مجلة الرسالة/العدد 280/للأدب والتاريخ
مجلة الرسالة/العدد 280/للأدب والتاريخ
مصطفى صادق الرافعي
للأستاذ محمد سعيد العريان
1880 - 1937
- 42 -
مقالات منحولة
كثيراً ما تدعو الدواعي كاتباً من الكتاب إلى إنشاء مقال لا يذيله باسمه؛ ويكاد يكون من الشائع المألوف أن يقرأ القراء مقالاً في صحيفة من الصحف غير معزوّ إلى قائله، أو مرموزاً إليه رمزاً ما! ولكن من غير المألوف أن ينشئ كاتب من الكتاب مقالة أو فصلاً من كتاب، أو كتاباً بتمامه، ثم ينسب ما ينشئه إلى كاتب غيره. وللرافعي في تاريخه الأدبي حوادث من مثل ذلك؛ فثمة مقالات، ورسائل، وكتب متداولة مشهورة، يعرفها القراء لغير الرافعي، وهي هي من إنشائه وكدَّ فكره وعصارة قلمه، ولكنه آثر بها غيره زهداً عنها أو التماساً للنفع من ورائها. ولو أني أردت أن أستقصي ما أعرف من ذلك لأغضبت كثيراً من الأحياء أحرص على رضاهم وأخشى غضبهم؛ ولقد كنت على أن أطوي هذا الفصل حرصاً على مودتهم، ولكني وقد وضعت نفسي بهذا الموضع لأكون مؤرخاً بعيداً عن التهمة - لم تطب نفسي بكتمان الشهادة، فإذا لم يكن بوسعي أن أذكر كل ما أعرف، فحسبي اللمحة الدالة والإشارة الموجزة، وللحديث بقية إلى حين، ومعذرة إلى أصدقائي. . .
في سنة 1911 أصدر الرافعي كتاب تاريخ آداب العرب فتقبله الأدباء بقبول حسن، وكتبت عنه المقالات الضافية في كبريات الصحف، ولكن ذلك لم يكف الرافعي؛ ففي ذات يوم قصد إلى جريدة (المؤيد) فلقي هناك صديقه المرحوم أحمد زكي باشا فأهدى إليه كتابه ورجاه أن يكتب فصلاً عنه؛ فقال زكي باشا: (وماذا تريدني أن أكتب؟) قال الرافعي: (تقول وتقول. . .) قال زكي باشا: (فأكتب ما تشاء وهذا إمضائي. . .!) وجلس الرافعي إلى مكتب في دار الجريدة، فكتب ما شاء أن ينسب إلى صديقه في تقريظ كتابه، ثم دفعه إليه فذيله باسمه ودفعه إلى عامل المطبعة. . .
وقرأ الناس في اليوم التالي مقالاً ضافياً بإمضاء (أحمد زكي باشا) في تقريظ (تاريخ آداب العرب) شغل الصفة الأولي كلها من الجريدة. ولكن أحداً من القراء لم يعرف أن كاتب هذا المقال هو الرافعي نفسه، يثني على كتابه ويطري نفسه!
ولهذه الحادثة أخوات مع زكي باشا نفسه؛ فإنه لما أنشأ الرافعي نشيده (اسلمي يا مصر. . .) قرأ القراء مقالاً في الأخبار بإمضاء أحمد زكي باشا، يثني على النشيد ويطري مؤلفه، ولم يكن كاتب هذا المقال أحداً غير الرافعي؛ بل أن أكثر المقالات التي يرها القراء في الكتيب الصغير الذي نشره الرافعي عن نشيده هذا، هو من إنشائه أو من إملائه!
وقد ظل هذا (التعاون) وثيقاً بين المرحومين زكي باشا والرافعي إلى أخريات أيامهما؛ ومنه أن زكي باشا كان على نية إعداد معجم لغوي كبير قبيل وفاته، وكان للرافعي في إنشاء هذا المعجم أثر ذو بال، وفيه فصول كتبها الرافعي بتمامها وأعدها للإمضاء. . . ولكن المنية أعجلت المرحوم أحمد زكي باشا عن إصدار هذا المعجم، وأحسبه ما يزال محفوظاً بين مخلفاته المخطوطة
ويتصل بسبب إلى هذه المقالات التي كان ينحلها الرافعي صديقه زكي باشا، ما نحل أخاه المرحوم محمد كامل الرافعي من شرح ديوانه الذي أصدر منه جزءين 1903 - 1904؛ فإن شارحهما هو الرافعي نفسه، وفيهما عليه ثناء وإطراء
في الحادثتين السابقتين إشارة إلى بعض الأسباب التي كانت تحمل الرافعي على أن ينحل أصدقاءه بعض ما يكتبه؛ وهنالك أسباب أخرى:
في سنة 1917 وقعت في طنطا جريمة قتل مروعّة؛ وكانت القتيل امرأة عجوزاً مسموعة بالغني والشح الكزازة، تزوّجها قبيل مقتلها شاب من الشباب العابثين طمعاً في مالها، فلم يلبث معها إلا قليلاً ثم وقعت الجريمة!
