مجلة الرسالة/العدد 287/أغرب ما رأيت في حياتي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 287/أغرب ما رأيت في حياتي

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 01 - 1939


للدكتور زكي مبارك

أنا متهمٌ بالعقل ومتهمٌ بالجنون. فمن وصفني بالعقل فهو متلطف، ومن وصفني بالجنون فهو مسرف. لأني في حقيقة أمري إنسان يعيش بثورة العواطف فوق ما يعيش بقوة العقل، وهي حالة تجعل أمري وسطاً بين العقل والجنون.

والتوفيق الذي ظفرت به في حياتي العلمية مدينٌ لحياتي الوجدانية؛ فقوة الوجدان هي التي حملتني على أن أستقتل في الدراسات الأدبية والفلسفية. وقد يأتي يوم أعترف فيه بالأسباب الوجدانية التي جعلت عقلي يتفوق إلى أبعد حدود التفوق في مثل كتاب النثر الفني أو كتاب التصوف الإسلامي.

وهذه الغرابة في تكوين عقلي وقلبي هي التي تحملني على الجرأة في تدوين هذا الحديث، وهو حديث كنت أفتضح به أشنع افتضاح لو نشرتُه قبل سنتين أو ثلاث، يوم كان لي خصوم يسرهم أن تحاط حياتي بالأقاويل والأراجيف.

أما اليوم وقد قل خصومي بحيث لا يزيدون عن ألف أو ألفين، فأنا أنشر هذا الحديث بلا تهيب ولا تخوف، وليقل من شاء ما شاء.

كنت حين انتسبت إلى جامعة باريس أقضي أربعة أشهر من كل سنة في مدينة النور، ثم أعود إلى وطني لأجمع من الصحافة والتدريس ما أستطيع به الرجوع إلى باريس من جديد. ودام ذلك بضع سنين، ثم عرفت إني لن أصل إلى غرضي إلا إذا قررت بطريقة حاسمة ألا أفارق باريس إلا في أحد حالين: النصر أو الموت.

وكانت الإقامة الدائمة في باريس تبدو من المستحيلات، لأن أبي رحمه الله لم يكن يقدر على إمدادي بكل ما أحتاج إليه. وكان ما ورثته عن أمي طيب الله ثراها لا يزيد عن بضعة قراريط. وكانت زوجتي أفقر مني؛ ولم يكن لي في الحكومة المصرية عمٌّ ولا خال.

وفي تلك الظلمات استطعت أن أتفق مع الأستاذ عبد القادر حمزة على مراسلة البلاغ من باريس بمرتب قدره خمسة عشر جنيهاً، فتوكلت على الله وقررت الاعتكاف بالقبلة القديمة في السوربون.

ولكن مراسلة البلاغ من باريس لم تكن عملاً ينفع إلا في حال واحد: هو أن يشعر ص البلاغ بأني أقدم إليه محصولاً أدبياً ينقل القراء من حال إلى أحوال، فقد كان الأستاذ عبد القادر حمزة اشتهر بين أصحاب الجرائد بأنه يحسن الاعتذار إلى من يريد الاستغناء عنهم من المحررين والمخبرين والمراسلين؛ وكنت جربت اعتذاراته الرقيقة قبل ذلك حين كنت أحرر في البلاغ الأسبوعي سنة 1926. ولكن اعتذاراته في ذلك الوقت لم تكن تؤذيني لأني كنت مدرساً في الجامعة المصرية، وكنت بفضل تلك الوظيفة من المياسير.

ماذا أصنع في مراسلة البلاغ من باريس؟

كنت أستطيع أن أرسل إليه مقالات في الأدب العربي، وأنا من أقطابه بلا جدال، ولكن إرسال مقالات عن الأدب العربي من باريس كان ضرباً من السخف يقترفه من يراسل البلاغ من باريس. وهل يعيش الأديب في باريس ليحدث الناس عن ابن المقفع وابن العميد؟!.

ماذا أصنع؟ ماذا أصنع لأنجو من تسلُّم خطاب رقيق من خطابات الاعتذار التي يجيدها صاحب البلاغ؟ ماذا أصنع لأظفر بخمسة عشر جنيهاً أضيفها إلى المبالغ الضئيلة التي أكسبها من الدروس الخصوصية التي أعطيها للطلبة الضعاف في اللغة الفرنسية من أعضاء البعثات، والنقود التافهة التي آخذها في مقابل المساعدة التي أؤديها لبعض المستشرقين الذين يهمهم أن ينقلوا النصوص العربية إلى اللغة الفرنسية؟

ماذا أصنع؟ ماذا أصنع؟

لم يكن أمامي إلا مسلكٌ واحد: هو الاندماج المطلق في باريس لأحدث قراء البلاغ بأحاديث منتزعة من الحياة الواقعية في باريس.

