مجلة الرسالة/العدد 282/المسرح والسينما
مجلة الرسالة/العدد 282/المسرح والسينما
الفرقة القومية ومديرها
(إذا وجد من هو أصلح مني لإدارة الفرقة فأني على استعداد
للنزول له عن وظيفتي مع معاونته بكل ما في طاقتي)
هو ذا لب الحديث الذي نشره حضرة مدير الفرقة في جريدة البلاغ دحضاً لإشاعة استقالته من وظيفته
فإشاعة الاستقالة هذه ليس مصدرها (أشخاصاً يلذ لهم أن يذيعوا هذه الإشاعة لأنهم يريدون فيها شفاء لمرض نفوسهم الثائرة على كل ما هو كائن في الوجود) بل مصدرها مدير الفرقة نفسه، فقد سمعتها منه في مرتين، وقد قالها لي في مناسبتين، وقد تحققت بطلانها في ساعتها كما تحققت غرضه من ترويجها وهو النيل ممن يتوهم أنهم يعملون على الحلول محله في وظيفته
لا شأن لي في الانحياز إلى هؤلاء المرضى في نفوسهم الثائرة على كل ما هو كائن في الوجود، والإشادة بكفاءتهم وجدارتهم في فهم فن المسرح وفيما يصلح لمزاج الشعب ويناسب ثقافته. ولا غرض لي في التحزب لمدير الفرقة الصحيح المعافى، المتواضع كثيراً في كل شيء، والمتواضع كثيراً جداً في فهم أبسط فنون المسرح، وإني ما أوردت هذه الحقيقة إلا لأسفر عن طرف من وجه واحد من وجوه تصريف الأمور الخاصة بمدير الفرقة أو بالفرقة نفسها، وعن الجو القاتم الذي استكثفه واستلبده هو بغيوم وسحب من أوهام وظنون صرفته عن غرض الفرقة الثقافي وجعلته يترقب برعشة الوجِل المنخلع اللب هبوب العاصفة وانقضاض الصاعقة
يخلق بي أن أعرب عن شعوري أن استقالة مدير الفرقة تعد خسارة فادحة، وأزعم أنه قد يشترك معي كثير ممن قد يعتقدون اعتقادي، إذ لابد لكل عمل مستحدث من ضحية، فالمدير الحالي خير كبش يقرب على مذبح المسرح، غير أن الأوان لم يأن بعد، ولا عيد الأضحى بقريب
قد كان يتمنى مدير الفرقة أن يكون ضحية مقدسة فعلاً للمسرح، كما هو مقدر لكل صاحب رسالة، ولكن أين رسالة الفرقة القومية غير المكتوبة على الورق؟ أين رسالة مديرها وهل ظهرت براعيمها أو نبتت قرونها بعد؟
بدأت الفرقة أعمالها بلهيب حزمة القش خبا وهجها، وبردت حرارتها، وبقي من رمادها لموسمها الرابع ثلاث روايات، اثنتان معربتان وواحدة مقتبسة! ومن يدري فقد نحمد في العام القادم للفرقة القومية عملها المريض في هذا العام لأنها قد تمن علينا بإعادة تمثيل روايات مثلتها في عامها الأول، أو يطيب لها أن تتبنى الروايات التي مثلتها الفرق الأهلية كما تبنت في هذا العام رواية (مجنون ليلى) وتهمل الروايات الجديدة الموضوعة كما أهملت الكثير من الروايات التي دفعت أثمانها لمؤلفيها وقبرتها في مدافن الفرقة لعدم صلاحها فنياً أو إسكاناً لمؤلفيها الأفاضل
كل شيء ممكن الوقوع، وكل فرض في هذه الفرقة جائز، والذي يهمنا هو معرفة تشخيص العلة ثم العمل على مداواتها؛ ولذلك نسأل أين علة الفساد، أين عوامل الانحطاط؟
أهي الجهل بأصول الفن أم الغربة عن روح المسرح؟
أهي في الأمة التي لا تتذوق الآداب والفنون الرفيعة؟
