مجلة الرسالة/العدد 284/رجال التربية والتعليم
مجلة الرسالة/العدد 284/رجال التربية والتعليم
في وزارة المعارف
للدكتور زكي مبارك
الذي يقرأ الجرائد المصرية يتوهم أن وزارة المعارف عبارة عن بناية فسيحة الأرجاء، يجلس فيها الموظفون هادئين وادعين يتبادلون التحيات والسجائر والشاي والزنجبيل
وإنما يكثر اللغط حول وزارة المعارف لأن موقعها بين سائر الوزارات، يشبه موقع كلية الآداب بين سائر الكليات. فوزارة المعارف تهتم بتعويد الناس على فصاحة الكلام فيكثر حولها الكلام الفصيح، بالنقد والتجريح؛ وكلية الآداب تحرص على أن تتفلسف فيكثر في نقدها المتفلسفون، ولا يظلمك من يرد إليك بعض ما تنفق!
والحق أن وزارة المعارف في هذه الأعوام لا تعرف الهدوء، فهي نار تستعر في الصباح والمساء
ومن كان في ريب من ذلك فليزر مكاتب الوكلاء والمراقبين والمفتشين، فان فعل فسيعرف أن في القاهرة مكاناً يشبه برج بابل في أساطير الأولين
يستطيع من يهمه الوقوف على مصادر الحيوية في وزارة المعارف أن يزور أي مكتب من تلك المكاتب ليوقن بأن الجد الصريح هو أساس العمل في تلك الدار الفيحاء
احضر إن شئت إلى تلك الوزارة وفي يدك قلم وقرطاس لتدون ما تسمع من الجدل حول المذاهب التعليمية، ولتدون ملاحظاتك الخاصة على مذاهب أولئك القوم في الحياة، وإني لموقن بأنك ستخرج من ذلك بمحصول نفيس
ويحسن ألا تمر على مكتب وكيل الوزارة أو مكتب الوكيل المساعد، فان الاستفادة من هذين المكتبين لا تضمن إلا لمن عرف سرعة الكهرباء في إنجاز الأعمال
ويغلب علي الظن أن الرجل الذي اسمه محمد العشماوي يملك شيئاً من مواهب الشعراء، فسرعته في تسوية المشكلات ليست إلا ضرباً من أعمال الشياطين
أما عوض إبراهيم فتظهر قدرته السحرية حين تصبح الأعمال كلها فوق كاهله حين يغيب الوكيل. وهذا الرجل من كبار الأكفاء ومن أعمدة وزارة المعارف، وإن كان يتعرض لطغيان الألسنة من حين إلى حين وفي برج بابل هذا ناس لا يتكلمون إلا قليلاً، أمثال حسن فائق ومحمد حسين وصادق جوهر وأحمد عاصم والعجاتي ومحمد الدمرداش، ولكن في هؤلاء الرجال الصامتين خصوصية عجيبة، فهم يعتقدون أن وزارة المعارف دارهم، ولا يخطر في بالهم أنهم موظفون، وإنما يكافحون ويجاهدون وكأنهم يدبرون ملكهم الخاص، وما وقع بصري على هؤلاء الرجال إلا أحسست الغيرة تلذغ قلبي، فأنا أتمنى أن أملك بعض ما يملكون من قوة وإخلاص ويؤذيني أن يكونوا أصدق مني في خدمة الواجب
ولكن برج بابل لن يكون كله صمتاً في صمت، وهل يصمت برج بابل؟ هيهات!
