انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 283/من رحلة الشتاء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 283/من رحلة الشتاء

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 12 - 1938



في مضارب شمر

المشاريع الإصلاحية في البادية

للآنسة زينب الحكيم

1 - بدأ الشيخ عجيل الياور شيخ مشايخ شمر منذ سنة 1930 يستعمل نفوذه ليوطن البدو التابعين له في قرى، يطالب بأرضها لهم من الحكومة العراقية بحيث تكون وجهتهم احتراف الفلاحة؛ وقد تمت هذه الصفقات لبعضهم فعلا، وشجعهم الشيخ الياور بشراء بعض الآلات الزراعية من ماله الخاص، مثل المحاريث التي استجلبها من ألمانيا عندما زارها في أثناء زيارته الأخيرة لأوربا

كذلك ساعدهم بشراء بعض المواشي، وبذور النبات، وغرضه من هذا كله أن يسهل لهم احتراف الفلاحة وتحبيبها إليهم. على أني علمت أن هذه التجربة لم تسفر عن نجاح يوازي ما بذل من مساعدات وتشجيع. إذ وجد الشيخ أنه من العسير جداً استقرار البدو - ومن يستطيع أن يحد من حريتهم؟! - ومع هذا استقر كثير من رؤساء العشائر في بعض القرى التي كونوها

ولعله لا يخفى على فطنة القارئ أنه وإن كان ملك البادية يعطف على البدو من رعاياه، ويعطى لهم باليمين، فأنه يأخذ منهم باليسار أتاوات وجعولا على محاصيلهم وأغنامهم وجمالهم وغيرها. وهذا السبب عينه مما ينفر البدو في الاستيطان لكراهيتهم الخضوع للضرائب والتجنيد وما شابه ذلك

2 - مدرسة ابتدائية

مما أثلج صدري حقيقة، وجود مدرسة ابتدائية في وسط البادية. تأسست هذه المدرسة سنة 1932، وبدأت أهلية حيث أنشأها الشيخ عجيل الياور على نفقته، وبدأت بعدد قليل من الأولاد، ولكنه عظيم بالنسبة لعوامل البيئة هناك. فافتتحت لخمسة وعشرين إلى ثلاثين ولداً من أبناء البدو، ومن بينهم أولاد المشايخ بالضرورة، يذهبون جميعاً لتلقي الدروس بالأمر المشدد من الشيخ وأمره مطاع، وإن خالف ذلك ميولهم الخاصة. وشجع الشيخ هؤ بمنحهم السكن والملابس

سارت المدرسة في سبيل التقدم، وسعى الشيخ لأن تدخل تحت إشراف الحكومة العراقية حتى تفوز بمنهج منظم، وأساتذة فنيين، وفعلا في سنة 1934 أي بعد سنتين من إنشائها، صارت مدرسة حكومية تمدها وزارة المعارف العراقية بالمعلمين والأدوات المدرسية من حيث الأثاث (وهو عبارة عن خيام بيضاء كبيرة، ومناضد ومقاعد لجلوس الأولاد، وسبورات مع حواملها). أما أدوات الطلاب فلا تزال على نفقة الشيخ

وصار عدد تلامذتها الآن من 50 - 80 تلميذاً يتناقص أو يتزايد العدد بين هذين الرقمين بالنسبة لتنقل العشائر للرعي

ويوجد بين الأولاد بعض البنات، وبالمدرسة ستة صفوف (أو فصول) وتتراوح أعمار التلاميذ بين ست، وست عشرة. (وقيل لي: أحياناً يأتي إلى المدرسة أطفال في سن الرابعة أو الخامسة)

ويدرس بها على منهاج المدارس الابتدائية العراقية، واللغة الإنكليزية هي اللغة الأجنبية التي يتعلمها التلاميذ ابتداء من الصف الخامس، ويستمر تعليمها في السادس

زرت هذه المدرسة في خيامها البديعة، وكان حادثاً في حياة الأولاد وتجاربهم أن يروا سائحة مصرية، فلحظت أنه بقدر سرورهم بهذه المفاجأة، كانت دهشتهم من سفر سيدة تلك المسافات البعيدة حتى وصلت إليهم. وكان شغفهم زائداً لسؤالهم إياي أسئلة شتى، كما بدا لي على وجوههم، ولكن كيف يجرءون على مخاطبة سيدة!

