مجلة الرسالة/العدد 287/رسالة المرأة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 287/رسالة المرأة

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 01 - 1939



المرأة اليونانية

للآنسة زينب الحكيم

عندما تفضل الأستاذ صاحب الرسالة الغراء بفتح (باب للمرأة) في الرسالة، حمدت لحضرته هذا الصنيع الجميل، واعتبرت بدء الرسالة عامها السابع المبارك إن شاء الله فألاً حسنا بالنسبة لعالم المرأة - الشرقية عامة والمصرية خاصة -

وسيكون ما يكتب في هذا الباب، رسالة عالية تمس حياة المرأة من شتى نواحيها، وفق ما تقدره وتفهمه من الحياة المرأة المثقفة التي نالت قسطاً عظيماً من التعليم العالي، وتلك التي تؤهلها مواهبها الطبيعية، واستعدادها الفطري للمبدأ ذاته. كما تجد فيه ما قد تتوق إلى قراءته في سرعة: من أدب رفيع، وعلم مستساغ، وشئون تمس حياتها، بحيث لا يشغل كل هذا إلا جزءاً وجيزاً من وقتها الثمين.

هذا ونرجو ألاّ يحرم ميدان المرأة هذا في مجلة الرسالة التي امتازت من يوم أن أنشئت، بالأسلوب الراقي، والأدب الرفيع، من جولات سيدات مصر المثقفات، حتى يبرهن أن في مصر كاتبات عالمات مثقفات.

المحررة

كان من بين البلاد التي زرتها في رحلتي هذا العام: بلاد اليونان. فإذا تحدثت عنها اليوم، فإنما أتحدث عن بعض ما شهدته وخبرته بنفسي.

فأول ما لفت انتباهي عندما وصلت أتينا الشوارع الفسيحة المنظمة، والأوتوبيس الكبير الطويل الأصفر اللون، وكثرة الحركة في هدوء، فترى الترام وأنواع المركبات القديمة والحديثة، والسيارات ذات الأجرة أو الخاصة، والناس - كل يتخذ اتجاهه في يقظة وهدوء، ولا تزعجك أصوات السيارات، ولا أصوات الباعة المتجولين، ولا مشاغبات أولاد الشارع.

وباعة الجرائد والمجلات، والحلي الزائفة ونظارات التراب الخ لهم أكشاك خشبية نظيفة لطيفة؛ موضوعة على مسافات متباعدة على الأفاريز.

ومن أهم ما أعجبت به رجال البوليس باليونان، ولا سيما الموجودون منهم في مدينة أثينا: هندام مرتب (بذلة رصاصية اللون، وتزلك من الجلد الأسود حول الساقين) يعنون أشد العناية بالقيام بواجباتهم، ويلحظون الزوار الأجانب باهتمام ورفق.

استفسرت عن السر في هذا من وزارة السياحة، فأخبرت أن رجال البوليس الذين في العاصمة، والذين هم في أماكن الاصطياف منتقون من أحسن الرجال وأحسن العائلات، وهم متعلمون، وأغلبهم يتكلمون لغات أجنبية (كالإنجليزية والفرنسية والطليانية) لقنوا كثيراً من الآداب العامة، ويحسنون تطبيقها عملياً في معاملة السياح والناس عموماً. تصدر إليهم أوامر وتعليمات مشددة من رئيس البوليس، وهو رجل مشهود له بالكفاية متمرن على هذا العمل من زمن طويل، واشتغل في سراي جلالة الملك مدة.

استطلعت رأي بعض السيدات في مقدار إقبال الأم اليونانية على إرسال أولادها إلى مدارس البوليس والتجنيد، فعلمت أنهن يفخرن أن يقوم أولادهن بهذا العمل الشريف. والإقبال على الكشافة عظيم؛ ولقد يسر المرأة المصرية أن تعلم أن ليس باليونان أولاد متسكعون في الشوارع، فإن المسيو متكساس رئيس الحكومة اليونانية أمر بانضمام جميع الأولاد المتعطلين والمتشردين إلى فرق الكشافة، وهم يتعلمون بذلك النظافة والنظام، وقضاء مصالحهم بأنفسهم، وفي الوقت نفسه يكوّنون جيشاً يسير في سبيل النظام وحماية وطنه.

الفتيات اليونانيات والكشافة

للفتيات فرق منظمة، وزيهن هو الزي الكحلي اللون مع حزام أبيض رفيع وأربطة رقبة بيضاء، وأغطية الرأس نوع يشبه الفيصلية العراقية كحلية اللون عليها دبوس ذهبي من الأمام.

أما الأحذية فكانت صيفية منوعة. وحركات الفتيات والفتيان ليست على جانب كبير من الخفة والأناقة، عكس ما اتصف به رياضيو اليونان القدماء

لا يمكن لزائر بلاد اليونان التغاضي عما يلحظه من سمات الجد على وجوه الناس هناك، وتقدير الوقت، حتى لقد يظهر على أجسامهم نوع من الإجهاد البدني والفكري في سبيل العيش. . .

