مجلة الرسالة/العدد 283/الكونتس فالنتين دي سان بوا
مجلة الرسالة/العدد 283/الكونتس فالنتين دي سان بوا
للأستاذ كامل يوسف
جرى قلمي في كلمتي عن المرحوم ولي الدين بك يكن بذكر الكونتس فالنتين دي سان بوا، وبما أنها من الدوحة الشاعرة التي أنجبت لامرتين شاعر الجمال والحب، ومؤلف عشرات الكتب التي تفيض بالشاعرية والخيال الخصيب، أحببت أن أكتب كلمة عنها لتعريف المصريين بها
فهي حفيدة لامارتين، أو على الأصح ابنة ابنة أخته، ورثت عن خال أمها الروح الشاعرية وسمو الخيال، فكانت شاعرة من الطبقة الأولى لا يشق لها غبار. ويمتاز شعرها بالروح الصوفية. وهو ككل شعر صوفي مبهم يحتاج للشرح والتعليق حتى يدرك القارئ كنهه. وقد بدت هذه النزعة في ديوانها الشعري الذي اشتهرت به؛ ويكاد يلمس القارئ لهذا الديوان روح نيتشه في كتابه (هكذا قال زرادشت)، بل إنه يسير على نمطه في الأسلوب. وقد أبديت رأيي هذا في عام سنة 1928 للأدباء الذين كانوا يحيطون بها فلقي منهم التأييد، لأن الكونتس كانت تعجب بنيتشه كشاعر فذ، خصوصاً في سفره (هكذا قال زرادشت) وكانت لا ترى فيه فيلسوفاً له مدرسة فلسفية خاصة
وهذه الروح الصوفية هي التي حدت بها إلى الإقامة بمصر، فهي زوجة وزير من وزراء فرنسا وزارت أسبانيا، وشاهدت هناك جامع قرطبة، فأعجبت بالفن العربي، واتخذ هذا الإعجاب صورة ملية فأرادت أن تلمس حياة الشمس وتختبر روحه، فتركت فرنسا بما فيها من مدنية وجاءت إلى مصر باعتبارها المركز الروحي للبلاد الشرقية، وكان هذا الولع بروح الشرق المتصوفة دافعاً لها على إصدار مجلتها الشهرية (فينكس) للدفاع عن أمم الشرق قاطبة. وقد أنفقت على هذه المجلة مالاً وفيراً، وظلت أكثر من عامين وهي تسخر قلمها البديع لهذه الغاية السامية ولكنها لم تستطع الاستمرار في إصدار مجلتها لنضوب مواردها من أملاكها بمقاطعة سان بوا بفرنسا ومن ربح مؤلفاتها الكثيرة، وذلك عند هبوط سعر الفرنك في سنة 1928
وقد بدت الروح الصوفية عند الكونتس دي سان بوا في أجلى صورها عندما لجأت إلى أسلوب مبتكر للتعبير عن المعاني الباطنية للحقائق الظاهرة، وقد أطلقت على هذا الأ لفظ (الميتاكوري) وقد جاهدت كثيراً في نشره في فرنسا وأمريكا وأنفقت المال في سبيل تقريبه للأذهان، ولكن غموضه كان عقبة كأداء في سبيل ذيوعه. وقد نشرت كثيراً من الرسوم بريشتها لإيضاح غاياتها، ولكن العالم الأدبي لم يفهم ما تريده الشاعرة من هذه الحركة الصوفية. وقد حاولت أنا وصديقي الشاعر فولاد يكن أثناء اتصالنا بها بحلوان أن نفهم هذه الحركة كما يجب، فلم نخرج منها بأكثر من أنها نوع من الرمزية في الشعر والرسم ترمى إلى إبراز المعاني الباطنة لمظاهر الأشياء. ولما رأت عدم استعداد العقول لفهم نظريتها - التي تقول إن فناني الإغريق كانوا يعملون بها - اتجهت للدفاع عن بلاد الشرق المهضومة الحق. . .