وما هي إلا أسابيع حتى عرف صاحب البلاغ أنه لن إلى رجل مثلي خطاب اعتذار، وحتى عرف قراء البلاغ أني أحدثهم بما لم يألفوه، وأن البلاغ لن يستغني أبداً عن صاحب (الحديث ذو شجون).

ولكن الانتصار في هذا الميدان له تكاليف

كان لا بد من الاتصال الدائم بأساتذة السوربون ومدرسة اللغات الشرقية لأظفر بما تساميت إليه من الألقاب العلمية

وكان لا بد من معاقرة الحياة في باريس لأنجح في مراسلة البلاغ أما الأساتذة فالظفر بثقتهم سهل، لأني في الواقع من أصلح الناس لفهم ما أسمع من الخطب والمحاضرات، ولأني كنت بالفعل شاباً ناضجاً له في الأدب والفلسفة مذاهب وآراء

الصعوبة كل الصعوبة، والعسر كل العسر، هو في افتراع باريس لأصل إلى أوهام وحقائق أقيّد بها أذواق قراء البلاغ

وكيف أصل إلى هذا الغرض الجليل؟

هدتني الفطرة إلى قضاء أوقات الفراغ في الملاهي والملاعب والمراقص والقهوات، فكنت أقضي في هذه النزهة الطريفة ساعات من النهار وساعات من الليل

كنتُ شاباً، ورحمة الله على شبابي، الشباب الذي بددتُه في طلب الحب والمجد

كنت أذرع باريس بقدمي لأخلق لمقالاتي جوًّا من الحقيقة لا من الخيال

وأعانني على ما أسمو إليه لسانٌ مرن في اللغة الفرنسية مرونة عجيبة تقدر على جذب من أحاور من أسراب الظباء

والفرنسيون يغفرون للرجل جميع الذنوب إذا أمدته العناية الإلهية بلسان فصيح

وكان لي في باريس ثلاث قهوات: قهوة صغيرة جدّاً في بولميش بجوار (قهوة الرحيل) التي كان يجلس فيها الدكتور طه حسين يوم كان طالباً في جامعة باريس

وكانت هذه القهوة الصغيرة مخصصة للمواعيد الغرامية، والتأملات الفلسفية، فكيف صارت اليوم؟ ليتني أعرف!

أما القهوتان الأخريان فهما الروتوند والدُّوم في حي مونبارناس

كيف كنتُ أصطبح وأغتبق بهاتين القهوتين؟

كان مفهوم عندي أن لا سبيل إلى معاقرة الحياة إلا في مونبارناس

وإنما كان ذلك لأني كنت أتهيب مونمارتر تهيباً يصل إلى الفزع والرعب، فقد تشاجرت فيها مع أحد الشبان الفجار في سنة 1927 وكاد اسمي يقيد في سجلات البوليس لولا لطف الله. وكانت هذه التجربة القاسية كافيةً لأن أقنع بالضلال في حي مونبارناس

وفي قهوة الدوم وقعت المأساة أو الملهاة التي أدونها في هذا الحديث:

دخلت ذات صباح فوجدت سيدة تطالع سِفر الوجود بعينين زرقاوين يندر أن يكون لهما شبيه أو مثيل وجلستُ بالقرب من تلك السيدة عساني أنهب منها نظرة أو نظرتين أستعين بهما على إتمام بعض الفصول من كتاب (سحر العيون) الذي أرجو أن يظهر بعد قليل

وما هي إلا دقائق حتى تلاحظْنا برفق وعطف

ثم أشارت بأن أقترب فاقتربت

رباه! متى تعود أيامي؟

وبعد أن دار كأس الحديث نحو عشرين دقيقة عرفت أنها من البغايا

أعوذ بالله؛ أعوذ بالله، أعوذ بالله!!!

أمثل هذا لحسن يكون من نصيب الفَجَرة الأوباش؟

أتكون هذه الحسناء الفتانةُ شبيهةً بالشمس ينعم بضوئها من يشاء ولو كان من الخفافيش؟

أتكون هذه التحفة الفنية شبيهةً بكرائم الأنهار يشرب منها البهائم والدواب؟

أتكون هذه العيون السواحر من نصيب من يساعده القدر المخبول فيملأ جيبه بالدراهم ولو كان من الأغبياء؟

أتكون هذه الدُّمية شبيهةً بالحجر الأصم الذي تسجل عليه حوادث الأفّاقين؟

ليتني مت قبل أن أشهد ذلك المنظر الأليم!

ليتني مت قبل أن أعرف أن مثل ذلك الحسن يباع!

