مجلة الرسالة/العدد 285/للأدب والتاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 285/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 12 - 1938



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 45 -

ليس الغرور لميت بمتاع؛ وما يجدي شيئاً على الرافعي أن يكون كل وفاء العربية له أن نقول: كان وكان يرحمه الله!

لقد كان الرافعي صاحبَ دعوة في العربية وفي الإسلام يدعو اليها؛ فحقُّه على العربية، وحقُّ العربية على أدبائها، وحق الإسلام على أهله، أن نجدِّد دعوته، وأن نبقي ذكره، وأن ننشر رسالته، وأن نُعنى بآثاره؛ فإذا نحن قد وُفِّقنا إلى كل أولئك فقد وفَينا له بعض الوفاء!

والآن فلننظر لنرى مقدار ما يمكن أن تصل إليه هذه الدعوة من النجاح؛ وأمامنا إلى ذلك وسيلتان:

أولاهما أن نعرف مدى تأثير الناشئة من المتأدبين اليوم بأدب الرافعي ومذهبه؛ والثانية هي البحث عن آثار الرافعي ومنشآته الأدبية وتراثه الفكري لنحرص عليه من الضياع.

فأما الأولى فإن بين الرافعي والأكثرين من ناشئة المتأدبين في هذا الجيل حجاباً كثيفاً يمنعهم أن ينفذوا إليه أو يتأثروا به لعوامل عدة:

فالرافعي أديب الخاصة، كان ينشئ إنشاءه في أي فروع الأدب ليضيف ثروة جديدة إلى اللغة تعلو بها وتَعِز مكاناً بين اللغات؛ ثم ليبدع أدباً يسمو بضمير الأمة ويشرع لها طريقاً تسير فيه إلى عظمة الخلد ومجد التاريخ.

وشبابنا أصلحهم الله لا يعرفون الأدب إلا ملهاة وتسلية، لا ينشدونه للذة العقلية وسموِّ النفس ولكن ينشدونه لمقاومة الملل وإزجاء الفراغ.

فهذا سبب

والثاني أن الرافعي - رحمه الله - لم يكن يكتب الكتابة الصحافية التي ينشئها أكثر كتابنا ليتملقوا غرائز القراء بالعبارة المتهافتة والقول المكشوف. وعند المتأدبين من ناشئة اليوم أن قيمة الأدب هي بمقدار انطباقه على أهواء النفس وارتياحها إليه وقدرتها على أن تسيغه بلا تكلف ولا عناء.

وثمة سبب آخر، هو طغيان السياسة على الأدب في هذا الجيل طغياناً أقحم على الأدب ما ليس فيه وعلى الأدباء من ليس منهم؛ بحيث يتحرج أكثر الأدباء أن يقولوا قلة أو رأياً أدبياً في أديب أو شاعر إلا متأثرين بما كان له من مذهب سياسي أو رأي في السياسة المصرية.

والرافعي رجل - كان - لا يعرف السياسة ولا يخضع لمؤثراتها، ولم يكن يعتبر له مذهباً في النقد إلا المذهب الأدبي الذي لزمه منذ نشأ في الأدب؛ فمن ذلك كانت خصوماته الأدبية تنتهي نهايتها إلى اتهامه في وطنيته وفي مذهبه السياسي؛ ورآها أكثر خصومه من كتاب الشعر فرصة سانحة لينالوا منه عند القراء، فانتهزوها، وبالغوا في اتهامه، وأغرقوا في الطعن على وطنيته وتأولوا مذهبه، حتى عاد عند أكثر القراء رجلاً لا وطنية له ولا إنسانية فيه ولا إخلاص في عقيدته. وما تزال السياسة عند أكثر شباننا ذات سلطان، وما زال الأدب يجري في غبار السياسة وهو أعلى مكاناً وأرفع منزلة. . .

ولقد يضاف إلى كل أولئك سبب أخير، هو أن أكثر ما كان يتناوله الرافعي من شؤون الأدب هو ما يتصل بحقيقة الإسلام أو معنى من معانيه. على أن الكثرة من ناشئة المتأدبين يريدون أن يفرقوا بين الأدب والدين، فلا يرون ما ينشأ في هذا الغرض لوناً من ألوان الأدب أو مذهباً من مذاهبه.

تلك جملة الاسباب، أو مجمل الأسباب، التي باعدت بين أدب الرافعي وبين الجمهور من ناشئة المتأدبين، ما بد من النظر فيها والبحث عن علاجها حين نهم بأن نجدد دعوة الرافعي وننشر رسالته، إن كان ثمة يقين بأن أدب الرافعي حقيق بالخلود؛ وإن اليقين به ليعمر قلب كل أديب يؤمن بأن الدين واللغة هما أول المقومات لقوميتنا العربية المسلمة.