هناك محمد فهيم الرجل البسام الضحوك الذي تلقاه فيقلب مشكلات التعليم كلها فوق رأسك، ويفرض عليك ألا تغادر مكتبة إلا بعد ساعة أو ساعتين. وهذا الرجل متعب جداً، لأنه ينتقل بك من موضوع إلى موضوع، ويبلبل رأسك ولسانك بلا ترفق، فمن الحزم ألا تمر عليه حين تزور وزارة المعارف
وهناك نجيب حتاته، وهو رجل لا تعرف أين يذهب. فهو يلطف حين يشاء، ويثقل حين يشاء، فان لطف - وهو الأغلب - طاف بك حول مشكلات كثيرة تمس التعليم وتمسّ المجتمع. وإن ثقل - وهذا قليل - سلم عليك بأطراف أصابعه كما يصنع مدير الجامعة المصرية
وهناك علي الجارم - جعل الله كلامي خفيفاً عليه - وهو رجل كثير المزاح، ولكن إقباله على الواجب يبهرك ويرضيك
وهناك محمد جاد المولى، وهو في مظهره ومخبره صورة صحيحة من الطيبات في أدب القول وشرف النفس
وعندنا طموم مراقب المستخدمين، ومكانه في وزارة المعارف يشبه مكان محمد الهراوي في دار الكتب المصرية، كلاهما يسأل عن الحساب، مع أن الأدب عندهما فوق الحساب
وعندنا توفيق الحكيم الذي حوسب أمام مجلس التأديب منذ أيام، وهو في رأيي (أعقل) رجل في وزارة المعارف بعد طبيب ليلي المريضة في الزمالك
ولتوفيق الحكيم قصة وقضية، وكيف لا تكون له قصة وقضية وهو صديق طه حسين؟
هذا الرجل أعلن عداوته للمرأة بضع سنين، ولم تعد عليه تلك العداوة بسوء، فظن لغفلته أن العداوات كلها سواء فأعلن أنه يعادي المرأة ويعادي النظام البرلماني، ولكن النظام البرلماني غير المرأة، لأنه محروس برجال أشداء يقابلون الجميل بالجميل!
أترك هذا وأنتقل إلى أحاديثي مع عمدة برج بابل حفظه الله فهل تعرفون من هو عمدة برج بابل؟
هو المحدث البارع الذي لا يسكت أبداً والذي قضى الله أن ألقاه من يوم إلى يوم؟
من هو عمدة برج بابل؟ من هو؟ من هو؟ ألا تعرفون؟
هو محمد رخا الذي يقيم بمصر الجديدة ويطرب لسماع القرآن بالألحان
ابتليت من هذا الرجل بداهية، وابتلى مني بداهية:
ابتليت منه بداهية لأن لقاءه يوجب أن أكون صافي الذهن حاضر البديهة، ومن المزعج أن أطالب بصفاء الذهن وحضور البديهة، لأني لا أذهب إلى وزارة المعارف إلا بعد أن تكون أعمالي أخمدت ذهني وأذوت نشاطي
وابتلى مني بداهية لأني سأسجل عليه كل شيء، وسأصنع معه ما صنعت مع الرجال الذين عرفتهم بوزارة المعارف العراقية، وأنا رجل رمته الأقدار في ذاكرته بشذوذ عجيب، فأنا أنسى الأعلام والأرقام بصورة مزعجة مخيفة، وما قدمت كتاباً إلى رجل من أقطاب وزارة المعارف إلا سألت كاتبه الخاص عن أسمه بالضبط لأقيده في ورقة قبل أن أخط اسمه على الكتاب، ولكن ذاكرتي في الحوادث والمعاني قوية إلى حد الشذوذ، فأنا أستطيع اليوم أن أدون أول محاضرة سمعتها بالجامعة المصرية سنة 1913 وأستطيع اليوم أن أدون جميع المحاضرات التي سمعتها في جامعة باريس.
وأستطيع أيضاً أن أسجل الكلمات التي سمعتها من الدكتور هيكل باشا، الكلمات التي تشهد بأنه يشجع التأليف بالقول لا بالفعل.
