مجلة الرسالة/العدد 29/بين الموسيقى الشرقية والغربية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 29/بين الموسيقى الشرقية والغربية

مجلة الرسالة - العدد 29
بين الموسيقى الشرقية والغربية
ملاحظات: بتاريخ: 22 - 01 - 1934



- 1 -

تقوم الآن حركة طيبة في الأوساط الموسيقية، غايتها النهوض بالموسيقى الشرقية إلى المستوى الذي يلق بها كفن له آدابه وأوضاعه وأصوله. وكان طبيعيا أن تتشعب الآراء، وتنوع الأفكار، والمدار هو الكيفية التي بها ترتفع الموسيقى الشرقية إلى مكانتها.

وسمعنا أثناء ذلك اسم الموسيقى الغربية تلوكه الألسن وتتجه إليه الأفكار كأنه الغاية التي إليها نتجه، والمستوى الذي إليه نرتفع، غير إن هناك السناً لم تنطق به وأنظاراً لم تتجه إليه، بل بقيت رابضة في وكرها لا تحيد عنه. وبين هذه وتلك تقف الفكرة الأساسية مترددة محجمة، وان سارت ففي خطى بطيئة متمهلة.

وقد رأيت أن اجمل في نقط بسيطة غير مركبة، أهم الاختلافات التي بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية، وذلك بأن أضع أمام القراء صورة حقيقية للأصل الذي أتكلم عنه، وان اقسم تلك الفوارق التي بينهما تقسيما منظما صحيحا لتكون أمام من يطلع عليها صورة مرتبة غير مشوشة، مع اختصاري قدر ما اصل إليه.

فمن رأى هذه الكلمة خلوا من الإفاضة والشرح فليعذرنا فلسنا نكتب كتاباً ليحفظ ويكون حجة ومرجعاً، وإنما هو مقال يجمع بين الفائدة والترويح، وعلينا العهد عندما نريد أن نكتب كتاباً أن نراعي الدقة جهدنا وان نختصر فيه أو نجمل.

تنقسم الفروق بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية إلى ناحيتين رئيسيتين، الناحية الأولى: وهي الناحية العامة، وفيها تظهر روح كل موسيقى وترتيبها وموافقتها لأخيلة وأمزجة مؤلفيها، ومناخ البلاد التي وضعت فيها وما لها من رقي وانحطاط، وهذه الناحية قد يكتب فيها الأديب المطلع كما يكتب الموسيقي، ولعل الأديب يكون اكثر توفيقاً في الشرح والوصف. أما الناحية الثانية فهي التي تتناول الناحية الفنية من بحث الأغراض التي يذهب إليها التأليف إلى اختلاف الأنغام إلى طريق التلحين، ثم إلى شرح الأوزان والمقاييس وما إلى ذلك من أقسام تتصل بالموسيقى من ناحيتها الفنية. وهي الناحية التي أرجو أن اقصر عليها عنايتي وان أستطيع توضيحها وتقريبها إلى الإفهام.