إذا سار الرجل في الشارع لا يحمل عصا من أي نوع في يده وإنما يحمل بعضهم السبح، ولم يقع نظري لا في الصباح ولا في المساء على سيدة يونانية تسير وتصحب كلباً أو يتبعها كلب، وإنما يذهبن مجدات إلى محال أعمالهن، ويعدن نشيطات إلى بيوتهن. . قلما رأيت واحدة تلبس حذاء بكعب مرتفع في الطريق، أو تتساهل في ارتداء ملابس لا تتناسب وكل وقت من اليوم؛ ولم يقع نظري على واحدة منهن تساهلت في طلاء وجهها بإسراف، وكثرة النساء اليونانيات ضنينات على العموم بأن يظهرن بمظهر الدمى أو الخلاعة.

والمجتمع اليوناني المشترك هادئ ولا (يلعبون) النرد ولا غيره من ألعاب التسلية المزعجة في الأماكن العامة. وطريقة تحدثهم لطيفة، يستخدمون أيديهم للتعبير أحياناً، ولكن بخفة وهدوء، وقلما يخلو الحديث أو النقاش من نكتة مستحبة مضحكة، ويقرئون الجرائد الخاصة وهم جلوس على المقاهي أو المطاعم أو في الحدائق العامة، ولا يتطفل أحد منهم على جرائد الغير أو ممتلكاته.

المرأة في حدائق زابيون

حدائق زابيون عبارة عن بساتين فسيحة تقسمها شوارع مرصوفة نظيفة، وبها مطاعم ومقاه كبيرة، وتحتوي على (سراي زابيو) نسبة إلى الأخوين زاباس اللذين وهباها للشعب بعد تأسيسها من خمس وخمسين سنة مضت. وبهذه السراي معرض دائم للصناعات اليونانية، من صناعات خزفية وزجاجية منقوشة وملونة باليد، وأقمشة حريرية وصوفية، وأحذية وصور زيتية وخرائط بارزة وغيرها. وبالجملة يعطي هذا المعرض فكرة تامة عن صناعات اليونان الداخلية. وتقوم بالشرح فيه سيدة يونانية.

لحظت أن رواد هذه الحدائق، والذين يجلسون على مطاعمها ومقاهيها لاستماع الموسيقى من طبقة أرقى، فالجمهور المشترك مرتب الهيئة، مهذب العادات إلى حد كبير، تجلس السيدات إلى جانب الرجال من أسرهن في وقار، ويلفت أنظارهن جميعاً مرور الزوار الأجانب ولكن نظرتهم إليهم نظرة صداقة وارتياح.

والمجتمع كله هادئ لطيف المعاملة جداً، يشوش الوجه، قوي النكتة، يغلب على أفراده اللون القمحي، وتختلف الأنوف عن طراز الأنف اليوناني القديم، بينما الذقن والفم، والمنظر الجانبي للوجه لا تزال كلها تحتفظ بالطابع اليوناني الأصيل.

وحركات هاته الفئة من السيدات وملابسهن أنيقة للغاية، والملابس غالية الثمن جداً على بساطة نسيجها وزيها، وكذلك القبعات والأحذية مرتفعة الثمن؛ وبالاستفسار علمت أن سبب ذلك هو استيراد هذه الضروريات من الخارج ولا سيما من ألمانيا، لأن المعامل الأهلية قليلة، والصناعات الوطنية لا تزال بدائية في الوقت الحاضر.

وصف هندام سيدة جلست أمامي

تلبس قبعة حمراء اللون من القش الدنتلا، على شكل هالة من الأمام، في أذنيها قرط مستدير أحمر كلون القبعة، وفي يدها اليسرى سوار ذهبي عريض به فصوص حمراء كبيرة أقتم قليلاً من لون القرط والقبعة.

ثيابها من الحرير الجرْسيه الأبيض السكري، متقن الصنع جداً. وحلى صدره زران، أحدهما مستدير كالقرط، والذي تحته لونه كحلي قاتم، ويحلي أحد أصابع يدها اليمنى خاتم من لون الزرّ؛ وحزام الفستان أحمر من لون فصوص السوار. وحذاؤها أبيض مخرم، وقفازها من الدنتلة البيضاء، وشعرها كستنائي يصل إلى خلف أذنيها.

زينة وجهها بسيطة ومعتدلة للغاية، فلا تعدو قليلاً من الصباغ الأحمر على شفتيها (يضاهي لون القرط) وقليلاً من البودرة على وجهها. وهي ربة منزل من أسرة كريمة، يجلس تجاهها زوجها، وهو أيضاً أنيق الهندام، يلبس بذلة سكرية اللون (يشبه السكروته الفاتحة) وحذاؤه أبيض مع بني، ورباط رقبته أزرق سماوي فاتح جداً وبه نقوش بسيطة من الأحمر الفاتح والبني الفاتح.

أسود الشعر عريض الحاجبين، صغير الشارب حليق اللحية. يكون منظرهما حول المنضدة صورة متناسقة مهذبة.

فإذا صح أن هذا النموذج للأسرة اليونانية الموفقة فمما لا ريب فيه أنهما يتعاونان على الحياة المشتركة في سلام واطمئنان دل عليهما ما دار بينهما من محادثات خاصة وعامة، أثناء تناولهما القهوة، والإصغاء إلى الموسيقى.

(للحديث بقية)

زينب الحكيم