مجلة الرسالة/العدد 292/عرض سريع
مجلة الرسالة/العدد 292/عرض سريع
يوم الفتوة في بغداد
للأستاذ علي الطنطاوي
ذلك هو يوم الجمعة 27 يناير، الذي انتقلت فيه بغداد كلها، استقرت في شارع الرشيد، فينشئ المجد الجديد، على أساس المجد التليد. . . وقد أتى الناس من كل فج عميق، ليشهدوا بأعينهم كيف غدا أبنائهم أسوداً صغاراً، أشبالاً، يدافعون عن الحمى، ويحمون العرين. . . ويبصروا ببصائرهم الآتي المجيد، والمستقبل الزاهر، وقد أشرق فجره من عيون أولئك الفتيان، التي تبرق بريق الحماسة والإخلاص، وقلوبهم التي تنطوي على التضحية والثبات، وألسنتهم وهي تنشد النشيد الذي يوقظ الموتى، ويصب الحياة في الصخر الصلد، وأيديهم التي تهز البنادق، تقول بلسان حالها: إنا نحقق ما نقول!
مرحى يا فتيان العراق، عشتم للعروبة، وسلمتم للسلام!
أقبل الناس على شارع الرشيد، قبل أن تقبل الشمس بوجهها على بغداد، فملئوا جوانبه، واستأجروا مداخل المخازن، وشرفات المنازل والفنادق، حتى بلغت أجرة المقعد الواحد ربع دينار، ولا ترى في الشرفة مقعداً، ولا على رصيف مكاناً، وتعلق الناس بالأعمدة، وأشرفوا من الأسطحة، وكانت الوجوه في بشر وانطلاق، كما كانت الطبيعة متهللة باسمة في هذا اليوم المشهود، والشمس بازغة ساطعة، والأنس في الأرض وفي السماء. . .
وأنتظر الناس ساعات، لا يملون ولا يضجرون. . .
وكنت في غرفتي في (الأعظمية) أهم بالنزول إلى بغداد، ثم يردعني خوف الزحام، وكراهية الاختلاط، وخشية أن يبتلعني هذا اللج البشري الهائل. . . وكنت أنظر في ركام الكراسات التي تبلغ المئات، والتي جمع فيها كل تلميذ ما يستطيع من الأخطاء والحماقات، لأموت بتصحيحها، وتقدير درجاتها، فلا أمسها، ولا أدنو منها، وإنما أنصرف عنها أفكر في بلدي وأهلي. . .
أأنا أهجع آمنا في بغداد، وآنس مطمئناً، وأهلي في دمشق يمشون على النار، ولا يدرون أإلى موت أم حياة؟ أأستمتع بالجمال، وأتذوّق الحب، وأنفق الأماسيّ الهادئة، في مسارب الأعظمية، أساير (الشط) وأتفيأ ظلال النخيل والشام قد ثار من تحتها البركان وزلزلت منه الأركان وهب أهله هبّة المستميت، يريدون الحياة كاملة، أو الموت صرفا زعافا؟ فكرت في ذلك فامتلأت نفسي كآبة وحسرة، فقمت على غير شعور مني وانطلقت إلى بغداد، وما أدراك اليوم ما بغداد؟
بلغت (الباب المعظم) وعهدي بالمكان أن فيه شوارع وميداناً، فإذا هو بحر من الخلائق يموج بعضها في بعض، وقد غرق في هذا البحر الشارعُ واختفى الميدان، فوقفت حائراَ لا أتقدم ولا أتأخر. وطال بي الوقوف، وخشيت أن أبقى كذلك إلى المساء، فتشددت وقلت: ويحك يا نفسي! لماذا الجبن؟ وعلام التأخر؟ ولماذا كنت تدفعينني إلى أن أمارس ألوان الرياضة، إذا كنت لا تستطيعين النجاة في مثل هذا اليوم العصيب؟ وظننت نفسي قد اشتدت، فشمرت عن ساعديّ وأقبلت أدفع هذا، وأزيح ذاك؛ وكلما دفعت عني واحداً حلّ مكانه عشرة، فخارت قواي وأيست من النجاة، واعترفت لنفسي باني لم أبلغ بعد مبلغ عنتر (عنتر القصة) الذي يقبض على الرجل فيرفعه بيده فيضرب به الآخر فيقتل الاثنين. . . فوقفت فاشتد على الضغط من كل جانب، حتى أحسست كأن أحشائي ستخرج، وضاق نفسي، ولكن كل ضيق إلى فرج، فلم يكن إلا أن فرج الله عني فبعث رجلاً من رجال الشرطة أعرفه فحملني إلى الفندق الذي أريد. . .
وكان في شرفة الفندق سعادة القائد البطل فوزي القاوقجي وأخي الشاعر أنور العطار في جماعة، فحللت فيهم، ولبثنا ننتظر الموكب، ونتحدث عن الفتوة في العراق، ونستمع إلى أحاديث فوزي وهي للأديب كنز لا ينفذ. . . وأشهد أن في العراق فتوة وشباباً، وأنه شعب عرف طريق الحياة فسلكه.