محمد رخا يتكلم في كل وقت كما يتكلم الفرنسيون في كل وقت
فهل أستطيع أن أعطيه درساً عساه يقتصد في الكلام بعض الاقتصاد؟
إليكم ما دار بيني وبينه منذ أيام:
دخلت عليه وفي مجلسه رجلان نسيت اسمهما مع الأسف، ولعل أولهما يسمى رفعت
وابتدأ فسألني عن الليسيه الفرنسية المصرية بمصر الجديدة، فقلت إن مديرها هو المسيو دي كومنين، أعظم أصدقائي في دنياي، فاستطرد وقال: وما رأيك في ذلك المعهد بعد أن زرته مرتين؟ فقلت: إن الغاية نبيلة ولكن تحقيقها صعب، لأن هذا الرجل، يريد أن يصل تلاميذه إلى البكالوريا المصرية والبكالوريا الفرنسية في وقت واحد
ثم انتقلنا بسرعة إلى الأصول التي يجب أن يراعيها أساتذة اللغة العربية في المدارس الأجنبية. فقلت إن الخطر كل الخطر أن يفهم تلاميذ تلك المدارس أن عندنا لغتين، الفصيحة والعامية، فهذا الفهم الخاطئ يشعر التلاميذ بأن اللغة الفصيحة لغة ميتة وأن مكانها يشبه مكان اللاتينية بالنسبة إلى الفرنسية والإيطالية
وهنا يحسن أن نسجل ما اتفقنا عليه في ذلك الحوار الطريف
اتفقنا على أن التلميذ إذا كتب (محطة باب الحديد) فليس من واجب المدرس أن يشطب كلمة (محطة) ويضع مكانها كلمة (محط) بحجة أن هذا هو اللفظ المختار في كتب المطالعة المدرسية
وإذا كتب التلميذ (بائع متجول) فليس من حق المصحح أن يشطب كلمة (متجول) ويضع مكانها كلمة (جائل)
والتلاميذ جميعاً يقولون (قط) بضم القاف كما يقع على ألسنة الناس في أكثر البلاد العربية، فليس من الحتم أن نصحح هذه الكلمة كل يوم وأن ننص على أنها بالكسر، لأن سيرورتها مضمونة تشهد بأن الضم لغة من اللغات وإن لم تنص المعاجم على ذلك
وإذا قال التلميذ (فرشة) فليس من الواجب أن نفرض عليه أن يقول (فرجون) لأن الفرشة ذاتها مخففة من الفرجون
وإذا قال التلميذ (أجفف وجهي بالفوطة) فلا تفرض عليه أن يقول (القطيلة) لأن الكلمة الأخيرة مهجورة ومنسية وثقيلة، ولا كذلك للكلمة الأولى فهي مأنوسة ومألوفة لجميع الناس.
وإذا قال التلميذ جلست على (السفرة) فلا تحتم عليه أن يقول (المائدة) لأن السفرة كلمة فصيحة وإن كان العرف نقلها من وضع إلى وضع.
وإذا قال التلميذ (الليالي القمراء) فلا تلزمه بأن يقول (الليالي القُمر) لأن الكتاب في العصر الحديث تسامحوا في هذه القضية، ولأن أسئلة الامتحان بوزارة المعارف جاء فيها مرة كلمة (الليالي القمراء) ولأن للشيخ النجار كتاباً اسمه (الأيام الحمراء) ولأننا نستثقل عبارة (الحدائق الغنّ) ونستخف عبارة (الحدائق الغناء)
وإذا قال التلميذ (خَطوة) بالفتح فلا توجب عليه أن ينطقها بالضم، لأن الفتح لغيَّة وهو اليوم أسهل وأفصح
وإذا سكن التلميذ بعض أواخر الكلمات فلا تفرض عليه أن يراعي التحريك في كل وقت، إلا إذا كان يهمك أن تختبره في الإعراب، لأن من المستبعد جداً أن يكون العرب التزموا الإعراب في جميع المواطن، وهم قد نصوا على أنه يجوز نصب الفاعل ورفع المفعول عند أمن اللبس، ومعنى ذلك أن الإعراب لا يطلب إلا لتحديد المعاني.
وأغلبُ الظن أن العرب لم يلتزموا الإعراب إلا في موطنين اثنين: الشعر والقرآن.