كانت الدروس التي حضرتها في مختلف الفرق متنوعة، وكان أول درس حضرته:

(أ) درس حساب، فبعد أن انتهى الأولاد من حل تمرين أعطي لهم في دفاترهم، وبعد تصحيحه أيضاً، حبب أليّ أن أعطيهم بعض التمارين العقلية، فأدهشني توقد ذكائهم ونشاطهم العجيب. وفي أثناء ذلك فاجأت التلاميذ باختبار ذكاء بسيط، فقلت: تعلمون شيئاً عن الموازين مثل الرطل والأقة مثلاً؟ فقالوا: نعم. قلت: وأيهما أكثر ربحاً للشاري، أرطل من البندق مقشور أم رطل بدون قشرة؟ فرفعوا أيديهم. وسألت أحدهم واتفق أنه خلط في الاجابة، فلم يرض باقي التلاميذ عن هذه الاجابة؛ ولكنهم نظاميون جداً فلا يجاوبون بدون إذن. وفاجأني تلميذ صغير من بينهم قبل أن أسأل غيره، بالسؤال الآتي: من فضلك، أيهما أكثر عدداً 2 + 2 أو2 2؟ قلت: لعلي لا أعرف ذلك، فلنسأل باقي التلاميذ، فقال: لا، هذه بتلك. فضحكت وسررت من جرأة البدوي النجيب، ولمست سمات الانتصار على محيا زملائه

وهل يرضى البدوي بالهزيمة ولو كان في ذلك حتفه؟!

هنا أريد أن أوجه نظر القارئ الكريم إلى أن مشروع اختبار الذكاء أو غيره من الحركات الحديثة في التربية، ليست مقصورة على عقل واحد أو جماعة واحدة، وليست من اختصاص أمة دون أخرى

إن لكل أمة مقاييسها، ولو لم يكن لدى هؤلاء البدو مقاييس ذكاء خاصة يعرفونها ويفهمونها فيما بينهم لما عاملني هذا البدوي وزملاؤه من نوع عملي وجعلوها (دقة بدقة)

(ب) كان ثاني درس رأيته درس جغرافيا. دخلت الفصل وحييت التلاميذ، وكانوا أكبر سناً من الفرقة التي رأيتها

وجدت خريطة كبيرة للقطر المصري معلقة على السبورة، وبدأ الأستاذ يناقش تلاميذه في معلوماتهم عن بلادي، فكان حسن ذوق ومجاملة لطيفة، وانتهزت الفرصة وقلت: ربما لم يسبق لكم يا تلاميذ رؤية مصرية قبلي؟! فقالوا: لا، ونحن سعداء برؤيتك. فشكرتهم، وقلت: أو كنتم تتخيلون المرأة المصرية كما رأيتم الآن؟ قالوا: لا، كنا ننتظر رؤيتها في ثياب سوداء، فإن من العيب أن تلبس المرأة الثياب الملونة، ولا سيما ما كان منها أبيض. قلت: لماذا؟ فقالوا: إن اللون الأبيض من سمات الرجل، أما المرأة فلها الثياب السود. (لم أستطع الوصول إلى التعليل المنطقي منهم لهذا التخصيص، ولعلها مجرد عادة نشأت من الاقتصاد في الغسيل لقلة الماء والصابون في الصحراء)

قلت: وهل تريدون أن تسألوني شيئاً عن مصر؟ قالوا بشوق: نعم. كيف حال فاروق الملك الشاب؟ وهل هو تقي؟ وهل هو يشبه سيدنا غازي الأول؟ وهل فرح بالزفاف الملكي؟ (قد وصلتهم أخبار الزفاف كلها وسمعوا حفلاته بالمذياع ملك شيخهم)

أجبتهم عن كل أسئلتهم، وقد أصغوا إليها في شوق زائد وسرور وغبطة

(ج) زرت التلاميذ في أثناء درس في اللغة العربية، وكان مطالعة مع شرح بعض المعاني والإعراب. فسألت تلميذاً أن يُعرب (جلس التلاميذ بنظام) وحقا كانوا قد فعلوا ذلك وأردت أن أمتدحهم إذا ما فرغوا من إعراب الجملة، فكان أول ما وجه المعلم أنظارهم إليه نطقي الجيم في جلس غير معطشة فقال: هل لحظتم يا تلاميذي كيف تنطق السيدة المصرية الجيم في جلس؟ إنها خففتها وفق ما اتبعوه في بلادهم