وقد أقامت الكونتس دي سان بوا بحلوان بقصر محمد بك أنسي بشارع سيد أحمد باشا. وكانت دارها ندوة للأدباء زارها فيها الدكتور ماردريس المستشرق الفرنسي المعروف وقدم لها ترجمته الفرنسية لكتاب (ألف ليلة وليلة) وكتب الإهداء بالعربية: (هدية من الشيخ الماردريسي). وكان أول من أتصل بها من المصريين الشاعر الكبير فولاد يكن، وحدث ذلك على أثر زواجه من مدام (س) الفرنسية (وهي زوجة أحد كبار كتاب فرنسا) التي استقدمتها وزارة المعارف لتتولى نظارة مدرسة بنات الأسر الراقية. ومع أن هذا الزواج لم يطل فقد كان سبباً في تعرف الأستاذ فولاد يكن بالكونتس؛ وقد رأت فيه الشاعرة مواهب شعرية تنبئ عن مستقبل زاهر في عالم الشعر فاحتضنته، وجعلته كابنها، وأقام بمنزلها بحلوان يأكل ويشرب ويتريض معها كأنه فرد من أسرتها. وقد أنتجت هذه الصداقة ثمارها إذ قدمته لدور النشر الفرنسية فنشرت له بعض مؤلفاته الشعرية والنثرية مقدمة بقلمها البليغ
وكان يجتمع في دارها الأدباء. وقد قدمني فولاد يكن إليها كأديب ناشئ مهتم بالأدب السكسوني وخصوصاً فن برناردشو الذي كنت أؤلف فيه في ذلك الوقت كتاباً عن آرائه في الحياة والأدب والفن والسياسة. وكانت تعرف عني هذا الاهتمام فكانت تدعوني (برناردشو الصغير). وقد قدمتني في إحدى حفلاتها الماسونية لإحدى زوجات سلطان تركيا المخلوع التي قدمت إلى مصر وألقت بنفسها في النيل عند قصر النيل. وكانت هذه الأميرة على غاية من جمال الخلق والخلق، تركت في نفسي أثراً لا يمحى، إذ تمثل لدي في هذه اللحظة عظمة الملك ممثلة في شخص هذه السيدة الكريمة؛ وهي في رزانتها وصمتها أبلغ منها وهي في أبهة العرش. وقد حدث أن ثارت بين أديبين مناقشة عن أدب هوجو، وكان أحدهما يرى أنه فن مزخرف أجوف، وكان يعارضه الآخر بأنه أدب حي، وأبديت رأيي في هذه المناقشة بأسلوبي الفرنسي العاجز، وكنت وقتئذ لم ينضج علمي بالفرنسية لانصرافي للأدب الإنجليزي، فسخر من أسلوبي صديقي فولاد يكن، ونعته بأنه فرنسي صيني، ولم ينجني من حملته علىّ إلا السلطانة، فقد عطفت عليّ بأن قالت: إن أسلوبي كإنسان لم يدرس الفرنسية بالمدارس لا بأس به. وقد حمدت لها هذا الموقف الذي خلصني من المأزق الذي تورطت فيه
وتشاء الصدفة أن أقرأ إبان تعرفي بالشاعرة الكبيرة قصة (روفائيل) ترجمة الأستاذ الكبير احمد حسن الزيات، وأردت أن أذكر لها اهتمامنا بأدب جدها لامرتين، فذكرت لها أنني أقرأ ترجمة عربية لرفائيل تكاد في بلاغتها أن تكون صورة ثانية للأصل الفرنسي؛ وذكر الأستاذ فولاد يكن تمكن الأستاذ الزيات من لغة العرب والفرنسيين مما جعل الترجمة تحفة من التحف في أدبنا المصري الحديث، وقد أعجبت الكونتس بذلك كثيراً. ولكنها كانت لا ترى في (رفائيل) العمل الفني الذي يجب أن يخلد به أسم جدها بمصر، وقالت في ذلك إنه مؤلف يسوده الإغراق في المبالغات مما جعله في مرتبة أقل من غيره من المؤلفات الأخرى، وقد ذكر الدكتور منصور بك فهمي في مقدمته لترجمة الأستاذ الزيات مثل هذا الرأي، وأن ذلك قد دعا لامرتين نفسه إلى إعادة النظر في مؤلفه هذا في الطبعات التالية فأبعد عنه بعض المبالغات العاطفية التي أخذها عليه النقاد
والكونتس دي سان بوا رسامة ماهرة ترسم بالزيت وتحفر على الخشب ويشوب رسومها الروح الصوفية، وهي تزين دارها بهذه الرسوم. وقد بلغت براعتها في الرسم أنها كانت تحفر صورتها على الخشب فكانت ملامحها تنطق كأنها رسم فوتوغرافي. وقد انصرفت في السنين الأخيرة إلى التحرير الصحفي وتولت رياسة تحرير أمهات الصحف الفرنسية بمصر. ويمتاز أسلوبها الفرنسي بالجزالة الكلاسيكية، وقد اكتسبت أثناء إقامتها بمصر صداقة الشخصيات البارزة في المجتمع المصري
واختم كلمتي عنها بما تبديه من عطف على الشرقيين، فقد كانت تغشى حفلات العرب الذين يعيشون في الخيام بقرية حلوان البلد الواقعة على النيل في الليالي القمرية؛ وكانت تعجب بسمرهم؛ وكانت تنثر على أطفالهم النقود، لذلك كانوا يحفظون لها هذا الجميل. وقد أعربوا عن عرفانهم لهذا الجميل فأهدوا إليها كلبا من كلابهم الضخمة، أطلقت عليه اسم (بطل) وكان هذا الكلب موضع عنايتها، وكانت توكل إليه حراسة دارها، وعندما تركت حلوان وأقامت في إحدى فنادق القاهرة الفخمة أخذته معها، وكانت تفخر به على الدوام لأنه (عربون) مودة لا يصح التفريط فيه
كامل يوسف
عضو بالمعهد الفلسفي البريطاني