ولقد رأيت من مظاهر الفتوة في بغداد ما جعلني أبكي من فرط التأثر! رأيت في بغداد طفلاً يدرج على باب منزله، لم يتعلق المشي ولا النطق، وهو يحاول أن يخطو خطو الجند، ويوعز إيعاز القائد: يس. يم. يسرى. يمنى. . .
رأيت في بغداد أطفال المدارس الأبتدائية، يسيرون سير الجنود. يقودهم مدرس بلباس ضابط، يدربهم على فنون القتال وذهبت مع الطلاب إلى معسكر الإنكليز في (سن الذبان) لمباراة رياضية. فرأيتهم قد قبلوا المدينة الإنكليزية
إلى حي من أحياء العرب، وأفاضوا عليها روحهم وشبابهم وفتوتهم، فقلت: تبارك الله! إذا كان جيش من لاعبي الكرة لا يتجاوز الخمسين شاباً فعل هذا كله، فكيف لو جاء الجيش العربي جيش المستقبل؟ وسألت الطلاب في الامتحان هذا السؤال الأزلي: ماذا يريد أحدهم أن يكون؟ فكان جواب الأكثرين أنهم يريدون أن يكونوا جنوداً، مشاة وركباناً، وبحارة وطيارين، يدافعون عن أمتهم ويذبون عنها كل طاغية أو جبار ينبع من الأرض أو يهبط من السماء. . . ورأيت أثر الروح العسكرية واضحاً في الطلاب، فالطاعة من غير استخذاء، والحرية من غير تمرد، والنظام من غير جمود. تلك هي صفات طلاب العراق. وإن في مدرستنا العربية لثلاثمائة طالب، والمدرسة سائرة سير الساعة المتقنة وليس في إدارتها إلا مدير ومعاون، مع أن مثل هذا العدد يحتاج في دمشق إلى عشرة ضباط (معيدين) ثم لا تكون المدرسة كالساعة، وإنما تكون كالبركان الذي يهدد كل لحظة بالانفجار. فيا ليت شباب دمشق يعرفون الروح العسكرية، كما عرفها أشقائهم شباب العراق
لبثنا ننظر إلى الضحوة الكبرى، والناس لا يزدادون إلا تدفقاً، فكأنهم سيول تصب في هذا الخضم العظيم، والشارع يموج بالناس موجاً، ويزخر بالخلائق، وكلهم يتطلع وينتظر، وكلهم يسأل متى يأتي الموكب، وعمال الشركة الأمريكية للسينما ماثلون بآلاتهم في الشرفات والزوايا، ليصوروا معالم الحياة في بغداد. . .
وإن البحر ليموج ويزخر، وإن أمواجه لتصخب وتضطرب، وإذا بالمعجزة قد وقعت فانشق كما انشق البحر لموسى، وانفتح الطريق، فنظر الناس ونظرنا فإذا الأعلام العربية تلوح بألوانها الأربعة التي تجمع شعار دول الإسلام كلها بأميتها وهاشمها وعباسها وترمز لفضائل العرب كلها:
بيض صحائفنا سود وقائعنا ... خضر مرابعنا حمر مواضينا
وإذا الموكب قد لاح من بعيد، كما يلوح الهلال الهادي، للقائد الآيس ويسطع نجم الأمل في ظلمة القنوط، وإذا موسيقاه القوية تدوي في الآذان، فيكون لها أثر في النفوس أحلى من نداء الحبيبة في نفس المحب المشوق، فحبس الناس الكلمات ووقفوا الأنفاس، يتطلعون ويترقبون، والموسيقى تعلو والفتيان يتقدمون حتى وصلت طليعتهم. . . فما استطاع ذو شعور إمساك دموع الفرح والرقة والتأثر أن تسيل، وارتجت الأرض بالتصفيق والهتاف، كما ارتجت من قبل بهذه الموسيقى القوية المحبوبة، وهذا النشيد الذي يسمع من خلاله صوت المستقبل البارح وتلوح في أثنائه خيالات المعارك المظفرة. . . وكان الفتيان أطهاراً مثل الزهر اليانع، لدنا كأغصان الروض، ولكنهم كانوا أقوياء كدوح الغاب، أشداء كأسود العرين؛ وكانوا يسيرون صفوفاً متعاقبة على عرض الشارع، مرفوعة رؤوسهم، منتصبة قاماتهم، موزونة خطاهم، على أكتافهم بنادقهم وعدة قتالهم، يتقدمهم قادتهم ومدربوهم والقائد العام المقدم محمود فاضل ومساعده الجرموز الأكبر بهاء الدين الطباع على الخيول البلق، أمام الجيش الفتي
لا والله ما أحسست بالعجز مرة عن وصف ما أرى مثل عجزي اليوم. ومنذا الذي يقدر على وصف هذا الشيخ الهم، ذي الشيبة السائلة على صدره وهو يلحظ حفيده الصغير، يحمل البندقية ويمشي مختالاً مزهواً، يحلم بأمجاد المستقبل، ويذكر ما درس من أمجاد الماضي، فلا يطيق منع الدموع أن تسيل من عينيه وتتحدر على لحيته البيضاء. . . إني لأسمعه يحمد الله على أن لبلاده جيشاً من أبنائها ولم يكن يرى إلا جيشاً واغلاً أو دخيلاً. .
