مجلة الرسالة/العدد 293/على هامش الفلسفة
مجلة الرسالة/العدد 293/على هامش الفلسفة
الحقائق الأخلاقية
للأستاذ محمد يوسف موسى
مدرس الأخلاق بكلية أصول الدين
ليس من الحق برغم ما سقناه في الكلمة السابقة من الشواهد على اختلاف الآراء والأفكار الأخلاقية تبعاً لاختلاف الأمم والشعوب والزمان والمكان - ليس من الحق مع هذا كله أن ننكر أن هناك حقائق أخلاقية عامة سايرت العُصُر وسادت في جميع البيئات.
ذلك أنه من السهل أن نلاحظ أن الناس على ما بينهم من اختلاف مرجعه الجنس والبيئة والزمن يمتثلون لما يعتقدونه واجباً على أوجه مختلفة، وقد تتباين كما رأينا أحياناً؛ ولكنهم جميعاً يقبلون في قرارة أنفسهم فكرة الواجب ويعتقدون أن بعض الأعمال أعلى خلقياً من البعض الآخر. الكل يعلم أنه يوجد خير وشر، ويحس الاحترام لبعض الناس والاحتقار لآخرين. الرجل الساذج في أفريقيا وأستراليا في خضوعه لتقاليده العجيبة وعده ذلك واجباً، والمجرم الذي لا يخلف ما وعد بعمله من مآثم ومناكر، والذي يرى نفسه ملزماً من نفسه بعدم خيانة عصابته؛ أولئك جميعهاً عندهم خلقية مشابهة في صورتها لا في مادتها ومحتواها لخلقية الرجل الفاضل من هذه الناحية، مادام الجميع يرون القيام بالواجب أمراً مقضياً. ليس علينا إلا إثارة عقول هؤلاء المساكين الذين يخضعون هذا الخضوع الأعمى لتلك التقاليد الظالمة، وتفهيمهم أي الأعمال تعتبر واجبات يجب أن يقوموا بها ويعدوا تنفيذها أمراً إلزامياً. هذا التحقق وهو أنه يوجد لدى جميع الناس بلا استثناء منذ ابتدءوا يفكرون ويعملون نظريات وعواطف أخلاقية، يجيز لنا أن نصف فكرة الواجب والخضوع له وعدِّ من يقوم به خيِّراً بأنها حقيقة أخلاقية عامة. ثم على رغم هذا الاختلاف الذي لا ريب فيه بين ما يسمى واجباً هنا وواجباً هناك، ليس من النادر أن نلاحظ تماثلاً بين بعض النظريات الأخلاقية لدى جميع الناس. إنه من العسير بل من المستحيل أن تذكر وسطاً أو عصراً يعتبر الجبن فيه أفضل من الشجاعة أو الظلم أفضل من العدالة. العدالة اختلف الناس في فهمها وطبقت بطرق متغايرة في الأمم المختلفة، هذا حق؛ ولكن الرجل العاد كان ولا يزال محترماً دائماً لعموم فكرة اعتبار العدالة فضيلة خلقية. الرجل الذي على الفطرة، بل الطفل الغرير، يقبل بطيبة خاطر عقاباً يعتقد عدالته، ويثور في نفسه على عقاب يراه ظالماً. ذلك معناه تأصل فكرة العدالة لدى الجميع، العدالة العامة التي يحسها الناس جميعاً ويحنون لها الرؤوس إكباراً وإجلالاً، لا العدالة القانونية المدونة في بطون كتب القانون والتي تتغير بتغير البيئات. وفي هذا يقول مُونْتاني الشاك الذي يرفض كل ما لم يقم عليه دليل لا ريب فيه: (العدالة في نفسها الطبيعية العامة، فيها من النبل ما ليس في العدالة الخاصة الأممية التي تنفذ عند الحاجة بسلطة الشرطة ورجال الأمن العام) كذلك (فُولتير) نراه يدلل على عمومية عاطفة الدولة، بعد أن بحث الأمر بحثاً دقيقاً، بدليل مقنع إذ يقول: (فكرة العدالة تظهر لي حقيقة من الطراز الأول، يقبلها الجميع ويشعرون بوجوب احترامها، حتى أن أكبر الجرائم نراها ترتكب تحت حجة باطلة من العدالة. الحرب، وهي أكبر الجرائم الهدامة التي تتعارض والغرض الإنساني النبيل وهو المساعدة والتساند، يجتهد في تبريرها من يشعل نارها أولاً بحجة الدفاع عن العدالة)
لا أراني بحاجة لتدعيم هذا الرأي الذي يذكره (فولتير)، فالحوادث التي تتوالى أمام أعيننا منذ سبتمبر الماضي للآن تؤيد لأقصى حدود التأييد هذا الرأي. لقد أنذر هتلر العالم بحرب ضروس دفاعاً عن السوديت وحقوقهم المهضومة كما زعم؛ واليوم يلعب هذه اللعبة موسيليني دفاعاً عن حريات الإيطاليين وحقوقهم ومصالحهم المهدرة في تونس وغيرها كما يقول! وقبل ذلك استعمر الشرق والأمم المستضعفة تحت ستار من العدالة أوهى من بيت العنكبوت!