وإنما التزموا الإعراب في الشعر لمراعاة الوزن، والتزموه في القرآن لأن القرآن نظم نظماً غنائياً فهو في أغلب أحواله كلام موزون روعي في وزنه أن يصلح للترنم والترتيل
واتفقنا على أن اللغة العربية ليست بدعاً بين اللغات، فالتعبير بها يختلف باختلاف أقدار المخاطبين؛ والمدرس الحق هو الذي يفرق بين ما يعبر به وهو يلقي درساً في مدرسة أولية، وما يعبر به وهو يلقي درساً في مدرسة ثانوية؛ والمدرس الغافل هو الذي يتكلم بطريقة واحدة في جميع الفصول
واتفقنا على أن أساليب التعليم لا يجب أن تكون واحدة في جميع المدارس، وإنما يجب أن نراعي مقتضيات الأحوال فنسلك في المدارس الأجنبية غير ما نسلك في المدارس المصرية
وأصول التربية نفسها توجب ذلك. إنها توجب أن تخاطب كل تلميذ بأسلوب خاص بعد أن تدرس نفسه حق الدرس، لأن الناس يختلفون في العقول كما يختلفون في الوجوه. وهذا لا يمنع من أن تكون هناك سياسة عامة يعامل بها جميع التلاميذ
واتفقنا على أن مدرس اللغة العربية يحق له أن يكون أقرب الأساتذة إلى قلوب الطلاب، لأن عنده فرصاً لا تتاح لسواه، إذ كان يقدر بلباقته أن بجد في دروس المطالعة والمحفوظات والأدب مجالاً لمحادثة الطلبة في معان كثيرة تتصل بالعقل والقلب والوجدان
ومدرس اللغة العربية يستطيع إذا كان من أصحاب المواهب أن يضع في صدور تلاميذه بذور الشوق إلى المشاركة الجدية في الحياة الأدبية والفنية والاجتماعية. وفي مقدوره إن أخلص لواجبه أن يدفع تلاميذه دفعاً إلى رحاب الواجب في خدمة الوطن الغالي. وهو يستطيع أن يخلق منهم رجالاً يفرقون بين المعاني الوطنية والمعاني الإنسانية بحيث يصبحون فيما بعد من دعائم الحياة القومية
مدرس اللغة العربية مسئول قبل سواه عن خلق الروح المعنوي في المدارس لأنه يملك التعبير الجميل، ولأنه ارتاض على سياسة القول، ولأن لديه فرصاً كثيرة يستطيع بها توجيه التلاميذ إلى شريف الأغراض وكريم المعاني
ثم انتقلنا إلى موضوع شائك هو تحديد الفروق بين المدارس المصرية والمدارس الأجنبية
والظاهر أني أحب المدارس الأجنبية حبا يجعل ذنوبها حسنات، وقد فصلت رأيي في حضرة رخا بك وارتضاه، فما هو ذلك الرأي؟
من بين أبنائي ثلاثة يتعلمون بمعهد الليسيه في مصر الجديدة. وهؤلاء الأبناء الثلاثة يختلفون عن أخيهم الأكبر الذي يتعلم في مدرسة مصرية. فأخوهم الأكبر يأخذ مصروفه على أسلوب رتيب لا يتغير ولا يتبدل؟ أما أولئك الثلاثة فيزعجون المنزل بالمطالب المتنوعة في كل يوم، وقد قاست أمهم ما قاست حين كنت بالعراق، فلما اختبرت الأمر بنفسي ضِقْتُ به ذرعاً لأول وهلة؛ ثم تبينت أن تلك المطالب المتنوعة هي شواهد الحيوية في الحياة المدرسية، فالتلميذ لا يجد الفرصة ليهدأ ويسكن، وإنما يشعر بالمسئولية تتجدد أمامه في كل لحظة، فهو اليوم في حاجة إلى كتاب، وكان بالأمس في حاجة إلى كراس، وهو غداً في حاجة إلى ثوب جديد للحفلات، وهو بعد شهر سيقدم إلى المدرسة ديناراً للاشتراك في رحلة مدرسية، إلى آخر مالا آخر له من موجبات اليقظة في المدارس الأجنبية
أقول إن هذه المطالب راعتني لأول وهلة، ثم رأيت أن هؤلاء الأبناء حالهم أحسن من حال أبيهم، الأب المسكين الذي يخترق شوارع القاهرة في كل يوم ولا يراها، لأنه لا يمتطي تراماً أو سيارة إلا وهو مشغول بمطالعة الجرائد والمجلات أو مراجعة بعض الأوراق
أترونني على حق في استحسان هذا المذهب في التثقيف؟
إن كنت مخطئاً فاعذروني لأن اتصالي بالأجانب حبَّب إلي الحركة وزهدني في السكون!
