مجلة الرسالة/العدد 296/رسالة العلم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 296/رسالة العلم

ملاحظات: بتاريخ: 06 - 03 - 1939



رسالة من العوالم البعيدة

تنبئنا أن الكون ينتشر

أحدث ما نعرف في علم الفلك

للدكتور محمد محمود غالي

فكرة النسبية لأينشتاين توحي بتمدد الكون - نبوءات العالم

(دي سيتر) بوجوب ظهور الأجرام البعيدة كأنها تبتعد عنا -

هذا الابتعاد حقيقي بخلاف ما يعتقد (دي سيتر) - الطيف خير

رسالة من النجوم لإثبات ذلك - رسالة العوالم تنبئنا بابتعادها

كلها عنا، وأننا أبناء كون يمتد.

ترى ما هي هذه الرسالة من العوالم البعيدة؟ وترى كيف يكبر الكون ولماذا؟ وكيف توصل العلماء إلى اكتشاف ذلك؟ وهل يعد الاكتشاف من الأمور النظرية، أو أن خطوات العلم التجريبي تدل على ذلك؟. . . هذا ما نحاول أن نتناوله في هذه الأسطر، فنبحث موضوعاً جديداً، لا تبعد نتائجه التجريبية الأولى عن عشر سنوات، وإن رجع البحث النظري فيه لأكثر من عشرين عاماً.

وتعد نشرات السير أرثر أدنجتون أستاذ الفلك في جامعة كمبردج، وكتابه (العالم ينتشر) الذي ترجمه للفرنسية مسيو روسينيون من أهم المراجع في هذا الموضوع. كذلك محاضرته التي ألقاها في المؤتمر الدولي للفلك المنعقد في كمبردج سنة 1932 والتي أتبعها بسلسلة محاضرات في الراديو بأمريكا.

لم يعن الجمهور في الممالك المختلفة بنظريات إينشتاين في النسبية، التي تنبأ فيها بتقوس الأشعة الضوئية التي تصل لنا من الأجرام السماوية، إلا بعد التجارب الشهيرة التي قامت بها الهيئات العلمية المختلفة أثناء كسوف الشمس في سنة 1919، هذه التجارب التي أثبتت نبوءة أينشتاين، وجعلت من نظريته مثاراً لحديث الناس عامة. على أنه إذا كان هذا حظ الجمهور من الاهتمام فقد عنى كثير من العلماء بنظرياته قبل ذلك التاريخ، ففي نوفمبر سنة 1917 أي بعد مرور عامين من نشرات أينشتاين عن (النسبية في وضعها العام)، نشر العالم (دى سيتر) بحثاً عن أثر نظرية أينشتاين في الناحية الفلكية. ونرى في هذا البحث لأول مرة أن الأجرام السماوية البعيدة يجب أن تعطينا على الأقل فكرة الابتعاد عنا، ولم يؤكد (دى سيتر) هذا الرأي بطريقة جازمة، وكان عمله من قبيل توقع ظاهرة يغلب على الظن ملاحظتها.

وظلت فكرة (دي سيتر) الجديدة في مفترق الطرق تفتقر للإثبات التجريبي بحيث إذا أيدت أرصاد الفلكيين هذا الابتعاد ثبتت صحة الطريق النظري الذي اختطه (دي سيتر)

ومن المدهش أن يتوصل الفلكيون بعد ذلك، لا إلى إثبات تحقق نبوءات (دي سيتر) فحسب، بل إلى أن هذا الابتعاد حقيقة واقعة، وأنه يتغير مع المسافة وفق قانون خاص. وبعبارة أخرى توصل العلماء لاكتشاف يُعد أكثر أهمية مما كان يتوقعه (دي سيتر). لندع الآن جانبا النظريات لنتكلم عن الطرق التجريبية التي أثبتت تمدد الكون واتساعه

ذكرنا أن السُّدم اللولبية هي أبعد ما نعرف من عوالم في الكون. وتقع السدم التي أمكن رؤيتها على مسافات تختلف من 1 إلى 150 مليون سنة ضوئية. ويجمل بنا أن نذكر أن السنة الضوئية هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة، بمعنى أنه لو تصورنا قاطرة تستطيع أن تدور حول الكرة الأرضية سبع مرات في الثانية الواحدة، فإنها تستغرق 150 مليون سنة لتسير من أحد تلك السدم حتى الأرض

هذه السدم المتباعدة منتشرة في الحيز الواحد بعد الآخر.