ذلك شيء.

أما آثار الرافعي فلها حديث طويل.

هذه دكاكين الوراقين ليست فيها كتاب من كتب الرافعي،

وهذا مكتب الفقيد عليه كتب من كتبه لم تطبع ولا يعرفها أحد من الأدباء.

كل ما في يد العربية من منشآت الرافعي هو صدى كلمات وعنوانات كتب، أما حقيقتها ومعناها فقد انفرط الجيل الذي درسها أو كاد فلم يبق للجيل الناشئ منها غير عنوان:

ديوان الرفعي، ديوان النظرات، تاريخ آداب العرب، إعجاز القرآن، حديث القمر، المساكين، رسائل الأحزان، السحاب الأحمر، أوراق الورد، تحت راية القرآن، على السفود، وحي القلم

هذا كل ما طبع من مؤلفات الرافعي؛ فليسأل كل أديب نفسه: ماذا قرأ من هذه الكتب وماذا حصَّل وماذا أفاد؟

إنها لمكتبة حافلةٌ جديرة بأن تنشئ مدرسة جامعة لمن يريد أن يتزوَّد من العربية أَمرأ زاد وأشهى غذاء، ليكون أديباً له لسان وله بيان وله منزلته الأدبية في غد

إني لأكاد أوقن أن تسعين من كل مائة من القراء لا يعرفون من هذه الكتب إلا أسماءها، وإن منهم لَمن يتوهم أن من حقه أن يتحدث عن الأدب ويؤرخ لأدباء الجيل.

وما عيبٌ على مَن لم يقرأها أنه لم يقرأها؛ ولكن العيبَ كلَّ العيب علينا عامة نحن المشتغلين بالأدب أن يكون كل وفائنا لمن يموت من أدباء العربية أن نقول كان وكان ويرحمه الله ولا نعمل على تخليد أدبه بما ننشر من آثاره

لقد أدى الرجل واجبه ما استطاع وبقى علينا فرضٌ واجب الوفاء

على أن ما سبق طبعه من كتب الرافعي هينٌ خطبه؛ فسيأتي جيل يكون أكثر تقديراً لأدب الرافعي من هذا الجيل وسيُعيد سيرته وينشر أدبه

ولكن كتباً هناك ما تزال قصاصات من ورق على مكتب الفقيد تنتظر من يخرجها للناس قبل أن يسبق إليها العث والفيران.

فهل في أدبائنا وفي حكومتنا من العزم وحسن التقدير ما يحملهما على معرفة واجب العربية وواجب هذا الراحل؟

كم نبكي وكم نعول على ما ضاع من تراثنا الأدبي وما فقدته المكتبة العربية من منتوج أدبائها الفحول في عصر الجهل والانحطاط، وهذا تراث بين أيدينا يوشك أن يتبدد ويذروه الهواء!

لقد أورثني الرافعي بعض تبعاته، وإني لأحس بثقلها على عاتقي أكثر مما أحس بحاجتي إلى التحدث عن ماضيه

لقد عاش الرافعي حياته يجاهد لامته ما لم يجاهده أديب في العربية منذ قرون، وقضى حياته يلقى من العقوق ونكران الجميل ما لم يلق أديب في العربية منذ كانت العربية؛ ومات فما كان حظه منا في أُخراه أحسن منه في دنياه. فهل لي أن أؤمل أن تتنبه الأمة والحكومة إلى ما ينبغي أن يكون، وفاءً لهذا الراحل الكريم؟

ليس يكفي أن يكون كل وفائنا للرافعي، حفلة لتأبينه وبضع كلمات في الصحف لرثائه، ولكن الوفاء حق الوفاء أن نعمل على تخليد ذكراه بتخليد أدبه، وتجديد دعوته، وإبقاء ذكره، ونشر رسالته، فليكن هذا الكتاب الذي أنشأته عن (حياة الرافعي) أولاً له ما بعده، لنفكر في الوسائل النافعة التي تجدي على الأدب والعربية أكثر مما تجدي رسائل التائبين وكلمات الترحم والاسترجاع!

أما هو فقد انطوى تاريخه على هذه الأرض، فلن يجدي عليه شيئاً ما نفعل وما نقول؛ ولكن ما نفعله وما نفكر فيه إنما هو لخيرنا وجدواه علينا، فلنفكر في أنفسنا وفي ذواتنا وفيما يعود علينا وعلى العربية في تجديد ذكر الرافعي، إن كان يعز علينا أن نعمل أو أن نفكر إلا فيما تكون منفعته إلينا ولنا من ثمراته نصيب!

(شبرا)

محمد سعيد العريان