مجلة الرسالة/العدد 288/أغرب ما رأيت في حياتي
مجلة الرسالة/العدد 288/أغرب ما رأيت في حياتي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
كيف أقطع مرتب مرجريت؟
وكيف أدخل البؤس إلى صدر موريس؟
كيف؟ كيف؟
المسألة في ذاتها هينة، ولكنها مع ذلك بدت لي في غاية من التعقيد، لأن اتصالي بمرجريت كان أثار حول اسمي شبهات أذاعها فريق من أهل الفضول في باريس، وأظن - وبعض الظن إثم وبعضه غير إثم - أن ابنة صاحب البيت الذي كنت أقيم فيه كان لها دخلٌ في إذاعة الشبهات التي آلمتني في باريس.
كان ناس من المصريين يسألون عني من حين إلى حين فكانت تلك البنت تلقاهم بابتسامة خبيثة، ثم تقول: المسيو مبارك رجل لطيف، فهو لا يُلزم الخدم بترتيب غرفته غير مرة أو مرتين في الأسبوع!
ومعنى ذلك إني أبيت ليالي كثيرة في مكان مجهول.
وكان لي مع هذه البنت تاريخ جميل يغريها بأن تُلقي عليّ حقودها حين أغيب.
وكان المصريون في باريس يتعتّبون ويتلومون كلما رأوني، ويحبون أن يعرفوا أين أقضي أوقات الفراغ.
وكانت حجتي حاضرة، ولكنها لم تكن تُقنع إلا من يريد أن يقتنع. كنت أقول إني تركت في مصر خمسة عشر مليوناً وما يهمني أن أراهم مرة ثانية في باريس.
والواقع أني أحسنت كل الإحسان في هذا المسلك، فلم يكن لي أيّ نفع من تزجية أوقات الفراغ مع المصريين المقيمين في باريس، فأكثر كلامنا حين كنا نلتقي لم يكن إلا ثرثرة سخيفة باللغة العربية حول السياسة المصرية، وربما كنت المصري الوحيد الذي عاش في باريس ولم يعرف مكان السفارة المصرية في باريس.
والواقع أيضاً أن صلتي بمرجريت لم يعرفها أحد قبل اليوم غير شخص واحد هو الدكتور أمين بقطر الذي كلفتُه في إحدى السنين أن يمر على مرجريت ليحدثها عن أشياء لا يمكن أن تكتب في خطاب، ومع خطورة هذه المهمة فرَّط الدكتور بقطر في زيارة مرجريت. . .
وهكذا يكون الإخوان في هذا الزمان!
والحاصل - كما يعبر أهل بغداد - أني كنت أحب أن أتخلص بصفة نهائية من مرجريت، لأني كنت أخشى أن أفتضح في الأندية المصرية، وتحقّ عليّ لعنة خصومي، الخصوم الذين كانوا يعرفون كيف يلطخون سمعتي بالسواد بلا تعفف ولا استحياء.
كان يجب أن أقطع صلتي بمرجريت، وهل بقيت بيننا صلة غير مئات الفرنكات التي أجود بها في كل شهر لأنقذ موريس من الجهل ومن الجوع؟
كان هذا المرتب ثقيلاً جداً، وكان إرساله يضيع علي في كل شهر يوماً أو بعض يوم، وقد اضطرني مرة إلى أن أصرخ بالفرنسية! '
وكنت في كل مرة أتعرض لمكاره كثيرة من التحليلات النفسية، كنت أقول إن لي قرابات كثيرة تعاني الضر والبؤس. وهي أولى بكرمي إن كنت من الكرماء.
وكنت أقول إن مرجريت آوتْ روحي وقلبي خمسة عشر شهراً، ومكنتني من أن أصير أباً كريماً لطفل جميل.
وكنت أقول إن لمرجريت فضلاً عظيماً في مرونة لساني باللغة الفرنسية، المرونة التي مكنتني من أن أحاور هيئة الامتحان في مدرسة اللغات الشرقية خمس ساعات، والتي مكنتني من أن أصاول هيئة الامتحان بالسوربون ثلاث ساعات، وذلك مغنمٌ ليس بالقليل.
كنت أقول إن مرجريت هي التي عرّفتني بدقائق الحياة في باريس.
كنت أقول إني لم أحسن الأكل بالشوكة والسكين إلا بفضل مرجريت
كنت أقول إن مرجريت بكت مرة وأبكتني يوم زرنا معاً مصانع ستروين، حين وقفنا ننظر إلى فتاة تطرق الحديد وهي أرق من الزهر وأكثر إشراقاً من الصياح.
