مجلة الرسالة/العدد 285/في الأدب العراقي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 285/في الأدب العراقي

ملاحظات: بتاريخ: 19 - 12 - 1938



ديوان الشبيبي العتيد

للأستاذ الحوماني

في الكرادة من ضواحي بغداد وعلى شاطئ دجلة بيت متواضع يسكنه الشاعر العراقي الكبير الشيخ (محمد رضا الشبيبي) وزير معارف العراق.

هو في منتهى دور الكهولة ويوشك أن ينهد إلى الخمسين، يعمل عقله فيما يجيب أو يقترح، تتخلل جمله في القول فترات تنم على ذلك، رزين كل الرزانة وهو يحدث، ويميل في شعره إلى الإصلاح الأخلاقي في المجتمع. لا يحب أن يجامل ولا أن يظهر أمام زائره بمظهر العز المكسوب، يزيد التألم خديه وما أحدق بعينيه - وهو يتكلم - تجعداً يبدو لك من وراءه ومن خلال ابتساماته الضئيلة سر عميق في نفسه يبعثه البؤس والشقاء مما يكابد في قومه. وإذا لم يرقه حديث جلسائه ولم يستطع مغادرة المجلس تشاغل بمطالعة الصحف، وقد يشيح بوجهه وهو يتكلم كأنما قد ذكر أمراً قد أنسيه، ثم يمعن في التشاغل عنك حتى إذا لفته إليك أدب المجالسة عاد مقبلاً عليك تقرأ في وجهه الاعتذار لك. لا يستقر به المجلس أكثر من بضع دقائق، وإذا لفته الزهر المحدق بالمجلس رأيته على ما فيه من رزانة يستخفه النظر فيهيم في الروض مع نسيم دجلة البليل.

الروح الشاعرة إما أن يربيها الألم فينشأ صاحبها متشائماً قليل الحظ من متع الحياة، فلا تراه في شعره غير شاك أو متألم؛ وإما أن تربيها اللذة فينشأ صاحبها متفائلاً لا يعرف وجهاً للألم في الحياة.

وقد تربى الروح الأولى في النفس نقمة على المجتمع واستعداداً للانتقام منه، كما قد تربى الروح الثانية في نفس الشاعر النكتة في الأدب والاستسلام للشهوات.

وقد يتعزى الشاعر المتألم بملهى أو مقهى كما قد يثوب أخوه الغاوي ويرعوي عن غيه فيلهمانه معاً جمال الشعر النفسي في معرض الآلام، على أن الأول أكثر تألماً لما يستقبل، والثاني أمضى ألماً على ما خلف

يعجبني من النوع الأول شعر العلامة الشبيبي يقول:

هي السائل والأشعار والخطب ... هَمٌّ عليَّ ثقيل هذه الكت إحدى العجائب عداً أن يثقفنا ... قوم ثقافتهم في أرضنا عجب

من معدن الشر ما سنوا وما شرعوا ... ومن معانيه ما خطوا وما كتبوا

في كلماته هذه صورة بالغة في الألم النفسي. وأمض ما يؤلم الشاعر الحر أن يرى الحق مهجوراً والباطل يعمل به، وآلم لديه من ذلك أن يرى ذا الباطل يتولى الحكم في الناس على أنه محق ثم يعاقب المحق على أنه مبطل.

يرى الشاعر الحر كل ذلك ثم يرى بعده أن المجتمع راض عن هذه الحكومة، أو يتجرعها على مضض وهو يستطيع أن يلفظها، فلا يلبث شاعر الإنسانية أن يقذف بركانه حجراً تفيض به نفسه شعراً.