كل منها يكون عالماً كعالم المجرة الذي يحوي ملايين الكواكب التي تعد شمسنا واحداً منها، ولا حاجة بنا إلى أن نذكر مرة أخرى أنه إذا كان المجرة عالماً واحداً مكوناً من حوالي مائة ألف مليون نجم فإن مجموع العوالم الأخرى التي تشبهه تبلغ مثل هذا العدد

هذه العوالم المتباعدة الواحد منها عن الآخر لا نستطيع، عند التفكير فيها، أن نفصل فكرة الفراغ واتساعه عن فكرة الزمن والتطور، ولكن ندع فكرة تكوينها لنشرح الطريقة التي علمنا بها سرعة ابتعادها ونبدأ بكلمة موجزة عن التحليل الطَّيْفي لعلاقته بهذا الموضوع. كلنا يعرف أن الضوء إذا وقع على منشور، كحافة مرآة مشطوفة، يتحلل إلى ألوانه العديدة التي نميز منها بالعين السبعة الألوان المعروفة، من البنفسجي إلى الأحمر؛ كذلك نعرف أن لكل مادة طيف إشعاع يميزها عن غيرها، فالهيدروجين والصوديوم مثلاً لهما خطوط معينة يتميزان بها في الطيف، كما أن لكل مادة خطوطاً أخرى، وعلى هذا يدلنا التحليل الطيفي للأشعة الآتية من الشمس أو النجوم عن العناصر الموجودة بها، وهكذا أثبت العلماء أن كل العناصر الموجودة في الأرض موجودة أيضاً في الشمس.

ويجد القارئ في الشكل (1) ست صور لأطياف مواد مختلفة. بعد أن نسلط عليها قوساً كهربائياً. والطيف الأول من أعلى الشكل خاص بالزئبق عند أول تكوين القوس، والثاني خاص به ولكن بعد أن توازنت حالة الإشعاع في الزئبق، أي بعد مرور فترة على تكوين القوس، والطيفان الثالث والرابع خاصان بنفس الظاهرة للصوديوم، والطيفان الأخيران، الأول للهيدروجين عند احتراقه بمرور شرارة فيه، والثاني للبوتاسيوم عند تسليط القوس عليه.

ومما يجدر ذكره أن المصابيح المستعملة في إنارة بعض ميادين العصمة والإسكندرية، كالمحطة وجوار معبر قصر النيل، تضاء بهذه الطريقة أي باستعمال الزئبق الذي يعطي هذا اللون الجميل المائل للزرقة أو استعمال الصوديوم الذي يعطي لوناً مائلاً إلى الاصفرار، على أن هذا النوع من الضوء يقع في الجزء الحساس من العين؛ لذلك ولأسباب أخرى، تُعد هذه المصابيح أكثر اقتصاداً من المصابيح المعروفة

وهكذا لكل مادة طيف خاص بها يميزها عن غيرها من المواد؛ على أنه يشترط لكي تبقى هذه الخطوط الطيفية في مواضع معينة وثابتة، أن يكون الجسم مصدر الطيف ثابتاً بالنسبة لنا، وكما أننا نستطيع أن نعرف درجة ابتعاد قاطرة عنا من سماع وتسجيل صفيرها، كذلك يمكن بدراسة خاصة بالتحليل الطَّيْفي أن نعرف إذا كان النجم يبتعد أو يقترب منا، كما نعرف سرعة ابتعاده، ذلك أن الخطوط الطَّيْفَّية تقترب من جهة الطيف الأحمر إذا كان النجم يبتعد عنا، أو من الجهة الأخرى إذا كان النجم يقترب منا، وعلى قدر اقترابها من أحد الطرفين نعرف سرعة ابتعاد النجم أو اقترابه والشكل (2) مثال من هذا الطيف الذي يسمح بالحصول على تقدير هذه السرعات الكبيرة، والأشكال التي تبدو في الصورة كالطوربيد، هي طيف لسدم مختلفة، مأخوذ فوق الطيف الأرضي العادي، وترى أنه كلما نزلنا في اللوحة مالت خطوط معينة في الطوربيد إلى الجهة اليمنى، وتختلف سرعة هذه السدم الواحد عن الآخر فالطيف الأعلى يمثل ضوء السماء والسديم الأول وهو الذي يليه يقترب بسرعة 185 كيلو متراً في الثانية والثاني يبتعد بسرعة 385 كيلو متراً والثالث والرابع بسرعة 4900 كيلو مترا و 4884 كيلو مترا على التوالي والخامس بسرعة 19700