الموسيقى كأدب اللغة صورة ناطقة حية للعصر الذي وضعت فيه، والأمة التي نشأت منها، وتكاد أغراض الموسيقى تشابه الأغراض التي يذهب إليها أدب اللغة في كثير من الحالات، (فالموسيقى الحماسية) هي التي توضع إما لتعبر عن عاطفة قومية وطنية أو لتثير الحمية والإقدام في النفوس، وهي تكون تلحينا لأناشيد كنشيد المرسليين الافرنسي ونشيد اسلمي يا مصر. المصري ونشيد الجمهورية التركية، أو تكون في موسيقى صامتة في (مسير الحرب) لشوبرت أو (مسير الحرية) لصوصة ولعل هذا النوع من الموسيقى الصامتة في الموسيقى الشرقية غث لا قيمة له لا يكاد يبعث حماسة أو يوقد حمية إذا استثنينا بعض المسيرات الحربية التركية. يلي هذا النوع من الموسيقى، موسيقى اللهو والمراقص، وهي التي تعزف في الحانات ودور اللهو والتي يرقص على أنغامها الراقصون والراقصلات، وهذا النوع من الموسيقى هو أساس الموسيقى الشرقية قديماً وما زال متصلا بها إلى الآن وإن كان التهذيب قد ادخله في كثير من نواحيه. أما في الموسيقى الغربية فالتطور عكسي فبعد أن كان هذا النوع في بدء النهضة الموسيقية راقياً فنياً من نوع الكلاسيك صار يتدهور حتى الحرب العظمى فسقط سقوطاً شنيعاً واصبح خلواً من أي شاعرية أو فن والآن أتكلم عن الموسيقى الدينية فهي في الموسيقى الغربية أساس باقي الانواع، فمن معابد روما وهياكلها انتشرت الموسيقى الدينية قي العالم الغربي، وكان رجال الدين في أول أمرهم يقاومون تسرب موسيقاهم إلى الخارج بكل شدة، وكانوا يحافظون عليها كل المحافظة ولكنها ذاعت وانتشرت رغم كل حيطة أو صد، وكل من حملوا علم النهضة الموسيقية كانوا في بدء اشتغالهم بالموسيقى يدخلون الكنائس منتظمين في سلك المنشدين أو لاعبي الأرغن وبعد مضي مدة على اشتغالهم وتمرينهم كانوا يخرجون فينشرون تلك الروح التي تأثروا بها في فجر حياتهم الفنية، واذكر من هؤلاء النوابغ شوبرت مؤلف أوبرا فيرا براس، فقد كان أحد المنشدين بكنيسة ليتشتنتال وهاندل مؤلف (نيرو) و (الميرا) و (وراد ميستر) كان عازفا على الأرغن في كنيسة جويرتزبرج ونشأ هايدن في كنيسة القديس اسطفان بفينا. وكانوا جميعا عندما تنضج أرواحهم وتكمل فيهم بوادر النبوغ، يتمردون على الكنيسة ويخرجون إلى العالم الحر الطليق لتحلق أرواحهم في فضائه متحررة من القيود التي فرضت عليها في المعابد. واعظم القطع الدينية هي (الأوراتوريو) التي منها نشأت (الأوبرا). أما في الموسيقى الشرقية فكيان الموسيقى الدينية متهدم لا أساس له، هذا باستثناء الهند والصين فان لموسيقاهم الدينية طابع من الرهبة العميقة والتأثير ومن اكبر مؤلفيهم الموسيقيين (تاجور)، أما في الإسلام فالموسيقى تكاد تكون بدعة لا تحليل لها وان كان هناك شيع وطرق تقيمها في أذكارها فهي منظور إليها نظرة بغيضة، وان كنا لا نستطيع أن نغفل ذكر (المولوية) ومركزهم الموسيقى بين موسيقى الأتراك القدماء. وأما الديانة القبطية فللكنائس تراتيلها وأناشيدها ولكنها على حال من السذاجة الفطرية لا تجعل لها أهمية من الوجهة العملية وإن لم تخل من خطرها في التاريخ الموسيقي فهي اصل موسيقى العالم إذا وصلنا موسيقى القبط بموسيقى الفراعنة. ننتهي من الموسيقى الدينية لنتكلم عن الموسيقى التمثيلية، فهي ركن هام من أركان الموسيقى لا يشتغل به إلا منأوتي قدرة واستعداداً خاصا، فكثيرون من نوابغ الموسيقيين الغربيين من أوتوا في أنواع كثيرة من الموسيقى حظاً وافراً ولكنهم لما وصلوا إلى الموسيقى التمثيلية رأوا انهم لا يستطيعون أن يضربوا فيها بسهم وخير مثال لنا هو (بتهوفن) الخالد فقد حاول محاولة واحدة في الموسيقى التمثيلية هي (اوبرا فيدليو) رأى بعدها انه ليس من رجالاتها فرجع إلى السينفوني والسونات واعظم من وضع في الموسيقى التمثيلية الغربية هو (فاجنر) اله الأوبرا و (لوهنجرين) (ودانهوزر) ومقطوعاتهم تشهد لما نقول أما في الموسيقى الشرقية فلم يعرف هذا النوع إلا حديثا وما زال في مهده لم يشب عن الطوق. بقي أمامنا بعد ذلك آخر قسم وهو قسم الموسيقى التصويرية وهو في رأينا اجل الأقسام أخطرها ويكون عادة موسيقى صامتة تصور وتشرح مختلف العواطف والمناظر والمؤثرات ومن أوائل من بدأوا بعمل السيمفوني التصويرية (هايدن) ثم (موزارت) ثم سيدهم أجمعين (بتهوفن) وفي الحق يمكننا بوجه عام اعتبار كل أنواع الموسيقى تصويرية، إذ الموسيقى كالشعر يعبر كل بيت منها أو قصيدة عن فكرة أو يصف موضوعاً، ويستثنى من ذلك (الدراسات) الخاصة وهي التي يطلقون عليها اسم فإنها تكون عادة لدراسة النغم في دائرة قواعده وأصوله

والموسيقى الشرقية خلو من الموسيقى التصويرية، وما جلها إلا دراسات الأنغام ولا يمكن اعتبار البشارف والسماعيات والبستات إلا نوعا من تعبر عن فكرة أو تصف موضوعا

ولعل معترضاً يقول، أو ليس ذلك الراعي الجالس على حافة الغدير أو وسط المراعي ينقل أصابعه على مزماره وهو يرعى غنمه فيبعث أنغاماً هي السحر تأثيراً؛ أليس يصور بأنغامه ما يجيش بصدره من عواطف وآمال وما يتلاعب بفؤاده من أميال وافكار؛ واليس يصور بأنغام مزماره ذلك الغدير بعذوبته وتلك المراعي بخضرتها ونضارتها، وما إلى ذلك من تصوير. هذا هو الحق ولكنه تصوير ساذج ضعيف إلا أن جعلنا من مصوري القرية الذين يرسمون صور عودة الحجاج وما شابه ذلك مصورين لهم خطرهم وأهميتهم ولكن في الموسيقى الشرقية الحديثة، هناك من قام بمحاولات في هذا النوع علها تسير إلى التقدم بعد في مهدها.