وتوجهت التهمة أول ما توجهت إلى زوجها الشاب، ثم انصرفت عنه إلى أختها وزوج أختها فسيقا إلى قفص الاتهام، وكانا شيخين عجوزين فيهما بلاهة وغفلة، فلم يستطيعا الدفاع عن نفسيهما، وهّيَّئّا بغفلتهما وبلاهتهما الفرصة للمجرم الحقيقي أن يحوك حولهما الشبكة وأن يصوّب عليهما أدلة الاتهام لينجو هو من العقوبة. . .
كان المجرم الحقيقي معروفاً للجميع، ولكن المحكمة بما اجتمع لديها من براهين مصنوعة لم تجد أمامها غير هذين البريئين المغفّلين فألقت بهما إلى السجن المؤبد؛ وقضيا في السجن بضع سنين!
شيخان على أبواب الأبدية، يساقان إلي ظلام السجن ليس من ورائه إلا ظلام القبر، ولم يقترفا جريمة أو يرتكبا إثماً. . . ولكن القانون قد قال كلمته، والقانون حق واجب الأحترام؛ فلم تبق إلا الرحمة الإنسانية شفيعاً من قسوة القانون. . .
وسعت أسرة السجينين إلى المحامي الأديب الأستاذ حافظ ع تطلب إليه أن يكتب استرحاماً في أمرهما إلى أمير البلاد، لعل في عطفه ما يأسو الجرح ويخفّف وقع المصاب، وجعلت له أجراً على ذلك مائة جنيه!
وما ذل يقول المحامي في قضية فرغت المحكمة من أمرها وقال القضاء كلمته؟
ليس هذا سبيل المحامي الذي يرتَّب القضايا ويستنبط النتائج ويستنطق الصامت ويستوضح الغامض؛ لقد فات أوان ذلك كله فلم تبق إلا كلمة الشاعر الذي يخاطب النفس الإنسانية فيجتلب الرحمة ويستدر العبرة ويحسن الاعتذار عن البشرية من أخطائها فيذكي العاطفة الخابية ويوقظ الإحساس الراقد ويتحدث إلى القلب الإنساني حديث الوجدان والشعر والعاطفة. . .
وقصد الأستاذ حافظ إلى صديقه المرحوم الرافعي، ليضع القضية بين يديه ويسأله أن يكتب الاسترحام إلى أمير البلاد، وسمى له أجرة إن توفق في مسعاه
وقرأ الرافعي القضية وأحاط بها من كافة نواحيها، ثم شرع قلمه وكتب. . . وبلغت صيحته حيث أراد فأفرج عن السجينين في مايو سنة 1921
وتناول الرافعي أجرته على ذلك من المحامي سبعة عشر جنيهاً واستبقى المحامي لنفسه ثلاثة وثمانين. . .
في هذا الاسترحام الذي كتبه الرافعي في بضع وأربعين صفحة ونحله صديقه المحامي ليطبعه باسمه، لون من أدب الرافعي غير معروف لقرائه؛ فيه تحليل نفسي بديع، وفيه شعر إنساني يبلغ الغاية من السموّ؛ وفيه منطق واستنباط وملاحظة دقيقة لا تجد مقلها في أساليب الأدباء
وقد ظل هذا (التعاون) الأدبي متصلاً بين الرافعي وصديقه الأستاذ حافظ إلى ما قبل موت الرافعي؛ ولكن هذا (التعاون) قد خرج من نطاق القضايا والمحاكمات إلى نطاق أدبي آخر ليس من حقي أن أتحدث عنه اليوم. . . . وعند الأستاذ الزيات بقية الخبر، تحدث به الرافعي إليه في مجلس ضمنا نحن الثلاثة. . . .
وفي شهر ديسمبر من سنة ما، قصد الأستاذ جورج إبراهيم إلى صديقه الرافعي، يطلب إليه أن يعد كلمة عن المسيح لتلقيها فتاة مسيحية في حفلة مدرسية في ليلة عيد الميلاد. . .