وأول من قام بعمل هذا النوع من التجارب هو الأستاذ سلفر مرصد لويل

هذا عن تعيين سرعة السدم وبقي أن نشرح الطريقة لمعرفة بعدها عنا

من الممكن أن نرى في العوالم الحلزونية القريبة بعض النجوم الكبيرة المنفردة عندما تفوق هذه النجوم الشمس في حجمها وضوئها مئات أو آلاف المرات، ومن حسن الحظ تتغير شدة إضاءة طائفة من هذه النجوم من وقت لآخر وتسمى هذه النجوم التي يتغير ضوءها ويحدث توهجها، الذي يقع في فترات متتابعة ومتساوية، من نبض حقيقي للنجم أو تغير في حالته الطبيعية؛ وتختلف هذه الفترات من بضع ساعات لبضعة أسابيع، حسب حجم هذه النجوم وقوة توهجها

وكما أن الأطباء يحاولون بدراسات جديدة تمييز الجنين في بطن أمه إن كان ذكراً أو أنثى، من عدد ضربات قلبه، فقد وجد العلماء أن هذه الفترات تدل على حالة النجم. وقد أثبتت الملاحظات أن النجوم التي لها نفس الفترة لها نفس الخواص الأخرى كالحجم والتوهج والنموذج الطيفي، وعليه فالفترة التي يمكن أن نقيسها بسهولة بساعاتنا الأرضية تعين درجة توهج النجم؛ فإذا عرفنا أن نجماً من النجوم توهجه يختلف مرة كل عشرة أيام، كان سطوع هذا النجم يماثل 950 مرة قدر سطوع الشمس. وتنحصر المسألة بعد ذلك في معرفة المسافة التي يوجد عليها نجم عرفنا درجة توهجه، ونعرف أن حجمه الظاهري لنا النقطة التي نراها.

من هنا عرف العلماء مسافة هذه النجوم البعيدة، وبالتبع مسافة العالم الذي يحويه

وهكذا أصبحنا نعرف مسافة هذه النجوم المتغيرة، معتبرة وحدة للقياس، كما نعرف مسافة شمعة معتبرة وحدة للقياس من درجة توهجها الظاهرة

وقد اكتشف الدكتور هبل من مرصد جبل ولسون بأمريكا نجوماً من هذا النوع في ثلاثة من أقرب السدم الحلزونية وحدد أبعادهم بالطريقة السالفة - هذه الطريقة التي صعب على هذا العالم تطبيقها للسدم البعيدة؛ فاضطر إلى الالتجاء لطريقة أخرى يعتد بها فريق من العلماء، ولا مجال لشرحها هنا.

وها نحن نسرد النتائج الفعلية لهذه الأبحاث

أولاً: أن سرعة ابتعاد السدم تفوق كثيراً السرعة التي تسير بها النجوم في أفلاكها داخل هذه السدم

ثانياً: هذه السرعة للسدم تزداد بازدياد المسافة التي تفصلنا عنها

ثالثاً: تبتعد جميع السدم عنا بسرعات كبيرة جداً

صحيح أنه دل امتحان 90 سديماً، في بادئ الأمر، على اقتراب الخمسة السدم الأولى منا بسرعة بطيئة، ولكن يعتقد السير أدنجتون أن هذا الاقتراب اقتراب ظاهري، ذلك أن الباحثين لم ينسبوا سرعة هذه السدم للمجرة كمجموعة، إنما نسبوها لمجموعتنا الشمسية، وباعتبار أن الشمس تسير حول مركز المجرة بسرعة تختلف من 200 إلى 300 كيلو متر في الثانية، فإن هذا الاعتبار الأخير يصحح معرفتنا الحقيقية عن هذه السدم الخمسة التي يثبت بعد ذلك ابتعادها.