هل تصدقون أنني لا أستريح إلى الدعوة التي تكررها الجرائد في الصبح والظهر والمساء، الدعوة إلى الوفاق والاتحاد والائتلاف؟
هل تصدقون أني أعتقد أننا نختلف أقل مما يجب، وأنه ينبغي ألا نعرف غير النضال والصيال؟
هل تصدقون أن التجارب علمتني أن الراحة نذير الموت؟
هل تصدقون أني نفرت من منزل جميل في باريس لأن أصحابه كتبوا على بابه عبارة تشير إلى أنه معروف بالهدوء؟
هل تصدقون أني لم استرح في بغداد إلا حين اهتديت إلى منزل تحيط به الضوضاء؟
الحق أن مزاجي أفسدته المدنية الحديثة فساداً لا يرجى له صلاح
ولكن هذه هي المدينة، وهذا هو عقل العصر الحديث، وأنتم تطلبون أن نروضكم على التخلق بأخلاق العصر الحديث
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
ثم انتقلنا إلى تعليم البنات فعرفنا بعد الأخذ والرد أن البنت في المدرسة المصرية تقتل قتلا بالدروس، فلا تستطيع أن تكون بهجة البيت في المساء
والواقع أننا كنا أخطأنا في تقدير مناهج التعلم بمدارس البنات، فقد كانت البكالوريا واحدة للبنات والبنين مع أن المزاج يختلف بين النوعين أشد الاختلاف
وقد لوحظ أن البنات في المدارس الأجنبية يعاملن معاملة تقوم على أساس العطف والرفق، والمفهوم عند الأجانب أن البنت إنما تتعلم لتصلح تمام الصلاحية لتكون ربة بيت.
ولوحظ أيضاً أن مديرات المدارس الأجنبية يحاولن أن يعرفن كيف تعيش العائلات التي تجيء منها التلميذات ليستطعن تلوين الحياة المدرسية بألوان مختلفات
وهذا شيء قد لا تعرفه المدارس المصرية لأن الصلات قد تكون مقطوعة بين المدرسة والبيت
والظاهر أني لا أزال استجيد الوصف الذي أطلقته على مدارسنا منذ أكثر من عشر سنين حين سميتها (مجازر بشرية) فنظام هذه المدارس لا يتيح فرصة للتعمق، وإنما يلهي الطلبة بالقشور لكثرة ما يعرض عليهم من العلوم والفنون
وسيجيء يوم يعرف فيه الناس أن أسلافنا كانوا أبصر منا بالمذاهب التعليمية لأنهم كانوا يعرضون على الطالب علوما قليلة ثم يفرضون عليه أن يتعمق
ولو شئت لقلت إن المدارس الفرنسية تريح التلاميذ من الدروس يومين كاملين، ومع ذلك لم يقل أحد بأن الفرنسيين تخلفوا في الميادين العلمية
ولو شئت لقلت إن الامتحانات عندنا لا تزال جائرة الميزان، فليس من المعقول أن يكون تلاميذنا من الضعف والجهل بالمنزلة التي توجب ألا ينجح من كل مئة غير عشرين أو ثلاثين
وهناك مجموعة يعرفها جميع المعلمين، وهي مجموعة الأسئلة الخاصة بالامتحانات العمومية، ونظرة واحدة إلى تلك المجموعة تشعر المنصف بأن الممتحنين لا يرون التيسير من الأمور ذوات البال، والأساتذة أنفسهم يحتاجون إلى تأمل يسير حين ينظرون إلى الأسئلة المسطورة في تلك المجموعة، فكيف يصنع التلاميذ وبينهم وبين أساتذتهم من الفروق ما تعرفون؟