وكتب الرافعي المسلم كلمة مسلمة في تمجيد المسيح فدفعها إلى صديقه. . . وألقتها الفتاة في حفل حاشد من المسيحيين المثقفين فخلبت ألبابهم واستحقت منهم أبلغ الإعجاب
وفي الشهر التالي كانت هذه الخطبة المسيحية الرافعية منشورة في (المقتطف) منسوبة إلى الفتاة. وكانت عند أكثر القراء المسيحيين إنجيلاً من الإنجيل
تحت يدي الآن النسخة الأصلية من هذه الخطبة مكتوبة بخط الرافعي، وهي النسخة التي بعث بها إلى صديقه الأستاذ جورج ليدفعها إلى الفتاة؛ وفي صدرها إلى صديقه: (هذا ما تيسر لي على شرط الفتاة، فنقح فيه ما شئت، واضبط لها الكلام. والسلام)
وفي آخرها يتفكه مع صديقه ((وعلى الأرض السلام، وفي الناس المسرة) والمضرة، والمعرة يا عم جورجي)
وكان الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي - صهر الرافعي - من تلاميذ الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده المقربين، وكان أدنى منزلة إليه من كثير من تلاميذه، على أن تأثر به كان من الناحية الأدبية وحسب، على حين كان تلميذه المقرب المرحوم السيد رشيد رضا مخصوصاً بالرواية عنه في الناحية الدينية، فكلاهما من تلامذة الأستاذ الإمام ولكن لكل منهما نهجه وشرعته
فلما هم الأستاذ البرقوقي أن يصدر مجلة البيان - وكان السيد رشيد رضا قد سبقه بإصدار مجلة المنار - قصد البرقوقي إلى الرافعي يقول له: (إنني لا أتصوَّر كيف يصدر العدد الأول من (البيان) وليس فيه كلمة أو حديث أو مجلس من مجالس المرحوم الأستاذ الإمام، وأنا كنت أدنى إليه مجلساً من رشيد رضا الذي لا يصدر عدد من مجلته - المنار - إلا وفيه حديث أو خبر أو مجلس من مجالس الشيخ محمد عبده!)
قال الرافعي: (فابدأ العدد الأول بما شئت من حديثه أو مجالس درسه!) قال البرقوقي: (ولكني لا أجد عندي ما أرويه عن الإمام؛ لقد ترك الشيخ في نفسي أثره ولكنه لم يترك في ذاكرتي من حديثه ومجالسه شيئاً يستحق الرواية!)
قال الرافعي: (. . . . ولابد من ذكر شيء عنه في البيان؟)
قال: (بلى، وإلا غلبني رشيد رضا واستطال عليّ عند قراه بأنه هو وحده تلميذ الإمام وراويه!)
وضحك الرافعي وأطرق هنيهة، ثم تناول قلماً وورقة وكتب. . .
وصدر العد الأول من مجلة البيان، وفيه حديث يرويه البرقوقي عن الشيخ محمد عبده في مجلس من مجالس درسه؛ بأسلوب من أسلوبه وروح من روحه وبيان في مثل بيانه؛ وما قال المرحوم الإمام شيئاً من ذلك ولا تحدث به، ولكنه حديث مصنوع وضعه الرافعي على لسان الأستاذ الإمام ونشره البرقوقي ليقضي لبانة في نفسه. . .
. . . ألقى إليَّ الرافعي هذا الحديث ساخراً، ثم دفع إليّ العدد الأول من مجلة البيان وهو يقول: (أقرأ؛ أترى هذا الحديث من مهارة السبك بحيث يجوز على القراء أنه من حديث الأستاذ الإمام؟)
وضحكْتُ وضحك الرافعي وعاد يقول: (ولكن تمام الفكاهة أن السيد رشيد رضا لما قرأ هذا الحديث المصنوع، التفت إلى جلساته قائلاً: (وأي حديث هذا حتى يبدأ به البرقوقي مجلته؟ لقد كنت حاضراً مجلس الشيخ، وسمعت منه هذا الحديث، ولكني لم أجد له من القيمة الأدبية ما يحملني على روايته. . .!)
. . . . واستمرّ هذا (التعاون) أيضاً بين الرافعي والبرقوقي طول المدة التي كنت تصدر فيها مجلة البيان، فأيّ مقال قرأت من أعداد هذه المجلة فشككت في نسبته إلى مُذَيَّله بأسمه، فاحمله على أنه مما كتب الرافعي من الأدب المنحول. . .
ويدخل في هذا الباب كثير من المقالات كان الرافعي يكتبها بأسماء طائفة من ناشئة المتأدبين؛ ليدفع عن نفسه في معركة، أو يدعو إلى نفسه لمغنم، أو ليعين صاحباً على العيش، أو ليوحي إلى (صاحب الإمضاء) إيحاءً يدفعه إلى الاستمرار في الأدب والأمل في أن يكون غداً من الكتاب المشهورين. . . وليس يعنيني في هذه الناحية أن أسمي أحداً أو أشير إليه، إذ كان الذي كتبه من ذلك ليس له من القيمة الأدبية ما يدعونا إلى الحرص على تصحيح نسبه، وأكثره لغو مما يُنشر في بعض الصحف لملء الفراغ
محمد سعيد العريان