قالت مرجريت: ما رأيك يا محبوبي في هذه الفتاة؟
فتلعثمت
فقالت: قل الحق، ماذا تدفع من الأموال لحديث ليلة مع هذه الحسناء التي تطرق الحديد؟
فقلت: وهل هي أجمل من مرجريت؟
فقالت: دع هذا الأدب المصقول وأجبني فقلت: أقدم حياتي ثمناً للسمر ليلة مع هذه الفتاة
فقالت: وهل تعرف كيف زهدت هذه الفتاة في فتنة باريس لتلهو بطرق الحديد؟
فقلت: أحب أن أعرف
فقالت: هذه فتاة تستعد لتكون ربة بيت، فهي تطرق الحديد لتجمع من الأموال ما يمكنها من أن تكون زوجةً لرجل شريف مثل المسيو مبارك
ثم استغرقتْ في البكاء والنشيج
بكيتُ يومئذ لبكاء مرجريت بكيتُ بكاء لو شهدته الملائكة لأضافت اسمي إلى أسماء الشهداء والصِّديقين
وفي تلك اللحظة جذبتُ يد مرجريت بعنف وقلت: لن نفترق يا مرجريت
فقالت: وكيف؟
فقلت: سأنقلك إلى مصر، إن كان لي إلى مصر مَعاد
فقالت: وماذا أصنع في مصر؟ هل تراني أصلحُ لمعاونة مَدام مبارك على ترقيع الجوارب؟
فقلت: إن مَدام مبارك لا ترقِّع الجوارب
فقالت: كيف تقول هذا وأنت أبخل من اليهود؟!
وضحكنا ضحكاً صنع بالدموع ما تصنع الشمس بآثار الغيث
ذكريات مرجريت كلها لطيفة، ولكن يظهر حقاً أن فيّ شيئاً من أخلاق اليهود، لأني عانيت في حياتي ما يعاني اليهود، وهل يبخل اليهود بالطبع ولهم جدٌّ اسمه السموأل؟
إنما يبخل اليهود بسبب الاضطهاد، وأنا أبخل بسبب الاضطهاد
كان أجدادي من أغنى أهل المنوفية فحملتهم النخوة العربية على التبذير والإسراف إلى أن صافحوا الإفلاس
فأنا أجمع القرش إلى القرش لأصير من الأغنياء
وهل يتفق هذا مع الإنفاق على امرأة جميلة في باريس؟
يجب أن أقطع مرتب مرجريت
ولكن كيف؟
أحب أن أعرف كيف أتخلص من مرجريت كانت مرجريت تكتب إليّ في كل أسبوع خطابين، وكانت تخاطبني بالكاف، وكنت أبخل عليها بالمخاطبة بالكاف، لأني كنت أخشى أن يكون في المخاطبة بالكاف ما يشهد بأني كنت مع تلك المرأة على صلات غرامية
وكانت مرجريت تتألم من ألا أخاطبها بالكاف وتقول: إن بخلك عليّ بالمخاطبة بالكاف يوجب أن أخفي رسائلك عن موريس، وهي كل ما في حياة هذا الطفل المسكين من عزاء.
حرسك الله يا موريس وبارك في حياتك الغالية!
وكانت مرجريت تتحدث في رسائلها عن أشياء دقيقة لا تذكر إلا في رسائل العشاق
وكنت أتغافل عن تلك الأشياء حين أكتب الجواب
وكان هذا يؤذيها أبلغ إيذاء، فكانت تتهمني بالقسوة والعنف
والله وحده يعلم كيف كنت أسيء الأدب في مراسلة مرجريت، فأنا أعيش في القاهرة وهي تعيش في باريس، أنا أحترس تخوفاً من بطش خصومي، وهي تترسل بلا تخوف لأنها تعيش بين قوم يرون صيانة الحب من الشرائع
وهل تعلم مرجريت أن محبوبها الغالي يحيا في القاهرة بلا ناصر ولا معين؟
هل تعلم مرجريت أن محبوبها يشتغل بالتدريس وهو عمل تكدره الشبهات؟
هل تعلم مرجريت أني لا أصلح أبداً لما صلح له فيكتور كوزان الذي كان أعظم أستاذ للفلسفة في باريس ولم يكن له زوجة وإنما كانت له خليلة تحرسه وترعاه؟
إن مرجريت لا تفهم أني مصريٌ يعيش في مدينة لها تقاليد غير تقاليد باريس
يجب أن أقطع مرتب مرجريت وأن أتخلص من مرجريت
وفي أثناء تلك الأزمة النفسية وقع حادث عجيب لم يهتزَّ له في القاهرة قلب غير قلبي، وقع حادثٌ لا يصدقه أحدٌ في الشرق ولكنه زعزع كياني
وقع حادث لم يعلق عليه كاتب مثل المازني أو العقاد أو الزيات، ولم يلتفت إليه مصطفى عبد الرازق ولا منصور فهمي ولا طه حسين
ولكنه زلزل قدميَّ وهدَّ بنياني
وهل يقع في الدنيا حادث أغرب وأعجب من أن يجيء المسيو ميللران رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق ليطالب في المحكمة المختلطة بالقاهرة عن حق إحدى الغواني بالميراث في تركة أحد الأمراء؟
