلي، فلماذا أجشم نفسي عناء باطلاً، وأتكلف تحصيل الحاصل، وأتعاطى العبث والسخافة؟)

قال باشمئزاز: (هذه فلسفة لا أفهمها. . . هه. . . من ضربك على خدك. . .)

قلت: (لا ليست هذه فلسفة، وإنما هي بلادة، ثم إني لا أدير للضارب خدي الآخر، وكل ما في الأمر أني لا أحس ما ظنه الضارب لطمة لي على خدي. . .)

فصاح بي: (كيف لا تحس؟ أيقول عنك إنك من فراش العار، وإنك ابن زانية وتجيء وتزعم أنك لا تحس ولا تبالي؟)

قلت: (حلمك مرة أخرى. إني أعرف أني لست من فراش العار، وأني لست ابن زانية، فما يشتمني به لا يغير ما أعرفه. ثم إنك تتوهم أن الناس يصدقون كل ما يذم به بعضهم بعضا. وهذا غير صحيح. ولو أن الذي شتمني التزم القصد، وآثر الاعتدال فيما يرميني به لكان أخلق بأن يصدقه الناس ويقتنعوا، ولكنه أسرف واشتط فأفسد على نفسه مرامه، فكلامه في ينال منه ولا ينال مني. وقد أخجله ضني بنفسي على هذه الأوحال فاعتذر، فهل تدري ماذا قلت له؟)

قال: (لا أريد أن أسمع. يظهر أنك تحاول أن تقلد غاندي. . . المهاتما غاندي!) قالها بلهجة المتهكم الزاري

قلت: (ولا هذا أيضاً. إن غاندي حي - مثلك - ولكن أساليبكما مختلفة. أما أنا فأهون ما أقوله في نفسي أني أصبحت لا أطيق بعثرة القوة وتبديد الجهود في العبث الذي لا طائل تحته. أصبحت بخيلاً مقتراً أنفق حياتي بحساب دقيق، وأدخر كل ما يسعني ادخاره من القوة؛ وما زلت مسرفاً في إنفاق حياتي، ولكن في ما أحب أنا، وبإرادتي لا بالشعور الدافع. وإنه ليحلو لي أن أسمي هذه بلادة، ولكنه قد يكون اتزاناً، وصحة إدراك للقيمة الحقيقية للأشياء. ولا تخف. ستراني يوماً أنقض على خصم فأمزقه إرباً إرباً، فما نفدت قوتي، ولا فقدت القدرة على استطابة أكل اللحم البشري، وما زلت ذلك الوحش القديم الذي يلذه أن يمزق لحم الفريسة، وأن يلغ في دمها. وإذا رأيتني أسطو على أحد، وأكر عليه وأصميه، أو أعذبه تعذيب القط للفأرة، فاعلم أني أفعل ذلك بإرادتي، لأن شعوري غلبني، فما يغلبني شعوري في هذه الأيام. وعلمي بما أقدر عليه هو الذي يصدني عن هذه المهاترات الفارغة)

فقال: (لقد تغيرت جداً)

قلت: (إنك تذكرني بقول القائل:

وقد زعمت أني تغّيرت بعدها ... ومن ذا الذي يا عز لا يتغير؟

نعم من ذا الذي لا يتغير؟ حتى الحجر! ومع ذلك من يدري؟

لقد كنت في صدر حياتي مدرساً، وكان بعض التلاميذ يحاولون أن يعابثوني، فكنت آخذ عليهم طريق العبث وأكتفي بذلك، وأستغني عن الاحتياج إلى عقابهم، وكنت أزعم أن هذه حكمة، والواقع إني ما عاقبت تلميذاً قط، في عشر سنين زاولت فيها التعليم، وكان الذي بيني وبين تلاميذي عامراً كل هذا الزمن، ولكني كنت أدير عيني في نفسي وأفحصها، وأغوص في أعماقها، أتبين أني أكره العقاب الخفيف، وأنه لا يرضيني إلا أن تكون الضربة قاصمة للظهر، لأني بطبعي عنيف، ولما كان لا محل لضربة قاضية من أجل أن تلميذاً لاعبني أو مازحني، وهو لا يريد شراً، وإنما تغريه بذلك طبيعة الصبي، فقد كنت أكبح نفسي وأردها عن الأذى، وأعمل بقول الشاعر:

توقى الداء خير من تصدٍ ... لأيسره وإن قرب الطبيب

نعم تغيرت، بمعنى أن بعض الطباع التي كانت تظهر وتخفى فيما مضى، صارت أبرز وأقوى، فهي الآن السمة الغالبة والطابع الملحوظ.

هذه خلاصة ما حدثت به صديقي، وقد قلت له كلاماً آخر كثيراً، نسيته، فقد طال بيننا الحوار، وتركني وهو غير مقتنع بصوابي، فلم أحفل بذلك. وماذا يضرني ألا يقتنع؟ ولماذا أكلف نفسي تعب إقناعه؟ أنا الذي جربت مراراً كيف يخيب الأمل، ويذهب المسعى سدى؟

وأويت إلى مكتبي في الليل، بعد أن نام البيت، وأعفيت من ضجة الأطفال وأخرست لسان الراديو الصاخب. . . وعلى ذكر الراديو أقول أن بني مثلي، يأكلون على ضوضاء الراديو، ويراجعون دروسهم على ضجات الراديو، ولا يبدو عليهم أنهم يسمعون ما يصيح به، أو يبالونه، ومن شابه أباه فما ظلم، وإني لأرجو أن يظلوا مثلي، وألا يكترثوا لمن عسى أن يسبهم ويزعمهم (من فراش العار) - في حوار أدبي أو جدل سياسي - ما علينا.

سألت نفسي لما خلوت بها: (أهذا الذي صرت إليه اتزان أم بلادة؟ وصحة إدراك للقيمة الحقيقية للأشياء، أم فتور حتى عن محاولة الإدراك؟ وهل النار كامنة تحت هذا الرماد، أم هي خمدت وأنت تحسبها لا تحتاج إلى أكثر من التقليب؟ وهل يشي هذا بالقوة، أو يشي بالضعف؟ ومن اليأس هذا، أم من العلم والفهم الصحيح؟ وحال تدوم، أم عارض يزول؟

وطال تفكيري في جواب هذه المسائل، ولم أنته إلى شيء تسكن إليه النفس، فنهضت وأنا أقول: (ولماذا أعني نفسي بهذه المتعبات؟ وماذا أبالي على كل حال سواء أكان الأمر هكذا أم كذلك؟)

وأعجبتني (لا أبالي) هذه، فقد صارت عندي مخرجاً من كل ورطة، وباباً لتفريج كل أزمة في النفس. ومن كان يسعه أن يقول - ويكون على نحو ما يقول - (لا أبالي) فقد أوتي الراحة، ولا أقول السعادة فإنها خرافة.

إبراهيم عبد القادر المازني