شر العصور وفي العصور تفاوتٌ ... عصر به تتقدم الأوغاد

أنظر إلى الأعجاز كيف تصدرت ... وعمائم السادات كيف تُساد

ثم هو يقول وقد غادر وطنه العراق إلى دمشق فحن إلى الكرخ أحد أحياء بغداد:

ببغداد أشتاق الشام وها أنا ... إلى الكرخ من بغداد جم التشوق

هما وطن فرد وقد فرقوهما ... رمى الله بالتشتيت شمل المفرق

ويقول في التمدن العنصري مشيراً إلى الغرب:

يعيش سعيد مفرد بين معشر ... شقي وحيٌّ واحد بين أموات

وكم جسد فوق الأخادع شاخص ... إلى جثة تحت الاخامص ملقاة

وما الزمن الماضي بأعظم محنة ... من الحاضر الموصول بالزمن الآني

يظنون هذا العصر عصر هداية ... وأجدر أن ندعوه عصر ضلالات

فإن خرافات مضت قد تبدلت ... حقائق إلا أنها كالخرافات

تلك هي نفثات شاعر المجتمع ينظر إلى أمة بعين ملؤها الحنان وقد ضغطها ظلم القوى فأهابت بشاعرها وهو مغلول اليد فأطلق فكرة من عقال الوهم والخيال، ثم أجالها فيما يقمع الظلم ويتمشى معه إلى إصلاح شعبه. ألم تره وقد لاح له بارق أمل يتلمس في أمته روح النهضة من وراءه، يثير الهمم ويشحذ العزائم حيث يقول:

نفذ الصبر فهبت فزعاً ... وأبى السيف لها أن تضرعا

أمة خرساء كم واش وشى ... بنواديها وكم ساع سعى أزمعت ألا يراها حملا ... غاصب صال عليها سبعا

إلى أن قال:

صلة الشرقي بالماضي ارجعي ... لا تعودي سنداً متقطعا

جددي عهد على غازياً ... وأعيدي مالكا والنخعا

ربما وقفت من الشاعر على بيت واحد علمك أنه شاعر، فلا أريد أن أشير لك إلى هذه القطع وما فيها من روح فياضة بالألم الممض مما يسمع ويرى، ولا أن أقول لك إن الروح الفياضة بالحزن أدق شعوراً بالحياة من الروح الفياضة بالسرور، وقد عرضت لإثبات ذلك مراراً مرت بك. أجل، ولا أريد أن أرجع بك في إثبات الشاعرية لهذا المصلح العراقي الكبير، إلى ما في هذه الأبيات من دقائق وقفت بالشعور الحي أن يتجاوزها إلى ما تسمع كثيراً وتقرأ كثيراً من شعرائنا الخنع في عصر النهضة.

وإنما أريد أن تعود معي إلى تصفح هذه القطع مرة ثانية لأسألك عما تشعر وأنت تقرأ عجز المطلع الأول: همٌّ عليَّ ثقيل هذه الكتب. وعما يخلقه في نفسك حنينه وهو في الشام إلى الكرخ من بغداد؟ ثم إلى ماذا يصل بك عبث الخيال وما يأتيه من فن؟

وقد يحسب العقل الواهم أن الشاعر قلما يعمل الخيال فيما تثور معه العاطفة من شعر، وكثيراً ما يقولون: إذا ثارت العاطفة كان الشعر، غالباً، خلواً من الإبداع في الفن.

أما إن عنوا بذلك خلوه من الفن اللفظي فأنا معهم، لان توجيه الفكر إلى صناعة اللفظ يحول دون فيضان الروح بما تتأثر به من مشهد يثير فيه عاطفة ما، وإذا تأثرت الروح فليس للعاطفة أن تمهل الفكر في أعمال الخيال، ضرورة أن الإبداع فعل، وثورة النفس انفعال يجيش بركانه في الصدر فيقذف حممه.

وأما أن يريدوا خلوه من الإبداع في الفن من حيث تناوله اللفظ والمعنى معاً أو المعنى فقط فلا أراني على وفاق تام معهم لما سمعت من قوله (شر العصور الخ) إلى ما جاء في القطعتين الأخيرتين فقد يبرهن لك عن اجتماع الخيال مع العاطفة فيخرج الشعر خالد الفن بين خيال يبدع وعاطفة تثور.

هذه كلمة نسوقها تمهيداً لهذا الشعر الخالد من الشعر العبقري قبل أن يخرج ولما يزل تحت الطابع؛ وسوف نعززها بكلمات بعد خروجه تكشف عن كثير من أسرار هذا الشاعر العبقري المعجز في عالم الفن.

الحوماني

نزيل بغداد