مجلة الرسالة/العدد 288/هجرة الأسماك
مجلة الرسالة/العدد 288/هجرة الأسماك
بقلم رضوان محمد رضوان
الهجرة ظاهرة غريبة تشاهد في المملكة الحيوانية على وجه العموم، وهي ترى بوضوح في الأسماك، وكذلك في الطيور.
وتهاجر الأسماك لغرض التناسل، فمنها ما يهاجر من النهر إلى المحيط للبحث عن مكان تبيض فيه، والمثل المعروف لهذا النوع من المهاجرة هو ثعبان السمك.
فمن المشاهدات العديدة، وجد أن ثعابين السمك لا تتكاثر أصلاً في الأنهار التي تعيش فيها كبقية الأسماك النهرية، إلا أنه بالرغم من ذلك توجد منها كميات كبيرة لا تقل في سنة عن أخرى، وكذلك توجد منها أفراد كبيرة وأخرى صغيرة؛ وشوهد في نفس الوقت أن الثعابين الصغيرة تصعد من المحيط إلى النهر. أما الكبيرة فترحل من النهر إلى المحيط.
وعلى ذلك اتجه الرأي إلى أن الثعابين ترحل من النهر إلى المحيط للتناسل، وفعلاً أثبتت المشاهدات أنه لا يتم نمو الثعابين - ويكون ذلك في سن الخامسة أو السادسة - حتى تتحين وقت الخريف، وتترك النهر في جماعات هائلة متجهة إلى مصبه، فإذا أمسى الليل، وكان البحر هائجاً، تنزل إليه وتعوم بنشاط عجيب، وتبتدئ بذلك رحلتها القريبة، فتمر من بوغاز جبل طارق إلى المحيط الأطلنطي، وتعبره إلى جزائر برمود شمالي بحر السرجاس والتي تبعد عن شواطئ الولايات المتحدة الأمريكية بنحو ألف كيلومتر.
وقد اصطيدت حيوانات مختلفة في مناطق متعددة أثناء هذه الرحلة الطويلة، فوجد أن الغدد التناسلية تكون أقرب إلى البلوغ والنضج كلما قربت الحيوانات من بحر السرجاس مما يدل على نموها طول فترة السياحة.
تقطع إذاً الثعابين آلاف الكيلومترات لكي تصل إلى جزائر البرمود بسرعة 20 - 30 كيلومتراً في اليوم، فإذا ما انتهت إلى مكانها المقصود، تبيض الأنثى كمية كبيرة من البيض تبلغ المليون، وقد تزيد على ذلك، ثم تفرغ الذكور الحيوانات المنوية في الماء، وبهذه الطريقة يتم إخصاب البيض.
وحين يفقس البيض وتخرج منه اليرقات، تبدأ سياحتها راجعة في نفس الطريق الذي سلكه أبواها من قبل، وتتغذى في طريقها بالحيوانات المائية الدقيق أما مصير الأبوين بعد وضع البيض وتلقيحه فأمر مجهول تماماً إلا أن بعض العلماء يرجح موتها كما هي العادة عند بعض الحيوانات.
وعندما تعبر اليرقات المحيط إلى النهر تصل إليه في أوائل الشتاء ويعيش جزء منها بقرب مصبه، وهذه تكون في غالب الأحايين ذكور المستقبل والتي تعيش في أعالي النهر تكون الإناث. وتستغرق الثعابين في رحلتها هذه حوالي العامين.
وهناك نوع من الأسماك يهاجر من البحر إلى النهر مثل السمك الأوربي المعروف باسم (حوت سليمان) فهو يهاجر في جماعات كثيرة العدد فينزل البحر الذي يعيش فيه في أواخر الخريف وأوائل الشتاء ويتجه نحو النهر مفترساً ما يصادفه من الأسماك الأخرى، وله مقدرة غريبة على السباحة في النهر ضد التيار، كما أن لديه القدرة على القفز متخطياً بذلك أي انحدار يصادفه في مجرى الماء، وقد وصلت إحدى قفزاته إلى ارتفاع ثلاثة أمتار فوق الماء
وفي الأنهار التي بها سدود تعترض طريقه، والتي يتعذر عليه أن يقفز من أسفلها إلى أعلاها، فكر كثير من العلماء في إنشاء بناء مائل على هيئة السلم بجانب السد ينحدر عليه الماء من أعلى السد إلى أسفله، وبذلك يتاح لحوت سليمان أن يتابع سيره بدون أدنى صعوبة
فإذا ما وصل إلى مصب النهر يصوم عن غذائه وحينئذ تبتدئ الغدد التناسلية في التضخم والنضج
ولقد شوهد أن الحيوان يختار في رحلته هذه الأنهر السريعة الجريان المتدفقة المياه، ولذلك فهو يفضل دائماً أن يرحل إلى الأنهر الأوربية في أوائل الشتاء حيث تهطل الأمطار بشدة وتزداد سرعة المياه في الأنهار لدرجة كبيرة
وتبين أن الحكمة من هذا الاختيار هو أن ماء الأنهر السريعة الجريان يحتوي على كمية كبيرة من غاز الأكسجين المذاب، فإذا ما احتوى اللتر من ماء المحيط على 6 س و3 م من الأكسجين المذاب نجد أنه دائماً يتجه إلى الأنهار التي يحتوي اللتر من مائها على 8 س و3 م أو أكثر من غاز الأكسجين، كما أنه في أثناء صعوده إلى النهر يتخير دائماً الأفرع الغنية بالأكسجين إذ أنه شديد الحساسية لهذا الغاز فإذا ما وصل إلى منبع النهر تكون الغدد التناسلية قد تم نضجها فتبيض الأنثى عدداً عظيماً من البيض ثم يلقح الذكر البيض وبذا يتم إخصابه.
وبعد ثلاثة أشهر يفقس البيض يرقات تتطور وتنمو كل واحدة منها إلى سمكة صغيرة تعيش في مكان أبويها مدة تقرب من السنتين ثم تهاجر من مكانها من النهر إلى المحيط حيث كان مقر أبويها من قبل وهي تسلك في ذلك نفس الطريق الذي سلكه الأبوان في رحلتهما الأولى
تلك كلمة موجزة عن رحلة بعض أنواع السمك، يتساءل الإنسان بعدها ما الحكمة أو ما الدافع الذي يحدو هذه الحيوانات أن تترك موطنها وتهاجر في رحلة شاقة معرضة لأشد الأخطار وكان الأحرى بها أن تبقى حيث نشأت فتتناسل وتتكاثر في أمان.
لم يعثر العلم بعد على تفسيرات شافية لهذه التنقلات العجيبة، وكل فرض قيل في هذا الباب هو من قبيل التخمين ليس إلا؛ فلا زال الإنسان يعترف بجهله أمام هذه الظاهرة الغريبة، إلا أن العلم قد أثبت بصفة لا تحتمل الشك أن هذه الهجرة صفة وراثية يكتسبها الأبناء عن الآباء، يدل على ذلك أنه عند قيام الثعابين السمك الأمريكية التامة النمو بسياحتها من الأنهار إلى المحيط فإن يرقاتها لا ترجع إلا إلى الأنهار الأمريكية التي تربى فيها أبواها فلا يوجد ثعبان السمك الأمريكي في أنهار أوربا ولا في أنهار أفريقيا؛ وكذلك الحال مع الثعبان الأوربي والأفريقي، كل يسلك سبيلاً مرسوماً لا يحيد عنه قيد أنملة، هو السبيل الذي سلكه أبواه من قبل.
رضوان محمد رضوان
بكالوريوس في العلوم الزراعية