مجلة الرسالة/العدد 28/من جد الشتاء

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 28/من جد الشتاء

ملاحظات: بتاريخ: 15 - 01 - 1934


الدكتور طه حسين

من جد الشتاء أن تهنئ الزيات بعيدين يطلع بهما عليه فجر يوم واجد، هو هذا اليوم الذي تظهر فيه الرسالة للناس، وتشرق بهما عليه شمس واحدة هي شمس يوم الاثنين، ويستقبل فيهما ابتسامتين ما أعرف أن في الحياة شيئاً أحب إليه ولا أحسي في نفسه وقعاً، ولا أجمل في قلبه صورة، ولا أشد إحياء في الأمل واستدعاء للغبطة، وإثارة للابتهاج منهما، إحداهما مقصورة عليه أو كالمقصورة عليه. استغفر الله، بل هي مقسومة بينه وبين شطر نفسه وشريكته في الحياة، وهي ابتسامة ابنه (رجاء)، والأخرى شائعة بينه وبين أصدقائه وأحبائه وخصومه وأعدائه في مصر كلها، وفي الشرق العربي كله، وفي كل طرف من أطراف الأرض تقرأ فيه اللغة العربية ويذاق فيها الأدب العربي، وهي ابتسامة بنته (الرسالة). فقد رزق الزيات في مثل هذا اليوم من العام الماضي هذين الوليدين العزيزين، فسعد بأولهما في نفسه وأسرته، وسعد بثنتيهما في نفسه وأمته، وأنفق عامه كله معنياً بنتشئ رجاء وتنمية الرسالة، يقصر جهد عقله على هذه، ويختص بفيض قلبه ذاك. ويجني من هذه كما يجني من ذاك هذه الثمرات الحلوة المرة، اللذيذة المؤلمة، التي يجنيها الأحياء من حب الأحياء والعناية بهم والانصراف إليهم عن كل شيء.

يبتسم رجاء للحياة فيبتسم قلب الزيات وتنعم نفسه، وتبتسم الرسالة للحياة فيبتسم عقل الزيات وينعم ضميره، تعرض الآم الحياة لرجاء فيكتئب قلب الزيات، ويأرق ليله وينغص نهاره، وتظلم الحياة في وجهه، وتعرض المصاعب للرسالة فيبتأس عقل الزيات ويقلق ضميره وتضيق به الأرض ويضيق هو بالأرض، لا يطمئن ولا يستريح ولا يتذوق لذة العيش إلا إذا استقبل النهار في بيته، وبابتسامة الرسالة خارج البيت. أليس من الجد أن نهنئ صديقنا إذا استدار العام وأقبل يوم الاثنين، فإذا رجاء يقبل على الحياة مبتسماً لها، مغتبطاً بها، آخذاً منها بهذا الحظ الحلو، الجميل الصفو، الخالص من كل شائبة، الذي لا يتاح إلى للأطفال، والذي أتيح لنا جميعاً في وقت من الأوقات، ثم محته من نفوسنا وقلوبنا وذاكرتنا هذه الأيام التي تمضي وهذه الليالي التي تتبعها، فإذا نحن لا نذكره ولا نقدره، وإنما نأسى عليه ونود لو استطعنا أن نحقق المستحيل فنسعد لسذاجته النضرة، ونحتفظ مع ذلك بمصدر ما نكره من الألم والحزن، ومن الكآبة والشقاء، وهو العقل والضمير.

أليس من الجد أن نهنئ الزيات إذا استدار العام وأقبل يوم الاثنين، فإذا الرسالة تستقبل الحياة واثقة بإقبال القراء عليها وتأييدهم لها، وحرصهم على أن يستقبلوها كلما دار الأسبوع قوية نشيطة، ممعنة فيما هي فيه من تصوير الحياة الأدبية الشرقية، والآمال الأدبية الشرقية بما فيها من جد وهزل، ومن قوة وضعف، ومن أمل ويأس، ومن نور وظلمة، ومن نشاط وخمول. بل أن من الجد كل الجد أن نهنئ صديقنا بهذا اليوم السعيد لقلبه وعقله معاً. وأن نتمنى لصديقنا أن يستدبر الأعوام والأعوام، وأن يستقبل هذا اليوم كلما أتم الفلك دورته بهاتين الابتسامتين اللتين تملان قلبه وعقله وضميره وغبطة واطمئناناً لأداء الواجب واستعداداً للنهوض بأعباء الحياة.