وإذا كان من الحق اعتبار العدالة حقيقة عامة أخلاقية فكذلك عاطفة الضيافة والكرم، تلك العاطفة السامية التي تنبئ بالإخاء الإنساني، نجدها ممدوحة موصى بها في كل الأوساط والأزمان؛ الأمم تعيّر بالبخل وتتمدح بالكرم إذا جدت دواعيه.
وليس عجيباً أن ترى تقارباً بل اتفاقاً على كثير من الآراء والصفات الأخلاقية؛ بل لعل العجيب ألا يكون مثل هذا الاتفاق. ذلك أن الناس، تقدم بهم الزمن أو تخلف، السامي والآري والشرقي والغربي والأسود والأبيض، أي هم جميعاً لديهم معين للأخلاق يكاد يكون واحداً، أو هو واحد في أصله وإن اختلف في بعض التطبيقات تبعاً لاختلاف الأزمان والبيئات؛ ذلك المعين هو الضمير.
وفي هذا يقول العلامة بارتلمي سانتهلير مترجم أرسطو من اليونانية للفرنسية في مقدمة كتاب الأخلاق لأرسطو: (ولنؤكد من غير أن نخشى الزلل أن حقائق علم الأخلاق في الساعة الراهنة عند الأمم المتمدنة ليست منذ الآن محلاً للجدل بين النفوس الفاضلة، وأن تلك الحقائق لا خوف عليها. يمكن أن يقع الجدل في النظريات، ولكن لأن سلوك الناس الأخيار هو في الواقع واحد، يلزم حتماً أن يكون بينهم قدر من الحق مشترك يستند إليه كل واحد منهم من غير أن يستطيع مع ذلك في الغالب أن يقف غيره عليه ولا أن يدركه هو نفسه. ومن النادر أن يقع إجماع الآراء على طريقة بسط مذهب بعينه مهما أجيدت ومهما بلغت من الحق، ولكن من الأفعال ما هو مقر عليه عند جميع الناس؛ وبيّن أن هذا الإقرار العام سببه أن هذه الأفعال تابعة لمبادئ مسلمة عند الجميع، وتقع على مقتضاها من حيث لا يشعر الفاعل لها في غالب الأحيان)
ثم يقول في موضع آخر: غير أن قانون الأخلاق ليس قانوناً شخصياً بل هو قانون عام، قد يكون في ضمير أشد قوة وأكثر وضوحاً منه في ضمير آخر، ولكنه موجود في كل الضمائر بدرجات تختلف قوة وضعفاً. إنه ليناجي جميع الناس بلهجة واحدة، وإن كانت أفئدتهم لا تصغي إليه على السواء. ينتج من ذلك أن قانون الأخلاق ليس فقط قاعدة للفرد بل هو أيضاً العامل لوحدة الروابط الحقيقية التي تربط الفرد بأمثاله. لئن كانت الحاجات تقرب بين الناس فإن المنافع تباعد بينهم إذا لم تكن تذكي بينهم نار الحرب. فلولا الاتحاد الأخلاقي لكانت الجمعية البشرية محالاً.
ولعمر الحق إن هذا لا يحتاج إلى أي تعليق لبيان صحة ما فيه من آراء. فهناك كثير من المبادئ الأخلاقية مسلمة بشهادة الواقع من الجميع لصدورها عن معين واحد، قد يختلف قليلاً أو كثيراً بعض الأحيان، لكنه واحد على كل حال.
على أن التاريخ يكشف لنا أمراً آخر يجب أن يكون موضع تقديرنا وأن نعلق عليه أهمية لها خطرها: المثل الأعلى الأخلاقي يقاسي الكثير من التقاليد في بعض الأزمنة والبيئات، هذه التقاليد التي تراها حجر عثرة في طريق المصلحين دائماً. تصفح تاريخ أمة من الأمم تجد في فترات مختلفة سعدت الإنسانية ببعض كبار الأحلام والفكر الراجح الذين كانت رسالاتهم معارضة للتقاليد الضيقة التي تسيطر في أيامهم بمثل عليا رحبة صالحة للجميع. حقاً إن الرأي العام كان يقف ضد هؤلاء العباقرة، إلا أن المستقبل كان يحكم بأنهم على حق فيما بشروا به، كما أن الإنسانية باركت هذه الثورات، الثورات المدينة لها بخلقية أعلى وأفضل، وأذاعت في جنبات الأرض أن هؤلاء الذين ثاروا على التقاليد هم النبلاء المحسنون للإنسانية عامة.
ولعل من الخير ومن الواجب أن نلاحظ أن تلك التقاليد الدينية أو الاجتماعية التي عارضها أولئك المصلحون كانت مختلفة أشد الاختلاف فيما بينها، وأن هذه الآراء الأخلاقية، والمثل التي كانوا يدعون لها في الأزمنة المختلفة والبيئات المتعددة تعطينا مشابهة مدهشة عجيبة وانسجاماً خارقاً يجيز لنا أن نقدر أنهم كانوا يصدرون عن معين واحد فيما وقفوا أنفسهم على تحقيقه. وموعدنا ببيان ذلك الكلمة الآتية إن شاء الله.
محمد يوسف موسى