مجلة الرسالة/العدد 297/عياش بن أبي ربيعة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 297/عياش بن أبي ربيعة

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 03 - 1939



لِلأستاذ كامل محمود حبيب

(يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم، لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم. وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون. واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون).

(قرآن كريم)

الليل ساج والحياة نائمة، وعّياش في طريقه يتسلل في رقبة وحذر، وقلبه يضطرب خشية القوم أن يستشعروا فراره فيجلبوا عليه وهو يرد أن يفزع بدينه إلى المدينة. .

إلى حيث يجد الحرية والأمان. لقد كان - هو في طريقه - ينظر إلى الوراء، بين الفينة والفينة، يودع ملاعب الطفولة ومراتع الشباب للمرة الثانية، والعبرات تترقرق في محجريه، غير أنه ما كان ليأسى على شيء في مكة وفي قلبه الإيمان والصبر إلاّ على أن حُرم استجلاء النور الإلهي من طلعة النبي ، وإلا على فراق أمه وقد تعلق بها قلبه فما ينصرف عنها، وإلا على مال كثير خلّفه هناك كان يطمع ن يشد به عصبه؛ ولكن خياله كن يوحي إليه أن رفيقيه - عمر بن الخطاب وهشام بن العاص - ينتظران عند التَّنَاضُب من أَضَاةِ بنيِ غفار فوق سَرِف على أميال من مكة، فهو يهفو إليهما في غير أناة ولا تردد

وبلغ الفتى المكان فاطمأن قلبه أَنْ ألفى عمر بن الخطاب هناك يتشوفّ. . . وتنفس الصبح ولّما يبدُ هشام عند الأفق، فانطلقا معاً. . . ونزلا المدينة ينعمان بالحياة والإيمان لا يجدان من الضيق والعنت بعض ما كانا يجدان في مكة

وتناهى خبر عيَّاش إلى القوم من بني مخزوم فَغَدَوْا إلى أبي جهل والحارث يعيرونهما ويحثونهما: (أفَيَفرّ الرجل من بينكما ثانية ليكون لكما - على الدهر - عاراً وسُبَّة)، وأبو جهل يتلهّب من الغيظ والحقد وقد انطوت نفسه على أمر، والحارث إلى جانبه يقول: (وماذا عسانا أن نفعل في سفيه فَرّ مع سفهاء مثله؟) وثارت الحّمية حمية الجاهلية في رأس أبي جهل تستلبه الهدوء والاستقرار، والشيطان من ورائه يدفعه إلى أمر، فراح إلى الحارث يحدثه حديثه وحديث الشيطان في وقت معاً. . . ثم انطلقا معاً صوب المدينة. . .

وجلس أبو جهل والحارث إلى أخيهما عياش يترفقان معه في الحديث، ويدخلان إلى قلبه بفنون من الكلام، فاستعصى عليهما؛ غير أن أبا جهل لم يكن رجلاً تزَعه الكلمات عن غايته أو تثنيه عن قصده، فيرتد خائباً مخذولاً؛ فراح يقلب الرأي في خاطره، ويتلمس الحلية من شيطانه، ثم. . . ثم قال: (يا أخي، إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك!) ورأى عمر بعض ما بدى على عياش من رقة واستخذاء حين سمع ذكر أمه، وخيل إليه أن الرجل يلقي إلى أخويه السَّلم فيذهب ضحية المكر والخديعة، فقال: (يا عيَّاش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت) ولكن الشيطان كان قد عدا على الرجل فاستلبه الثبات، فقال: (أبِرُّ قسم أمي، ولي هنالك مال فآخذه) فقال عمر: (والله إنك لتعلم أني لمنّ أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما) غير أن الرجل كان قد وقع في حبالة أخويه حين صوّر له شيطانه أمه في الهاجرة شعثاء غبراء تندب ولدها وتؤذي نفسها، فأبى إلا أن يصحب أخويه، وعمر به ضنين. وعجز عمر عن أن يدفع الرجل عن الهاوية التي يوشك أن يتردى فيها، فقال له وهو يهم بالرحلة: (يا عياش، أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رَابَك من القوم رَيْبٌ فانجُ عليها) ثم. . . ثم وقف ينظر إلى الاخوة الثلاثة حتى غَيَّبتهم البيداء في أحشائها فرجع وفي نفسه الأسى والحزن، وقلبه يحدثه حديثاً. . .

