مجلة الرسالة/العدد 290/استطلاع صحفي (ريبورتاج)
مجلة الرسالة/العدد 290/استطلاع صحفي (ريبورتاج)
الأندية الأدبية في مصر
(لمندوب الرسالة)
- سأكتب عن الأندية الأدبية في مصر. . .
وأين هي يا أخي تلك الأندية الأدبية التي في مصر؟!
ذلك ما قلته لصديقي الشاعر (الخفيف) وكنا في ندوة الرسالة، وهذا ما أجابني به في لهجة قاسية منكراً أن تكون في مصر أندية للأدب. وهذا أيضاً ما سيقوله جل قراء الرسالة - إن لم يكن كلهم - وسينكرون أن تكون في مصر أندية للأدب. وربما يسألون: ما شأن هذه الأندية؟ ومتى وجدت؟ وأين توجد؟ وما بالنا لا نعرف عنها أي شيء؟. . وهذا هو الذي حفزني للكتابة عن هذه الأندية، وحملني على أن أكشف للناس - بل ولكثير ما الأدباء أنفسهم - عن ناحية مستورة في حياتنا الأدبية، ومؤثرٍ له شأنه وخطره في وجهتنا الثقافية
نعم ليس في مصر أندية للأدب بالمعنى الضخم الذي يوحيه إليك هذا التعبير الضخم، فتتخيل العمائر الشاهقة التي شيدتها الحكومة أو شيدتها الجمعيات الأدبية المنظمة وجعلتها في تأسيسها وفي أثاثها بهجة الناظر ومتعة الخاطر، لتكون مجمعاً لأهل الأدب ومسرحاً لأرباب القلم، كما هو الشأن في الأمم الراقية التي تحترم الفن، وتقدر نتاج الفكر، وإنما الأندية الأدبية في مصر إما مقاهٍ عامة تتسع لغمار الناس وجميع الطبقات، وربما تكون ضَئيلة الرواء تافهة الموقع، وإنما ينزع إليها الأدباء لود قديم، أو لمعنى يتصل بحياتهم المادية والروحية، وإما بيوت لها مجد تالد، وتاريخ حديث يتصل بتاريخ غابر، فأصحابها يقربون أهل الأدب ويفسحون لهم في صدور بيوتهم ويسمرون ويتندرون، ويمتدحون بل ويذمون، ويتوثبون من حديث إلى حديث بين أكواب الشاي وأقداح القهوة
وهذه الأندية على بساطتها لها أثر كبير في حياتنا الأدبية، وإن ما يجري فيها لصُورة صحيحة لثقافتنا ووجهتنا في الأدب والشعر والنقد وكل ضروب المعارف التي نحذقها، والتي لا نحذقها. وأنت لا شك تجهل كثيراً من نواحينا الفكرية وسياستنا الأدبية، ومدى الصلة بين ثقافتنا وأخلاقنا. وأنت لا شك تخطئ كل الخطأ إذا كنت تحسب أنك قادر على فهم أدبائنا حق الفهم من كتاباتهم التي يزورونها للناس، من غير أن تنتقل إلى هذه الأندية، تجول بين جنباتها، وتندمج في جماعاتها، فتحاور وتداور، وتقول وتسمع، وتُرضي وتغضب، وتنفلت معهم من كل قيد، وتخرج على كل وضع، وتكون حاضراً بعقلك وقلبك وعواطفك، حتى تنبسط أمامك النفوس، وتنكشف لك السرائر، ويُعلن كل مخفيّ ومطويّ، فيتبين لك القوم بعقلهم الواعي، وما يسمونه بالعقل الباطن
لقد خرجت منذ عامين برفقة صديق عزيز إلى بساتين القناطر الخيرية في يوم عيد الربيع، فرأينا الناس قد احتشدت هناك على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتباين طبقاتهم ومراتبهم، ورأيناهم قد خرجوا من وقارهم، واستهانوا بكل ما اصطلح الناس عليه من الأخلاق والتقاليد، واندفعوا في يقظة العواطف، ورغبات القلوب، وشهوات الجسد، ما وسعهم الجهد في ذلك، فكنت أنظر إليهم في فزع وجزع، فمال عليّ صاحبي وهو يقول: لا تفزع ولا تجزع، فإن هذه - لو علمت - هي حال الناس بين الجدران، وتلك طبيعتهم من وراء الحيطان، وثق أن ما يظهر به الناس في الخارج من سمات الوقار ومظاهر الاحتشام إنما هو شيء متكلف مزّور، وإنه ليغطي وجه الحق على كثير من الناظرين. ولو قدر للشمس أن تشرق على جميع الناس، وأذن للحجب أن تنتهك عما وراءها لرأيت الناس في طبيعتهم الصريحة وحقيقتهم الصحيحة، وما حقيقتهم إلا ما ترى يا صاحبي.