ألك يا رباه حكمة في إذلال هذه الروائع الفنية التي زينت بها الوجود؟

ارفع الحجاب مرة واحدة، يا رباه، لأعرف أسرار السياسة العالية التي تسوس بها مخلوقاتك!

وهجمتُ على تلك السيدة الجميلة بعنف فقالت:

اسمع أيها السيد، ليست الغواية من همي ولا من مناي. أنا امرأة شقية خدعها شاب مثلك باسم الحب، وكانت ثمرة الحب طفلاً هو اليوم تلميذ بمدرسة (. . .) وقد هجرني الحبيبُ والدُ الطفل وتركني وحدي أربيه وأرعاه، فأنا أتسول باسم الحب لأنفق على ذلك الطفل المسكين، إلى أن يظهر أبوه، إلى أن يظهر ذلك الوغد الذي هجر معشوقته وطفله منذ سبع سنين. فإن كنت تدعي الرجولة الصحيحة فتقدم لحمايتي ورعاية طفلي، وسترى كيف أجزيك عطفاً بعطف وإخلاصاً بإخلاص وما كدت أسمع هذا القول حتى دارت الأرض تحت قدمي

ومن أين أنفق على هذه السيدة وعلى طفلها وليس لي من جريدة البلاغ ومن الدروس الخصوصية إلا مبلغ ضئيل من المال لا يزيد على ثلاثة آلاف من الفرنكات، والحياة قاسية أشد القسوة على الغرباء في باريس؟

ثم نظرت فرأيت هذه المرأة تعرض مشروعاً نبيلاً قد يرفع روحي بعد إسفاف. فصوبت بصري إليها وقلت: وكيف أضمن أن تتوبي عن حياة الرجس؟

فقالت في استحياء: إن لغرفتي مفتاحين!

فقلت: وما معنى ذلك؟

فقالت: لك مفتاح ولي مفتاح، فخذني لنفسك وراقبني كيف تشاء، فإن استطعت أن تشهد عليَّ ما يريب بعد اليوم فاقتلني. والمهم أيها السيد أن ينجو طفلي من الجهل ومن الجوع

وفي تلك اللحظة تذكرت عبد المجيد فغلبني الدمع

تذكرت أني تركت في مصر الجديدة أطفالاً منهم عبد المجيد الذي كان يزعزع كياني حين يقول (بابا)

- وما اسم ابنك يا سيدة؟

- اسمه موريس

- هلم بنا إلى التسليم على موريس!

قد أنسى كل شيء، ولكني لن أنسى طلعة موريس

قد ينسيني الموت جميع ما حفظت من اللغة الفرنسية، ولكني سأذكر في قبري عبارة باقية في اللغة الفرنسية حين طلع موريس فقالت له أمه:

وتوهم الطفل أني أبوه فقبلني بحرارة والدموع في عينيه

-

-

واستأذنا مدير المدرسة فسلم إلينا الطفل ليقضي معنا ليلة في مباهج باريس

وسألني الطفل: أين كنت؟ فأخبرته أني توجهت إلى الشرق لزيارة القاهرة وبغداد وبيروت، واخترعت له أقاصيص تعجبه وتلهيه، ولم يفتني أن أحدثه عن أخبار الجن والعفاريت.

وفي تلك الليلة هجر الطفل صدر أمه وسكن إلى صدري لينام نوم السعداء

وفي تلك الليلة شعرت أن روحي ارتفع إلى أجواز السماء

كان موريس ورث عن أمه الفرنسية صفرة الشعر وزرقة العينين، وكان ورث عن أبيه الهولندي شمائل من السجاحة واللطف، وكان في جملته وتفصيله تحفة من تحف الوجود.

وقد وجد من عطفي وحناني كل ما يتمناه ويشتهيه، فانطلق يحدث أترابه في المدرسة بالنعيم الذي يلقاه في يومي الأحد والخميس

وفرحت مرجريت بما صارت إليه من راحة البال وصفاء النفس بعد الهيام الأثيم بأحياء باريس

ومضت تقترح ما تشاء من المغامرات فعلمتني الرقص وطوفت بي على المكنونات من صناديق الليل

وبفضل مرجريت عرفت من خبايا باريس ما لا يعرف الشياطين ولم نكتف بذلك، بل نقلتني إلى رُوَان والهافر وأطلعتني على المستور من شواطئ المانش، وأقامت معي في الضواحي النائية أسابيع

والله وحده يعلم كيف عاشرتُ تلك الحسناء، فلو أني قلت إني كنت في حبها من الأطهار لما صدقني مخلوق، لأن سمعتي تعرضتْ لأخطار كثيرة بسبب التهالك على أخبار الملاح، ولكن الواقع أني كنت في صحبة تلك السيدة رجلاً نبيلاً. وأجمل ما نلتُ منها لم يزد عن قُبلة شهية طبعْتها على جبيني حين أخبرتها أني متأهل ولي أبناء. وقد قهرتني على قبول هدية من العطر و (الكريم) لأرسلها إلى ابنتي أو زوجتي، وقد قبلت الهدية ثم ألقيتها خِفيةً في نهر السين

كانت مرجريت متعِبةً إلى أبعد الحدود

قالت ذات يوم: أنت يا دكتور معرض للسمنة لكثرة ما تشرب من البيرة

فقلت: هذا حق!