والآن نتكلم عن الفروق بين الموسيقى الشرقية والموسيقى الغربية من الوجهة العامة فأول ما نلاحظه هو تعدد النواحي التي ذهبت إلى التعبير عنها الموسيقى الغربية واقتصار الموسيقى الشرقية على نوع يكاد يكون واحد، ويشبه ذلك شعر أمتين، تناول في الأول كل ما تذهب إليه أغراض الشعر من وصف وغزل ومدح وهجاء ورثاء. . .، واقتصر الثاني على غرض واحد لا يتعداه من تلك الأغراض.

كذلك الأمر في الموسيقى الشرقية. لم تعد كونها موسيقى لهو ومرقص وهي تكاد تقصر نفسها على هذا اللون فقط لا تبدله ولا تنهض عنه بينما نجد إن للموسيقى الغربية مذاهب وأغراضا متعدد متلونة لا يكاد ينتهي منها الباحث. ولعل ذلك راجع كما أرى إلى إن نشأة الموسيقى الشرقية لم تكن بالنشأة اللائقة بها كفن سام له آدابه، فهي قد نشأت في بلاد الفرس والعرب بين الموالي والقيان وفي الحانات التي كان ارتيادها محرما على ذوي المكانة الأدبية. مع إن بعضاً من الخلفاء قد اهتموا بأمر الموسيقى وعطفوا على المشتغلين بها فان ذلك كان ليرفهوا عن أنفسهم في مجلس شراب وانس لا مجلس جد واحترام وظل الأمر كذلك حتى انتقلت الخلافة إلى الأتراك فابتدأت الموسيقى ترفع رأسها لتحل محلها الذي كان ينبغي لها إن تحله من قبل. وكان ذلك باشتغال سلاطين آل عثمان أنفسهم بالموسيقى وما زال (سوزدلار بيشروي) - تأليف السلطان سليم - خليفة المؤمنين آية من آيات الموسيقى الشرقية.

وما يؤسف له حقاً، إن التراث الفني للموسيقى العربية قديما مفقود، إذ لم تكن الحروف الموسيقية (النوتة) متداولة، أو لعلها كانت متداولة إلا إن ما وصل إلينا منها كالطلاسم لا حل له ولا بيان. وكانت النتيجة إننا لم نرث عنهم سوى الناحية الأدبية وهي كما قلنا لا تشرف في قليل ولا كثير، بل لعلها قد أثرت أثرها السيئ في الإفهام.

بقيت الآن ملاحظة ثانية على الفروق بين موسيقى الشرق وموسيقى الغرب، تلك هي ضعف الأولى وخلوها، وامتلاء الثانية وقوتها، وهذا فيما أرى يرجع لسبب لا نملكه.

ينشأ الموسيقي الغربي بين جبال وصخور وبحار عظام تمثل قوة الطبيعة وعظمتها وتهب عليه العواصف وتنقض الصواعق وترعد في سمائه الرعود فعندما تجول في مخيلته الموسيقية فكرة نراه تأثر فيها بتلك المؤثرات التي أحاطت به والتي تكيفت بها عاقلته ومخيلته. فنراها في صوته الأجش القوي وفي موسيقاه الممتلئة الضخمة.

أما نشأة الموسيقي الشرقي فعلى ضفاف نهر عذب تسطع عليه شمس صافية وتهب من حوله نسمات تتهافت في الرقة واللطف، وشد ما قاساه من قسوة الطبيعة وبطشها لفحة حر أو قرصة برد لا تلبث حتى يصفوا الجو ويعتدل النسيم.

ذلك ما يحيط بالموسيقي الشرقي وذلك ما يوحي إليه بفكرة موسيقاه وهذا ما ترتاح إلى سماع التعبير عنه أذاه وهذا سر تلك الرقة التي نشاهدها في موسيقاه وهي ليست منقصة أو عيباً ولكن الضعف هو ضعف التعبير عن الفكرة كالبيت من الشعر يصف البستان النظر والمنظر الجميل في أسلوب ضعيف وفكرة غنة وليس العيب فيها عيب الموصوف بل عيب القصور في التعبير وضعف شاعرية الشاعر.

ورقة الموسيقى ليس معناها ضعفها من الناحية الفنية، بل لعلها تكون قوية كل القوة وهي تسيل رقة ولطفاً، ولعل من يسمع لبتهوفن يمكنه أن يفهم ما اعنيه تماما بقوة الموسيقى ورقتها مجتمعين معا.

بقي الآن الحديث عن تركيب الأنغام في كلتا الموسيقتين والأوزان والتآلف فيهما، وارجوا أن تتاح لي الفرصة قريبا للكلام عنهما في أعداد قادمة من (الرسالة).

مدحت عاصم