ولو شئت لقلت إن أسئلة الامتحانات العمومية يضعها رجال مكدودون من بين المفتشين والمراقبين، والعقل يفرض أن يتفرغ لوضعها جماعة من الأساتذة ينقطعون إليها أسبوعاً أو أسبوعين حتى تسلم من العنت والإرهاق
أحب أن يشعر التلميذ المتوسط بأن من حقه أن ينجح. أحب أن يشعر التلميذ الضعيف بأنه قد ينجح إذا ضاعف من نشاطه وبذل ما يملك من العافية في الاستعداد للامتحان
ولكن هذه آمال لا تتحقق إلا إذا غير الممتحنون ما بأنفسهم فعرفوا أن الشهرة بالشدة والعنف مطلب سخيف
ثم ماذا؟
ثم تحدثنا عن الصلة بين المدرسة والبيت، واتفقنا على أن الواقع أننا نتكلم ولا نفعل
وأين المدرس الذي يجد من الوقت ما يزور فيه بيوت التلاميذ؟
وأين الناظر الذي يجد في جيبه ما يسعفه بأن يقيم للتلميذ وآبائهم حفلة أو حفلتين؟
لقد حاولت ذلك بنفسي ثم عجزت، لأني كنت أخرج من المدرسة مكدوداً لا أصلح لشيء
ولو شئت لصرحت بأن المدرسين يعجزون عن متابعة النشاط المدرسي، لأن المناهج لا تقيم له أي ميزان، وهو سخرة يقوم بها المدرسون بلا جزاء أما بعد فهذه صورة لساعة لطيفة قضيتها مع الأستاذ رخا بك. فان أعجبته هذه الصورة فذلك ما أرجوه، وإن رآني أذعت ما لا ينبغي أن يذاع فليعرف أن هذا مذهبي، وعليه أن يعقل لسانه حين يراني
يا مصر
إنك تستعدين لأخطار عظيمة في بناء الجيل الجديد، فاعرفي ما تأخذين وما تدعين، واحذري أن يعتقد أبناؤك الأوفياء، أنهم لا يلقون منك حسن الجزاء
وأنتم أيها المدرسون
ثقوا بأن واجبكم الأول هو التغلب على المصاعب، المصاعب التي تواجهكم في الحياة المعاشية والحياة المدرسية، واعرفوا أن الاخلاص للواجب هو الكفيل بأن يرفع عن كواهلكم أثقال العيش وأعباء التعليم
إن التدريس مهنة لا يعرف فيها الراحة إلا من يتعب نفسه في تأدية الواجب، ولا يشقى في هذه المهنة إلا من يؤديها بتهاون واستخفاف
إن العناية التي تبذلونها في إلقاء الدروس تعدي تلاميذكم بالجد والنشاط، وتروضهم على النظام، وتغريهم بحب التفهم لما يسمعون وما يقرءون
وأنتم القدوة الصحيحة للتلاميذ، فاحذروا أن تعدوهم بالضجر واليأس. وتذكروا دائماً أن المدرس المنشرح الصدر، المبتهج النفس، هو وحده الذي يقدر على جعل المدرسة أحب إلى التلميذ من كل مكان
إن في الدنيا متاعب كثيرة تنتظر رجال الغد من تلاميذكم، فأعطوهم من ذخائر الأمل والبهجة ما يدفعون به متاعب الحياة في الأيام المقبلات. والله بالتوفيق كفيل.
مصر الجديدة
زكي مبارك