فقالت: ما رأيك في سياحة على الأقدام إلى ليون؟

فقلت: وفي كم يوم نصل على الأقدام إلى ليون؟

فقالت: في نحو أسبوع فحملنا أثقالنا واتجهنا نحو ليون ماشيَيْن

وبعد يوم واحد تعبتُ، فحملتها على الرجوع بالقطار إلى باريس

ليتني أطعت مرجريت وذهبت ماشياً إلى ليون لأعرف كيف يعيش الناس في الأقاليم الفرنسية، ولأجدد الأنس بصحبة مرجريت يوم همنا على وجوهنا في الحقول النورمندية!

كانت مرجريت ضجرت من حياة الفتون

وكنتُ ضجرتُ من حياة الفتون

وكنا نتشهي أن نعرف معنى التصوف في الحب، وكيف لا نتصوف في الحب وقلوبنا معمورة بحب الطفل العزيز موريس؟

وبعد أن دام هذا النعيم النبيل خمسة عشر شهراً وصلتُ إلى ما أريد في امتحانات مدرسة اللغات الشرقية وامتحانات السوربون، وصممت على الرجوع إلى أهلي وأبنائي، ولم يكن بدٌّ من توديع مرجريت وموريس

وأي توديع؟!

كان من الواجب أن أردَّ المفتاح إلى مرجريت، فرفضتْ والدمع في عينيها الزرقاوين، وقالت: احفظ هذا المفتاح فقد تصل على حين غفلة إلى باريس

وكانت مرجريت لا تزال معرَّضة للفقر والبؤس فوعدتها بإرسال سبعمائة فرنك في كل شهر لتستطيع الإنفاق على نفسها وعلى ابنها الغالي، وأنا أفِي إذا وعدتُ

كانت الدنيا في ذلك العهد لا تخيفني، وهل يخاف من يرجع مزوَّداً بأعظم الألقاب من باريس؟

ولكني لم أكد أصل إلى مصر حتى عُطلت جريدة البلاغ

فأرسلت إلى مرجريت أستعفيها مما وعدتُ، فكتبت تصفح عني وتسأل الله أن يفتح لي أبواب الرزق

وما هي إلا مدة قصيرة حتى استجاب الله لدعوة مرجريت فكنت آخذ من الجامعة الأمريكية ثمانية وعشرين جنيهاً، ومن اللِيسيه اثنين وعشرين جنيهاً، ومن البلاغ خمسة عشر جنيهاً بغض المطر عما كنت آخذه من المكتبة التجارية ومن مجلة الهلال

ورأيت أن أزيد مرتب مرجريت فكنت أرسل إليها في كل شهر ألف فرنك وعرف موريس فضل (أبيه) فكان يرسل إليَّ في كل أسبوع خطابين

حرسك الله يا موريس وكتب لك التوفيق!

وفي سنة 1933 ذهبت إلى باريس لأحضر مؤتمر (الميسيون لاييك) نائباً عن أساتذة اللغة العربية بمعهد الليسيه. ذهبت ومعي المفتاح لأزور مرجريت ولكني استكبرت عن زيارة مرجريت، وهل يفكر الأساتذة الكبار في العطف على امرأة نكبتْها المقادير؟

ولما رجعتُ من المؤتمر نقصتُ مرتب مرجريت من ألف فرنك إلى سبعمائة فرنك، واعتذرت بأن مواردي نقصتْ وأني لم أعد أملك غير التدريس بالليسيه والتحرير في البلاغ

فكتبتْ مرجريت تقول إنها ترضى مني بأن أعترف أنها استطاعت مرةً واحدة أن تدخل النور إلى حياتي

أعترف يا مرجريت بأنك بددت الظلمات في حياتي

طال العهد على لقاء مرجريت، وطال العهد على لقاء موريس وحملني لؤم الطبع على التخلص من مرجريت وموريس، وهل كانت مرجريت زوجتي؟ وهل كان موريس ابني؟ وهل كنتُ أول شاب أطاع الغواية في باريس؟ يجب أن أقطع المرتب الذي خصصتهُ لمرجريت وموريس، ولكن كيف؟

لذلك تاريخ سنراه في الأسبوع المقبل

(مصر الجديدة)

زكي مبارك