ومنذا الذي يقدر على وصف هذه الأم التي أمسكت بيد طفليها الصغيرين وهما يتوثبان ليلحقا بالموكب ليريا أخاهما، وطفقت تدعو الله دعاء هامسا يتصعد من خلال الزفرات أن يحفظ لها ابنها، والوطن بنية: (يا رب سلّم، ما شاء الله كان. . يا رب سلم. .) وتبكي!
ومنذا الذي يقدر أن يصف شارع الرشيد في هذا اليوم؟ يا أيها الرشيد قم تر المجد الذي بنيته لا يزال قائماً. قم تر الأحفاد قد نهضوا يسلكون طريق الأجداد. قم ترنا لم نضع الأمانة ولم نهلك التراث. قم تر مجد غازي يتصل بمجدك كما اتصل الشارع بالشارع فعادا مهيعاً واحداً؟
هؤلاء يا مولاي عدة المستقبل، وهذا الجيش وهذه الآمال!
وفكرت فجأة في بلدي وأهلي. . .
نحن هنا في فرحة والنار مشتعلة في فلسطين، والنار توشك أن توشك أن تلتهب! أي مصيبة لم يرها الشاميون، وأي خطب لم ينزل بهم؟ أما خرب الأقوياء بلادهم ضرباً بالمدافع وقصفاً بالحديد وحرقاً باللهيب؟ أما أخذوا ذهبهم وأبدلوهم به ورقاط أقفرت به الخزائن وافتقر به ذوو الغنى واليسار؟ أما قطعوا البلاد حكومات، وجعلوا من القرى دولات، وقسموا الناس بدداً ليجعلوهم طرائق قدداً؟ أفما جروا على هذا كله؟ بلى، لقد حتى لم يبق في قوس الصبر منزع، واحتملوا مالا يحتمل؟ فلما نفذ الصبر، وباد طوق المحتمل، هبوا هبة الحليم إذا غضب، ويا ما أشد غضب الحليم!
أنكون نحن في فرحة، وقومنا في الشام في ألم؟
وكدت أشعر بالحزن في قلبي، ثم قلت: لا، إن هذا هو الجيش الذي يجب أن يفرح به قومي. أن بطولة العراق وفتوة العراق صفحة من سفر المجد العربي، كما أن تضحية فلسطين، وجهاد دمشق، ونهضة مصر، صفحات منه أخرى. إن هذه كلها قوى متحدة، تتوجه وجهة واحدة!
ثم إن دمشق لا تخاف شيئاً ولا تخشى!
ولم تخاف؟ الرصاص؟ لقد فتح له أهلوها صدورهم! المدافع؟
لقد أعدو لها منازلهم! اليتم والثكل؟ لقد تعوده أبنائهم وأمهاتهم! إنهم يريدون أن يحيوا حقاً أو يموتوا. فهل يغلب شعب وطن نفسه على الموت؟
وكان جيش الفتوة لا يزال يسير، والأرض ترتج بالموسيقى والنشيد والهتاف والتصفيق والدعاء والبكاء، فعاد الأمل إلى نفسي قوياً، هذه (بيه مونت) الوحدة العربية، هذه (بروسيا) العرب،
هؤلاء عدة المستقبل، وهذا الجيش، وهذه الآمال!
فيا أهل دمشق، ويا أهل فلسطين، ويا أيها العرب، في قاص من الأرض ودان.
اطمئنوا فإن لكم جيشاً!
ولما جاوز جيش الفتوة شارع الرشيد واتجه إلى شارع غازي ماج البحر واضطرب، وتدفقت وراءه الجموع، وأسرعت إلى (الأعظمية) لأدرك الصلاة، ونفسي تضطرم بأجمل العواطف وأبهى الصور، ولكن جمالها لا يستتم في نفسي. إن في الموكب لنقصاً ظاهراً. أفما كان في الإمكان سدّه؟ أكانت تخر السموات على الرض، ويفسد نظام الكون لو قدم الموكب ساعة أو أخّر ساعة، ولم تضع الصلاة على هؤلاء الفتيان كلهم؟
هذا هو النقص، فيا ليت الوزارة لم تنسه. . . يا ليتها ساقت هؤلاء الجنود كلهم إلى المساجد ليقيموا فيها الصلاة، فإن أجدادنا ما غلبوا عدوهم إلا بالصلاة، والالتجاء إلى الله، وهو أن الدنيا وأهلها عليهم، وابتغائهم إحدى الحسنيين الظفر لإعلاء كلمة الله، أو الشهادة! إذن لكما لهذا اليوم جلال الدنيا، وجلال الدين، وإن في الآتي لإصلاحاً لما مضى، وأنه على هذا ليوم مشهود!
(بغداد)
علي الطنطاوي