طلبت إلى الأستاذ أن يسمعني التلاميذ بعض قطع شعرية مما يحفظون وبعض أناشيد، وقد فعلوا، أما الأناشيد فتلحينها ضعيف

ولما جاء دور المحفوظات استأذنت المدرس في أن أختار أنا التلميذ، وكان من بين التلاميذ شبيه لعنترة صغير، فبتوارد الخواطر، اخترت هذا الأسود ليسمعنا قطعة من محفوظاته. ولكن التلاميذ ضحكوا وتغامزوا فيما بينهم على هذا الأسود، وعلى غرابة اختياري، واتهموا ذوقي. فقلت: أيها التلاميذ النجباء لماذا تضحكون؟ ألا يذكر أحد منكم الفارس العربي المقدام الشاعر الهمام، عنترة العبسي الذي كان يقول:

(لئن أك أسوداً فالمسك لوني)؟

ويقول:

لئن يعيبوا سوادي فهو لي نسب ... يوم النزال إذا ما فاتني النسب؟

ما أسرع البدوي إلى النخوة والشهامة! لقد اعترف الأولاد بخطئهم حالا، وقالوا في نفس واحد: قم يا عنتر ونحن نتبعك. وقام هذا الأسود الصغير، وألقى قطعة حماسية بالغة. ووالله لا أنسى أبداً منظر التلاميذ من خلفه ومن حوله، وهم يشتركون معه في الإلقاء الحماسي، وكأنما تتحرك القناة في أيديهم، والأصائل تكر بهم وتفر لهزم العدو، ولكسب شرف العرب. بارك الله في أبناء البدو الناهضين وقواك الله يا قبائل شمر

بعد هذه المعركة الحماسية قلت لتلميذ في طرف الخيمة، وقد شهدت على وجهه انفعالا: ماذا تريد أن تنال لو خيرت في نيل أمنية؟ قال في غير توان: فرس أصيلة، لأريك أني أبز عنترة العبسي وأباه

فتوجهت إلى الشيخ وسألته: كم ثمن الفرس الأصيلة؟ وعزمت أكيدا أن أترك للتلميذ ثمن الفرس لينال رغبته، ولكن الشيخ لم يقبل، ووعد أن يعطيه فرسا من عنده

(د) حضرت درساً إنجليزياً (مطالعة، ومحفوظات، وتركيب جمل) والتقدم الذي لحظته على التلاميذ كبير، ولفت نظري توقد ذكاء تلميذ من بينهم، وشدة لمعان عينيه، فسألت: من يكون هذا التلميذ؟ فقيل لي: أنه أبن الشيخ عجيل الياور الذي ساح في أوربا كلها مع والده بعد حضور حفلات تتويج ملك الإنجليز

فسألته عما أعجبه أكثر غيره من البلاد الأوربية؟ فقال في إيجاز وتأكيد أعجبت بسويسرا لجمالها، وإنجلترا لتقاليدها ونظامها، وألمانيا لاختراعاتها ونظامها ونظافتها، وهذا التلميذ موجود الآن بكلية فكتوريا بالإسكندرية هو وأخوه، حيث أحضرهما إلى مصر، أخوهما الأكبر الشيخ صفوك الياور، وألحقا بهذه الكلية من بدء العام الدراسي. وكانت مفاجأته لنا بالزيارة حلماً تحقق. هذا ويجلس تلاميذ مدرسة البدو هذه لتأدية الامتحان النهائي لمرحلة التعليم الابتدائي، في الأماكن التي تخصصها الحكومة العراقية، فيرحل التلاميذ عادة إما إلى لجنة الموصل أو سنجار

وقد وجد أن أولاد البدو في مستوى أولاد الحضر، بل يفوقونهم في نسبة النجاح في الامتحانات العامة

ما دخل العلم بيئة طيبة إلا أثمر فيها وأنتج نتاجاً حسناً. وإني أعلق أهمية كبرى على هذه المدرسة في إيقاظ البدو، وأعدها أول نواة صالحة للأخذ بيدهم في مدارج الحياة الإنسانية الحقيقية

(للحديث بقية)

زينب الحكيم