مجلة الرسالة/العدد 280/رد على مقال

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 280/رد على مقال

ملاحظات: بتاريخ: 14 - 11 - 1938



ولي الدين يكن وشعره السياسي

للأستاذ محمد مجاهد بلال

قرأت في العدد 278 من الرسالة فصلاً للأستاذ كرم ملحم كرم عن ولي الدين يكن، فسرني أن يتحدث أديب من بيروت عن ولي الدين، فإن ولي الدين لا يذكره المصريون، كأنه لم يعش بينهم ولا يتحدثون عنه، كأنه لم يكن شيئاً ذا بال. ويرحمه الله فهو القائل (. . . وليس رجل ينكره معارفه ويتجافاه أقرب أقاربه إلا الأديب، فهو إذا برّز على أقرانه حسدوه وإن قصر عنهم حقروه)

ومن الحق أن أقول إنني لم أكد أفرغ من قراءة المقال حتى أحببت أن أقول شيئاً في ولي الدين، لا لأن الأستاذ كرم حبّب هذا الشاعر إليّ، فإني أحب ولي الدين من قبل، وقد كتبت عنه أكثر من مرة، وإنما لأن الأستاذ له رأي في شعر ولي الدين السياسي لم أستطع فهمه، فهو يقول:

(ولي الدين كان عبد العاطفة، وكل شعر شذ به عن العاطفة كبا فيه، والدليل شعره السياسي؛ فأين هذا الشعر من القصائد المصهور فيها قلب ولي الدين؟ فبينا أنت إزاء ولي الدين العاطفي في حضرة شاعر من الطبقة الأولى إذا بك تجاه شعره السياسي أمام شاعر من الطبقة الثانية بل الثالثة)

ولقد جرى في أكثر حديث الأستاذ معنى هذا الكلام واتضح أنه حكم على شعر الرجل السياسي حكماً لا أقول قاسياً وإنما هو بعيد عن ولي الدين

والغريب أن الأستاذ حين أراد أن يقيم الحجة على رأيه تجاهل شعر ولي الدين السياسي كله ولم يذكر منه إلا هذين البيتين:

هلمو بنا نحو الأمير نسلم ... سلام على عباس مصر المعظم

ألا إن في الأكباد شوقاً مبرحاً ... إليه فقد كادت من الشوق تدمى

مع أن هذين البيتين لا يدخلان في باب الشعر السياسي بقدر ما يدخلان في باب التهنئة والمديح!

أحب الآن إذاً أن أعرض لشعر ولي الدين السياسي وأن أعرض له في شيء من الإيجاز، فإني أعلم أن صفحات الرسالة معدودة ووقت فراغي محدود

شعر ولي الدين السياسي جله عذب وجله قد نطق به (وقلبه مصهور) وأظن أن القلب لا يصهره حب الغواني فقط - كما يفهم من مقال الأستاذ - وإنما تصهره الآلام جميعاً مهما كانت مصادرها. والذي يعرف تاريخ ولي الدين وحياته بين القاهرة والآستانة وسيواس يعرف أن شعره السياسي لم يكن عبثاً وإنما كان ينطق به وعواطفه ملهبة وقلبه ملتاع.

لقد كان ولي الدين أصدر بالقاهرة جريدة سماها (الاستقامة) فمنعت حكومة الآستانة دخولها إلى المالك العثمانية واضطر أن يوقف صدورها ويودعها بقصيدة جاء فيها:

ولي أمل أودي الزمان بنجحه ... وخيبه سوء الظنون فخابا

ولو شئت وفيت الليالي حسابها ... عليه ولكن لا أشاء حسابا

ومنها:

فمن مبلغ عني الغضاب الألى جنوا ... بأني امرؤ ما إن أخاف غضابا

أذم فلا أخشى عقاباً يصيبني ... وأمدح لا أرجو بذاك ثواباً

علام أحابي معشرا أنا خيرهم ... ومثلي إذا حابى الرجال يحابى

إلى أن قال:

ولما غدا قول الصواب مذمماً ... عزمت على أن لا أقول صوابا

فجافيت أقلامي وعفت (استقامتي) ... ورحت أرجي للسلامة بابا

فهل من الحق أن ننكر في هذه الأبيات قلب ولي الدين وعاطفته وهل من الحق أنه قد كبا فيها؟ لا أظن.

وهذه أبيات من قطعة أخرى قالها ولي الدين في منفاه:

فؤاد دأبه الذكر ... وعين ملؤها عبر

ونفس في شبيبتها ... وجسم مسه الكبر

وآمال مضيعة ... ووقت كله هذر

وعيش عذبه مضض ... وعمر صفوه كدر

أما يا ليل من صبح ... لمن سهروا فينتظر

ومنها: علام نلوم أعداء ... على شر إذا قدروا

بلونهم لدن شبوا ... أننساهم إذا كبروا

نصحناهم فما انتصحوا ... زجرناهم فما ازدجروا

لقد صلدت قلوبهمُ ... كأن قلوبهم حجر

إذا ائتمروا على كيد ... فإنا سوف نأتمر

فمن نخشى وفوق العر ... ش مهما يغترر بشر

فهل من الحق أن ننكر في هذه الأبيات أيضاً قلب ولي الدين وعاطفته؟ وهل من الحق أنه قد كبا فيها؟

وانظر إلى ولي الدين وهو يصور رجال العصر الحميدي وقادته في أبيات لا تقل جمالاً عن سالفتها:

كفى حزناً أن الرجال كثيرة ... وليس لنا فيما نراه رجال

نحكم قوماً لا يبالون قائلاً ... وإن قام كل العالمين فقالوا

إذا ارتقبوا أمراً فذلك منصب ... أو اطلبوا شيئاً فذلك مال

بغال تسوس الأسد شر سياسة ... وما ساس أسداً قبل ذاك بغال

أما بعد: فالأستاذ كرم موافق على أن ولي الدين يجيد ويسمو ويبرع ويروع حين يصهر قلبه، فهل حالات ولي الدين التي دفعته إلى أن يقول هذا الشعر الذي قدمتُه لا تصهر قلبه؟ وماذا ننتظر من رجل تحولت آماله آلاما سوى أن نسمع منه صدى قلبه المصهور، ومن رجل منفي سوى أن ينطق بما يكابد ويعاني، ومن رجل حرا أبى - يرى حريته مكبوتة ولسانه معقوداً - سوى أن يترجم لواعجه وفواجعه؟

إحدى اثنتين: إما أن يكون ولي الدين يجيد ويروع حين يصهر قلبه - كما يرى الأستاذ - وإذاً فهذه الأبيات جيدة رائعة، وإما أن هذه الأبيات ليست جيدة ولا رائعة - كما يرى الأستاذ كذلك - وإذا فولي الدين لا يجيد ويروع حين يصهر قلبه فليختر الأستاذ لنفسه إحدى السبيلين

(طهطا)

محمد مجاهد بلال تفتيش المعارف