قد أنسى كل شيء، ولكني لا أنسى أني اعتذرت عن دروسي بالجامعة المصرية لأشهد دفاع المسيو ميللران
وماذا قال المسيو ميللران في ذلك اليوم؟
قال إن موكلته امرأة شريفة
وما كاد ينطق بهذه الكلمة حتى صُعِقتُ، فقد فهمتُ أن المرأة من حقها أن تحب، وقد أحبتني مرجريت فمن حقها أن تطالبني بالنفقة الشرعية حين تشاء
وماذا أملك حتى تطالبني مرجريت؟
أملك سمعتي، وهي كل شيء، وبفضل تلك السمعة أتسامى لمنصب الأستاذية في الجامعة المصرية
وقد آن أن أعترف بالخطر الذي كان يهددني في جميع أطوار حياتي، فأنا رجل من كبار العلماء، وستمرّ أجيال وأجيال قبل أن يوجد لي في البحث والاطلاع شبيه أو مثيل ولكني وا أسفاه مولعٌ بدرس سرائر النفس الإنسانية. وأغراني بذلك أني كنت أول دكتور في الفلسفة من الجامعة المصرية، وهذا المعنى هو الذي حملني على الصراحة فيما أسجّل وأقيّد من الأفكار والمعاني، وأغلب الظن أني سأكون أشرف ضحية للدراسات الفلسفية، ولا يغريني إلا شيء واحد هو الشعور بأني أنقذ الأدب العربي من كابوس الرياء والنفاق، ولكن الأدب العربي يحيا لأموت
والحاصل - مرة ثانية - أني عرفتُ وتيقنتُ أني لا أملك قطع مرتب مرجريت
وهل أستطيع الوقوف بالمحكمة المختلطة بالقاهرة أمام محام ذلق اللسان يطالبني بحقوق مرجريت؟
وما هو مبلغ السبعمائة فرنك حتى أهرب من وجه مرجريت؟
إن أصغر مبلغ أتقاضاه على المقالة الواحدة لا يقل عن جنيهين، فما الذي يمنع من أن أنفق على مرجريت مما أتقاضاه من مقالاتي في مثل مجلة الرسالة أو مجلة الهلال؟
وما الذي يمنع من أن أنقذ سمعتي بمبلغ ضئيل هو مئات من الفرنكات؟
ولي مع ذلك تعزية صغيرة هي شعور موريس بأن له أباً هو المسيو مبارك الذي استأنف سياحاته في مصر والشام والعراق
ولي تعزية ثانية هي رسائل مرجريت التي تحدثني عن غرائب الأشياء في باريس
ولي تعزية ثالثة هي الشعور بأن لي غرفة في باريس أدخلها على غير موعد حين أشاء
ولكني مع الأسف الموجع كنت أشعر بأني قد نزلت إلى أسفل دركات الانحطاط، لأني كنت أقدم المرتب إلى مرجريت بفضل الخوف لا بفضل الوفاء
وفي صيف سنة 1937 كانت لي فرصة لزيارة باريس بمناسبة المعرض، وكانت مرجريت تلح في أن أزور ذلك المعرض لأراها وتراني، وقد شجعني سعادة محمد العشماوي بك على زيارة المعرض لأكتب عنه مقالة أو مقالتين، ولكني رفضت
رفضت فراراً من مرجريت
فماذا صنعت مرجريت؟
ماذا صنعتْ مرجريت؟
كتبت خطاباً تقول فيه:
(عزيزي مبارك
يسرني أن أخبرك أن موريس نال إجازة الدراسة الثانوية وقد وجد عملاً بمكتبة. . . بمرتب قدره ثمانمائة فرنك. وبعد أيام سأقف مع المسيو. . . بكنيسة المادلين لأداء مراسيم الزواج. فأرجوك أن تبقي المبلغ الذي تتفضل به شهرياً، فقد ينفعك في تربية أبنائك، ويهمني أن تعرف أنك أشرف رجل عرفته في حياتي، وأن تثق بأن خطيبي لا يغار منك، فقد صارحته بكل شيء، وهو في غاية الدهشة من أدبك العالي، وكل ما نرجوه أن ترسل عبد المجيد لنتولى تثقيفه في باريس)
صديقتك العزيزة جداً
مرجريت
حاشية:
(أنا أقرأ خطاباتك مع زوجي. فهل تقرأ خطاباتي مع زوجتك؟)
آمنت بالله والحب!
لقد أنقذتني مرجريت من العذاب الأليم وفرتُ سبعمائة فرنك قبل رحيلي إلى العراق، وفرتُها وأنا لئيمٌ بخيل
وفرتُ سبعمائة فرنك لأحرم نفسي وقلبي من أبوّة موريس
وفرت سبعمائة فرنك لأرجع إنساناً سخيفاً لا يعرف الهيام بأودية المعاني
مرجريت! مرجريت!
اذكريني بالشعر يوم أموت
هل الله عاف عن ذنوبٍ تسلَّفتْ ... أَم الله إن لم يعفُ عنها يعيدها
(مصر الجديدة)
زكي مبارك