وانطلق عياش بين أخويه، وأبو جهل يختلس النظرات - بين الحين والحين - إلى ناقة عمر وهي تخد بأخيه وخداً سريعاً، وقد حمل لها كرهاً حين لم يستطع أن يحول بين عياش وبينها، وحين عجز عن أن ينالها بسوء، ثم لمعت في رأسه خاطرة ابتسم لها، وأشار إلى أخيه الحارث ينذره بأمر، ثم راح إلى عيَّاش يحدثه: (والله يا أخي لقد استغلظتُ بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟) فقال عياّش وقد أمن مكر أخيه: (بلى، يا أخي!) فأناخ وأناخا ليتحوّل إليها، فلما اسْتَوَوْا بالأرض عَدَوَا عليه فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة نهاراً وعلى وجهيهما سمات الفرح والسرور يباهيان أهل مكة بما كان، ويقولان: (يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا) ثم فتناه فافتتن أفحقاً قد افتتن الرجل وارتد عن دين الله واطمأن إلى الكفر، وسكن إلى الجاهلية، واستحب العمى، بعد إذ ذاق حلاوة الإيمان، ووجد في قلبه برد الإسلام، وعاش زماناً بين اخوة من المؤمنين يستروح منهم نسمات الحب والإخلاص وهو في الحبشة حيناً وفي المدينة حيناً، لا يستشعر مرارة الفراق ولا لذع الغربة؟ إن صُبابة من الإيمان ما تزال تتوثب في قلبه، غير أنه خشي أن ينطلق إلى النبي يستغفره فلا يتقبّل منه، وهو كان يسمع صحابته يقولون: (ما الله بقابلٍ ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة. قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر كبلاء أصابهم) فيرتد على عقبيه وفي نفسه الحسرة والشجن. . . ثم لبث في قومه سنين

وترامى إلى الرجل أن النبي هاجر من مكة في رفقة صديقه أبي بكر فنازعته نفسه إليه تدفعه أن يلحق به ولكن. . .

وتصرمت أعوام وعَيّاش في حيرة من أمره، ما يستطيع أن ينزل عند رأي أخويه فيغتمر في الكفر فيجحد ما أنزل الله على رسوله ، وما هو بقادر على أن يطير إلى المدينة، وحديث رفاقه ما يبرح يدوّي في أذنيه، وعمر هناك في المدينة أسيف على أن يرتد رفيقه عن دينه، وعلى أن يتلمس إليه الطريق عَلَّه يجد الوسيلة إلى قلبه فلا يستطيعه

وأنزل الله تعالى (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم) ووجد عمر فيما أنزل الله متنفساً فانطلق إلى قرطاس يسطّر عليه الآيات الكريمة ويبعث بها إلى صديقه. . .

وأقبلت الرسالة تنفح من عبيرها على قلب الرجل فاضطرب لها ولمّا يفضّ مغاليقها؛ وتاقت نفسه إلى أن يطمئن إليها ساعة من زمان يحدثها وتحدثه، غير أنه لم يكن ليجد الخلوة. . . وعلى حين غفلة من أهله دلف إلى ذي طوًى بأسفل مكة ينشر الرسالة على عينيه وقد أمن الرقيب، ثم راح يصعّد بها فيه ويصوّب فلا يفهم منها حرفاً، وبدت الكلمات أمامهُ عقداً أعيت عليه. ماذا؟ لقد استغلق عليه الكلام العربي المبين وهو عربي في الصميم والذروة من العرب! فأخذ يقلّب الصحيفة بين يديه وقد سيطر عليه الحزن والأسى، ثم أُلقي في روعه أن حجاباً كثيفاً أسدل بينه وبين أن يفهم كلام لله لأنه نجَس، فأقبل على الله بقلب سليم يسأله: (اللهم فهِّمْنيها) فألقى الله في قلبه أنها إنما نزلت فيه وفي من هم على شاكلته وفيمن كانوا لأنفسهم ويقال فيهم، فرجع إلى بعيره فجلس عليه ولحق برسول وهو يستبشر بما غفر الله له

وعملت الآيات الكريمة معجزتها في الرجل لتجذبه من هاوية كاد يتردى فيها ما لها من قرار، إلا أن يستقر في الدرك الأسفل من النار

كامل محمود حبيب