مجلة الرسالة/العدد 287/للتاريخ السياسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 287/للتاريخ السياسي

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 01 - 1939



نتائج اتفاق مونيخ

للدكتور يوسف هيكل

كان يوم الجمعة 30 سبتمبر (أيلول) سنة 1938 يوماً تاريخياً هاماً مغيراً تغييراً رئيسياً لوضعية أوربا الدولية، ولاتجاه السياسة الغربية، إذ به تم اتفاق الدول الأربع (في مونيخ) على حل المشكلة التشيكوسلوفاكية حلاً لم يتوقعه أحد قبل أيام من ذلك التاريخ، فجزأ هذا الحل التشيكوسلوفاكيا وأثر تأثيراً عظيماً وسيئاً على حياتها الاقتصادية والسياسية. وأهم من ذلك أنه أدى إلى نتائج دولية خطيرة، تتصل بعلاقات ألمانيا مع دول جنوب شرقي أوربا والشرق الأدنى من جهة، وبوضعية دول أوربا الكبرى من جهة ثانية.

انتصرت فرنسا عام 1918، فعمل ساستها ورجالاتها على تأمين سلامتها، وإبعاد خطر الغزو الجرماني عنها. إذ ذاقت فرنسا مرارته مرتين في مدة أقل من نصف قرن. واستخدموا لذلك وسائل تأمين السلامة المعهودة قبل الحرب العالمية: المعاهدات والمبادئ التي تولدت عن الحرب الكبرى، والضمان المشترك ضمن نطاق عصبة الأمم

عملت فرنسا عام 1918 على تطويق ألمانيا من الجهة الشرقية بدول معادية فأوجدت بولندا وتشيكوسلوفاكيا، وربطتهما بباريس بمعاهدات دفاعية. ولتقوية مركز تشيكوسلوفاكيا الدولي، وإيجاد كتلة قوية أمام ألمانيا في جنوب شرقي أوربا، ساعدت فرنسا في تكوين التحالف الصغير بين تشيكوسلوفاكيا، ورومانيا، ويوغسلافيا، وربطت هذا التحالف بنفسها بروابط ودية متينة. وفي عام 1935 وقعت فرنسا على معاهدة دفاع متبادل بينها وبين الروسيا، وتوسطت إلى إيجاد مثل هذه المعاهدة بين صديقتها تشيكوسلوفاكيا وبلاد السوفيت. ظنت الدوائر السياسية أن هذه الروابط الدولية جعلت مكان تشيكوسلوفاكيا الدولي متيناً لا يتزعزع، ويحول دون أي تفكير في الاعتداء على جمهورية مزاريك، واعتقدت هذه الدوائر أيضاً أن القوى المناهضة لألمانيا في أوربا الوسطى والشرقية قوية إلى درجة لا تجعل حكومة برلين تفكر في اختراق النطاق الذي يحيط بها في تلك الجهة.

لم تكتف فرنسا بإيجاد ربيبتها تشيكوسلوفاكيا وتقوية مركزها الدولي، بل عملت على تحصين الحدود التشيكوسلوفاكية الألمانية، وتنظيم الجيش التشيكوسلوفاكي وتقويته، لتتمكن من صد أي هجوم حربي ألماني عنها. لهذا أقرضت باريس براغ المليارات من الفرنكات وأرسلت لها المهندسين الحربيين الأخصائيين لإنشاء حصون هائلة على الحدود الألمانية، فأنشئ (خط ماجينو التشيكوسلوفاكي) وصرف عليه ثمانون مليوناً من الجنيهات. ثم أرسلت فرنسا البعثات الحربية لتدريب الجيش التشيكوسلوفاكي وتنظيمه، فأصبح من أنظم الجيوش الأوروبية وأهمها. وزيادة على ذلك، فإن دخول تشيكوسلوفاكيا الجغرافي في قلب ألمانيا يساعد على جعل هذه البلاد مركزاً لقوة طيران عظيمة تستطيع هدم كبريات المدن الألمانية الواقعة في الجهات المختلفة. وقد ساهمت فرنسا في تقوية قوى الطيران التشيكوسلوفاكي، واعتمدت كثيراً على موقع تشيكوسلوفاكيا الجغرافي، لهذه الغاية، فكان بإمكان القوى الجوية المتجمعة في تشيكوسلوفاكيا، تهديد المدن الألمانية بسهولة وفي وقت قصير. فظنت الدوائر السياسية، بعد هذا التحصن وإيجاد هذه القوى، أن لا فائدة لألمانيا من محاولة الهجوم على ربيبة فرنسا. كما أنها ظنت أن لا أمل يرجى لألمانيا من مهاجمة فرنسا لوجود (خط ماجينو) الذي تتحصن فيه عند الحاجة الجيوش الفرنسية، وجيوش دول معاهدة لوكارنو، ولوجود القوى الهائلة المحالفة لفرنسا في أوربا الوسطى والشرقية، التي في إمكانها الانقضاض على ألمانيا من الجهة الشرقية بسرعة وسهولة