أهي مرض الصحافة التي أفسدتها الفرقة بمال الإعلانات فصدت أقلام الأدباء والنقاد عن خط كلمة في غير امتداح مدير الفرقة والثناء عليه
أهي في المؤلفين الذي انصرفوا عن الفرقة أو انكمشوا وتباعدوا عنها ضناً منهم بكرامتهم الأدبية أن تكون عرضة لممثلين أعلمهم أجهل من كرّ - مع استثناء واحد أو اثنين منهم - لهم الكلمة الأولى والأخيرة في الحكم على صلاح الرواية للتمثيل أو عدم صلاحها؟
أهي في الأدباء الذين انصرفوا عن الفرقة لأنهم لا موائد لديهم كموائد هذا البربري وذاك الحبشي طافحة بكل ما يطيب للعين والفم؟
أم هي الأطماع بربح المال وجمعه من إعادة تمثيل روايات الفاكهة المحرمة، والحب والدسيسة، والمرأة المسترجلة الرائجة لفكاهتها وفهاهتها، وادخار هذا المال لبناء مسرح خاص من مال الفرقة القومية الخاص، لا من مال الأمة، كأن مسألة الفرقة مسألة تجارية أو عزبة زراعية طاب لناظرها الأمين أن يظهر لسيده ومولاه مقدار ما أدخر من ربح مدة نظارته؟! قد تكون هذه العلل متجمعة هي بعض أسباب تدهور الفرقة، ولكن العلة الدفينة في نفس المدير دون سواه. هي في نفسه وحده - وإني أتعمد مؤقتاً تجاهل العلة المستوطنة في لجنة القراءة وسأعود إلى شرحها قريبا - لأن حضرة المدير يعتقد اعتقاداً راسخاً أنه لا يوجد بين الستة عشر مليوناً من الأنفس من هو أصلح منه لإدارة الفرقة، وأنه إذا فرض المستحيل ووجد هذا الذي لم تلده أمه بعد، فان حضرة المدير - حفظه الله - (على أتم استعداد للنزول له عن وظيفته) على شرط أن يبقى معه (يعاونه بكل ما في طاقته)
لست أحاول تقصي عوامل هذا الوهم الراسخ والاستمساك الأخطبوطي وتحليلها خشية أن تتفكك أو تنحل عناصر قدسية حضرة المدير المنهادية المتساندة، ولا الإيغال في استكناه بواعث الوهم واستنتاج النتائج، بل أقول: إن رجلاً كائناً من كان يقوم في ذهنه مثل هذا الوهم الباطل القائم على الإيمان المحدود لا يرجى صلاح للمسرح على يديه البتة. إن رجلاً يؤمن إيماناً محدوداً أن كل ما يقدمه للناس هو أكثر مما يتذوقون، وأدسم مما يفهمون، وكفاية على ثقافتهم التي لا تستوعب، ومداركهم التي لا تفقه سوى رواية اليتيمة، وبناتنا سنة 1937 وإضرابهما. إن رجلاً كهذا، لا حيلة معه لمائة ناقد وألف ناصح ومشفق على النهضة الأدبية، إذ ليس في وسعهم أن يجعلوا ثقباً في الماء كما يقول الفرنسيون في أمثالهم، ولا أن ينهضوا المقعد الذي قال له المسيح (قم أحمل سريرك وامش) فقام ومشى.
لسنا والحمد لله في زمن العجائب الخارقة، بل نحن في زمن لا نقبل فيه التدجيل والخرافات، ولا عبادة الأصنام، ننظر إلى الماضي لماماً، بيد أن طموحنا إلى المستقبل عظيم نستمده في طموح مليكنا الشاب الجميل، ومن روح الأدب الجميل الذي لا يقر غير الروح الشاب.
هل مدير الفرقة يعوزه الشباب؟ هل لجنة القراءة فتية ينبض دم الشباب في عروقها؟ أو هو وهي شن وطبقة رضى الله عنهما؟؟ سوف نرى.
ابن عساكر