وهذا الذي قاله صاحبي في الناس بالأمس، هو ما أقوله في أصحابي الأدباء اليوم، فهم في كتاباتهم قد يحجبون حقيقتهم ويزوّرون في طبيعتهم، ويظهرون في غير لباسهم، توخيا لمصلحة يرجونها أو رهبة لسيطرة القوانين والتقاليد، أو رعاية لروابط الصداقة وصلات المودة بينهم وبين الناس، فتراهم يبدون الرأي في احتراس ويحكمون على الأشياء بقدر، ويخدعون ضمائرهم فيحضون ما ليس بالحسن، وهم على عكس هذا كله في أنديتهم الأدبية، ومواطن سمرهم وصفوهم، صرحاء وضحاء، لا يقتصدون في شيء ولا يبقون على شيء، فتسمع منهم الرأي الصحيح والتقدير الصريح والنقد العنيف، والأحكام القاسية التي تتصل بالآثار وبالشخصيات وتتناول الأفراد والجماعات، وربما يفزعك هذا النقد بأسلوبه، وربما تنكره على أصحابه، ولكنك لا شك ستجد فيه كثيراً من الصراحة المحمودة، والتقدير الحق. وأذكر أن أديباً كبيراً أعرفه كتب مقالا في تقريظ صاحب له في إحدى الصحف، فهول وبالغ ومجد وقدّس حتى طار بصاحبه إلى السماء، فلما قابلته في المساء حيث يجلس مع إخوانه للمسامرة، ذكر لي أن ما كتبه إنما هو تمويه في الحق، وتدليس على الناس، وأن صاحبه ليس في قليل ولا كثير فيما كتب عنه، ولكنها الضرورة قاتلها الله، وللضرورة حكم أقل ما يقال فيه أنه يفصل بين المرء وبين ضميره. ولقد ذكر الدكتور زكي مبارك في مقال نشره منذ أعوام، أن الدكتور طه حسين أسر إليه في مجلس من المجالس أن (شوقي) في رأيه أكبر شاعر في العربية، وأنه كان يود أن يقدم ديوانه للقراء، على حين كان الدكتور طه في ذلك الوقت يذيع في الناس أن (شوقي) لا يد له في الشعر ولا رجل، وأنه شاعر يغني على أطلال القديم، فيغني عنه أضأل شاعر في القديم!!
ومن ثمًّ تعلم أن أدباءنا في مجالسهم شيء، وهم في كتاباتهم شيء آخر. . .
وإلى جانب هذا نجد في أنديتنا الأدبية ناحية مشرقة، فهي مجلس الدعابة البارعة، والروح المصرية المرحة، ولعلك تعلم أن الدعابة إنما هي الجانب المشرق من الحياة، وهي عنوان ما في السرائر المكتومة، ومظهر من مظاهر الأخلاق والثقافة، وعنصر يهتم به الدارسون لنفسيات الأمم وطبائع الشعوب. وليس من شك في أن شخصية الأديب قد تتجلى واضحة مكشوفة في نكتة يلقيها على بساط الشراب، وربما لا يظهر لها ظل في جميع مؤلفاته ولو بلغت ألف كتاب. ولأدبائنا في مناحي الدعابة ذراع رحب، ولسان طويل. . . ولكنهم لا يهتمون أو قل يتحرجون من تسجيل ذلك وإذاعته في الناس، ولا شك أننا فرطنا في كثير إذ أهملنا ما كان يجري في مجالس البابلي وحافظ وإمام العبد وأندادهم، فلم نسجل شيئاً من أحاديثهم. ولم نحفل بنوادرهم وقفشاتهم، على أنها كانت ثروة طيّبة، وناحية حافلة بالأنس والسمر، ومن العجيب أن القدماء كانوا أجدى من في ذلك وأحفل به، ولعل مرجع هذا إلى أنهم كانوا يكتبون للخاصة فكانوا ينطلقون على طبيعتهم فلا يتأثمون من تعبير، ولا يتزمتون من لفظ، ولكنا نكتب لجميع الناس، وكتاباتنا تتصل بمختلف الأوساط، فكان لابد أن نعف عن كل ما يخدش الحياء، ويؤذي الأذن كما يزعمون!
ومن بعد هذا ومن قبله، نجد تلك الأندية تعمل كثيراً في نهضتنا الأدبية، وفي وجهتنا الثقافية، فكثيراً ما تتشاجر الآراء، وتقوم المجادلات بين القوم حول المعركة بين القديم والجديد، أو في المقارنة بين شوقي وحافظ، أو المفاضلة بين طه والعقاد، وقد يخرجون من القول في الأدب إلى الكلام في السياسة وما يجري من التطاحن بين الأحزاب، وفي هذه الأحاديث وأفعالها يفضي كل بما عنده، فتكون الإفادة والاستفادة.
فنحن إذ نكتب عن الأندية الأدبية في مصر، إنما نكشف - كما قلنا - عن ناحية مستورة في حياتنا الأدبية، ومؤثر له شأنه وخطره في وجهتنا الثقافية، ونصور للناس صورة مشرقة بالمرح والصفو يطل منها أدباؤنا بطبيعتهم الصحيحة، وحقيقتهم الصريحة. وموعدنا المقال القادم لنقف عند أول ناد هبطت عليه يوم هبطت على القاهرة، وسأعرف كيف أقنع صاحبي الشاعر (الخفيف) الظريف.
(م. ف. ع)