ويحسن أن نطلع القارئ على درجة سرعة ابتعاد السدم عنا، فبينما تختلف سرعة النجوم في أفلاكها من 10 إلى 50 كيلو متراً في الثانية، إذ تختلف سرعة السدم في الأربعين سديماً القريبة منا كما بين ذلك (سلفر) من 800 كيلو متر في الثانية إلى 1800، هذا وقد اكتشف (هاماسون) من مرصد مونت ولسن بأمريكا أن السرعة تزداد بعد ذلك كثيراً للسدم البعيدة ففي جهة التوأمين يُرى سديم يبتعد عنا بسرعة 25 ألف كيلو متر في الثانية، ويبعد عنا بنحو 150 مليون سنة ضوئية. ولا شك أنهم سيكشفون الآن سُدُماً أبعد من هذا، وذلك بعد أن تم وضع المنظار الجديد في مرصد جبل ولسون، ذلك المنظار الذي كان له الفضل في كشف القمرين الجديدين للمشتري كما ذكرنا في مقال سابق

ولقد كان لهبل في سنة 1929 الفضل في اكتشاف تناسب سرعة السديم مع بعده، وهذا مطابق لنظرية إينشتاين، ولو أن (دي ستر) ظن بادئ الأمر أن السرعة تتناسب مع مربع المسافة، إلا أنه اتضح له خطأ هذا الحساب فيما بعد

وتزيد السرعة وفق تجارب هبل 500 كيلو متر في الثانية لكل سديم يبعد عنا بثلاثة ملايين سنة ضوئية تقريباً، وعلى هذا فالسديم الذي يبعد 30 مليون سنة ضوئية يبعد عنا بسرعة تقرب من 5000 كيلو متر في الثانية أي يبعد عنا مسافة كالتي تفصل أمريكا عن أوربا، ويكفي أن نصل إلى مسافة تقدر بمائة وخمسين مليون سنة ضوئية لتكون سرعة ابتعاد السديم عنا 25000 كيلو متر في الثانية

هذا هو الكون، كل عالم يبتعد فيه عن الآخر، وقد يأتي وقت تبتعد فيه كل العوالم، فلا يبقى للأحياء عالم ليروه، اللهم إلا إن تقدم المنظار الفلكي بقدر ابتعاد هذه العوالم. وقد أثبت الحساب كما يقول أدنجتون، أن على راصد السدم أن يزيد فتحة منظاره بقدر الضعف كل 1300 مليون سنة، وعلى الذين يعتقدون دوام الجنس البشري ملايين السنين، لنعرف كل مالا نعرفه اليوم أن يُعَجلوا بدراسة موضوع غير قابل للتأجيل

هذا رأي جديد في العوالم المحيطة بنا، والكون الذي نحن بعض أفراده. ولنا أن نتساءل: لماذا تبتعد عنا كل العوالم كأنها جميعاً أعداؤنا، لا صديق بينها يقترب منا؟ هل هناك سر وسبب لهذا الابتعاد؟ وترى ماذا شكل الكون وفق الظواهر المتقدمة؟ هذا ما أتركه للقارئ يتأمل فيه ليجد الجواب عليه، إذ أن هناك صورة واحدة محتملة لكون له خاصيتان: الأولى أن كل عالم فيه يبتعد عن الآخر. والثانية أنه كلما كان العالم بعيداً بالنسبة لعالم آخر زادت السرعة التي يبتعد بها هذا العالم عنه.

هذه الصورة للكون وفق أحدث الآراء نطلب من القارئ أن يحاول تصورها، فإن لم يهتد فسنحاول أن ندله عليها في المقال القادم؛ وسنرى أنه إذا كان أغرب القضايا العلمية هي أننا أبناء كون يمتد ويتسع، فأغرب من ذلك أننا سنرى أننا أبناء كون محدود.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم. دبلوم المهندسخانة