خلافاً لهذه القوى التي هي في حد ذاتها قوى فعالة لا يستهان بها إن عرف استخدامها، فإن فرنسا استعملت في تأمين سلامتها من الخط الجرماني، مبدأ (الضمان المشترك) ضمن نطاق عصبة الأمم. فكان من أقوى أنصار عصبة الأمم ومن العاملين على تنظيم الضمان المشترك وتنفيذه ومن أشد الغيورين عليه والراجين منه سلاماً. فهل منعت المعاهدات والضمان المشترك ألمانيا عن اجتياز السور الذي أقيم حولها؟ وبعبارة أخرى، هل أوصلت السياسة التي تبعتها فرنسا خلال العشرين سنة الماضية الشعب الفرنسي إلى ما يبغيه من سلام وطمأنينة؟

لم تنفذ المعاهدات، ولم يعمل بموجب الضمان المشترك. وتمكنت ألمانيا من رفض القيام بما قبلت من واجبات ومن السير بخطى واسعات للوصول إلى ما تبغي وتطمح

وكان أول ما قامت به ألمانيا امتناعها عن دفع التعويض للحلفاء، فلم ترغم على دفعه، ثم قرارها بإلغاء القيود العسكرية في معاهدة فرساي وإعادتها التجنيد الإجباري، وتجديد معامل الأسلحة والذخيرة في بلادها، وبناؤها أسطولاً جوياً هائلاً، فلم يردها الحلفاء السابقون والحاليون عن هذه الأعمال، ثم احتلالها لمنطقة الرين التي تقضي معاهدة فرساي ببقائها مجردة من كل صبغة عسكرية. فلم تتخذ الدول المتعاقدة في لوكارنو الإجراءات العسكرية التي تقضي بها معاهدة لوكارنو لإعادة منطقة الرين إلى حالتها السابقة، ثم ضمت ألمانيا دولة قديمة برمتها إليها، فلم تحرك الدول ساكناً

أما عصبة الأمم فلم تأت بعمل فعال ضد الإجراءات الألمانية، كما أنها لم تنفذ قانونها حين احتلال منشوريا، والحرب الحبشية، والحرب الأسبانية، والحرب الصينية. تلك الحروب التي هي وليدة أنانية الدول الكبرى، وضعف عصبة الأمم المستعمرة ووجود الضمان المشترك بين طيات الأوراق فقط.

وتلا هذه الأزمات والحروب الأزمة التشيكوسلوفاكية. وبعد محادثات اتفقت فرنسا وبريطانيا العظمى على حل النزاع الألماني التشيكوسلوفاكي عن طريق سلمي، فعقد مؤتمر مونيخ وسلمت بريطانيا وفرنسا فيه بمطالب الهر هتلر، وخرج زعيم ألمانيا منه منتصراً من غير حرب.

في مونيخ تم هدم ما بنت السياسة الفرنسية خلال العشرين سنة الفائتة. واتفاق مونيخ كان (ضربة الرحمة) (أي الضربة القاضية) لعصبة الأمم ولمبدأ الضمان المشترك. إذ في مونيخ مزقت تشيكوسلوفاكيا دون أن تعلم عصبة الأمم بذلك، ودون أن يأتي أحد من حلفائها لنجدتها، حتى أن والدتها وافقت على هذا التمزيق.

وتمزيق تشيكوسلوفاكيا أزال قوتها العسكرية والدولية. إذ خسرت تشيكوسلوفاكيا ما يزيد على أربعة ملايين من سكانها وفقدت حصونها وقلاعها التي وضعت فيها قوتها وأموالها كما أنها فقدت أيضاً كثيراً من مواردها الاقتصادية، وأصبحت تحت رحمة جارتها القوية.

أما نفوذها الدولي فقد زال، لزوال مصادره، إذ كانت تشيكوسلوفاكيا تستمد قوتها الدولية من تحالفها مع فرنسا والروسيا ودول التحالف الصغير. فجاء اتفاق مونيخ فألغى تحالفها مع فرنسا والروسيا، وأبطل عملياً وجود التحالف الصغير. لأن دول هذا التحالف لم تأت بحركة قبل مؤتمر مونيخ للدلالة على وجود التحالف. وهي بالطبع لا تستطيع وضع تحالفها موضع العمل بعد اتفاق مونيخ الذي سلمت فيه الدول الكبرى لمشيئة الهر هتلر.

فتحالفها هذا زالت أهميته عملياً، ولم يبق له وجود في السياسة الدولية.

(للمقال بقية)

يوسف هيكل