ومن جد الشتاء أن نذكر لهو الناس بلذات الشتاء، وما أكثر لذات الشتاء وما أعذبها، وما أشد تنوعها واختلافها، وما أحسن موقع بعضها من القلوب، وما أجمل أثر بعضها في النفوس، وما أقل حظنا من الرغبة في خيارها والإقبال على طيباتها. أما دور السينما فحافلة والحمد لله في جميع ليالي الأسبوع، وفي جميع أيامه، كثيرة ولكنها على ذلك مزدحمة بالمختلفين إليها، مكتظة عليها تعرض عليهم كثيراُ من السخف وقليلاً جداً من القيم المفيد، وهم بذلك راضون، وفي ذلك راغبون، لأنهم لا يبتغون إلا هذه اللذة اليسيرة القصيرة التي تلهيهم عن هموم الحياة وأثقالها ساعات من ليل، أو ساعات من نهار، وأما دور التمثيل فالأمر فيها مختلف، منها العربي الذي يعيد ما يبدئ، ويبدئ ما يعيد، يصاحب الحياة دون أن يحيا، ويستقبل الأيام والليالي، لأن الأيام والليالي تمر به وتغمره كما تمر بكل شيء، وكما تغمر كل شيء. لا يحدث جديداً ولا يبتكر طريفاً، والناس مع ذلك يغشون هذه الدور في كسل، وفتور لأنهم تعودوا أن يغشوها كما تعودوا أن يغشوا الأندية والقهوات ينفقون فيها ساعات فارغة من حياة فارغة. ثم يعودون إلى بيوتهم بنفوس فارغة وقلوب فارغة وأجواف ممتلئة. والله يعلم بأي نوع من أنواع الطعام والشراب، وأنك لتسأل نفسك وتسأل الناس وتسأل الأدباء، وتسأل النقاد عن القصة الطريفة من قصص التمثيل والآية البديعة من آيات الفن التي استقبلنا بها فصل الشتاء، فلا تظفر إلا بهز الرءوس ورفع الأكتاف وابتسامة فيها السخرية وفيها الحزن، وفيها اليأس من الحياة والازدراء للحياة والانصراف عما يجعل للحياة قيمة أو يجعلها خليقة بالتفكير والتقدير.

ومنها دار الأوبرا الملكية التي تنام تسعة أشهر، وتستيقظ ثلاثة أشهر من كل عام، تنام لأنها في بلد يحب النوم، وتستيقظ لأن قوماً من الأجانب يوقظونها كلما انتهى الخريف وأقبل الشتاء، وهم يوقظونها لأنهم يدعون إلى ذلك ويرادون عليه. تدعوهم إلى ذلك الدولة. لأنها لا تريد أن ننام طول العام، أو لان يظن بنا الناس أننا ننام طول العام، أو أن يزورنا السائحون فلا يجدوا عندنا ما يلهيهم ويريحهم من تعب النهار. ويدعوهم إلى ذلك ضيفنا الأجانب الذين لا ينامون لا في الصيف ولا في الشتاء، ثم أيقاظ في بلادهم إذا أقبل الصيف، وهم أيقاظ في بلادنا إذا كان الشتاء، هم يلهون في بلادهم على حساب أنفسهم إذا أقبل الصيف، وهم يلهون في بلادهم على حسابنا نحن إذا أقبل الشتاء، والغريب أننا نلهيهم ولا نلهو معهم. وحق الضيافة على أقل تقدير يقضي علينا بأن نشاركهم فيما نقدم لهم من اللهو. ولكن أحصيت لي الطرابيش التي كانت في الأوبرا يوم الاثنين الماضي. فلم تبلغ العشرين. فأما العمائم فما لها وللأوبرا؟ وكيف يظن بها أن تختلف إلى هذه الدار؟!