مجلة الرسالة/العدد 28/العلوم
مجلة الرسالة/العدد 28/العلوم
سمك البكلاه
للدكتور أحمد زكي
السماكة كالزراعة صناعة من أقدم الصناعات، بل هي أقدم من الزراعة لأنها صناعة صيد، والإنسان كان صياداً قبل أن كان زراعاً، يصطاد طعامه على الأرض وفوق الدوح وكذلك في الماء. وكانت طريقته في صيد ما على ظهر الأرض وما في الهواء مسك ما يمسك، وقذف ما يفلت بالحراب مصنوعة من الحجز والخشب ثم من الحديد. ولكن هذه الطرائق التي أساسها القوة لم تغنه في صيد أحياء البحار إلا قليلاً؛ لأن البحر غير الأرض، لم يخلق لحمل الرجل والحافر، والإنسان لم يؤت زعنفة ولا ذيلاً، وهو إن عام فاصطناعاً وتكلفاً، وفوق ذلك فالماء إذا سمك تعثر البصر فيه فلا ينفذ إلا يسيراً لذلك غير الإنسان طريقة الهجوم وعمد إلى الحيلة، إلى الختل والخديعة، فعقف إبرة ربطها بحبل أمسكه بيده، ثم كساها بما يصلح أن يكون طعاماً، ثم في الماء دلاها فجاءت تالسمكة المسكينة تسعى كالناس للرزق فلما وجدته وجدت تفيه حتفها. وطمع الإنسان في غلة من البحر كبيرة، والبحر أبو الخيرات، كثير الفيوض، فعمد إلى الحبل الطويل يمده بين السفينتين تتدلى منه الحبال تحمل الصنارات الكثيرة تخفت تحت ألوان من الطعام شهية لم تبذل عن سخاء. ثم جاء دور الشباك، ثم امتدت هذه وطالت حتى بلغت قيمها مئات الجنيهات. وجاء البخار فاستبدلت السفن الشراعية بسفن بخارية، وارتقت طرق الصيادة وأحكمت، فكثر المصيد وتعددت أنواعه واتسعت تجارته فأثرت الأمم وأغنتها.
ومن الدول من يعتمد في أكثر ريعه واتزان ميزانيته على الدخل الذي يأتيها من السماكة. ولما كانت هذهالدول تصيد الأقل لنفسها، وتصيد الأكثر الكثير لغيرها من الأمم البعيدة النائية، وكان السمك قريب التحلل سريع العطب، عمدت إلى تحليله وتقديره، فأصبح يختزن منه بنسبة لا تختزن بها اللحوم، وصار ما يصاد في القطب يؤكل في خط الاستواء، ومن ذلك سمك البكلاه الذي نحن بحديثه اليوم.
والبكلاه إسبانية معناها سمك الحوت، وهو سمك يقطن المناطق الشمالية من البحر الأطلسي ويقطن بحر الشمال والبلطيق؛ ويوجد كذلك في شمال المحيط الهادي، وتتحدد أخص مناطقه بخطي عرض 0 و 75
وهو لا يوجد في البحر الأبيض المتوسط. ويسكن من البحر أعماقه على مسافات تتراوح في الأغلب بين العشر قامات والمائة قامة، ولو أنه غوري في سكناه وعادته إلا إذا آن أوان إنساله غادر الأعماق الكبيرة ورحل في قطعان هائلة إلى أماكن من البحر يترجح عمقها بين 20و30 قامة يكون فيها أقل استهدافاً للمهالك، فإذا هو بلغها ألقى بيضه فطفا في الماء، ويحدث هذا غالباً في يناير وفبراير ومارس، فإذا فقس البيض وتبدل واستتم خلقه تدرج في النزول إلى الأغوار الأعمق وعندئذ يبدأ يعيشكما عاش آباؤه، فإذا بلغ من العمر سنة استطال حتى ليبلغ ثمانية من البوصات، ثم يزداد في الطول عاماً بعد عام، حتى إذا استتم عامه الرابع أدرك فاستطاع أن يكون أباً أو أماً، ويكون طوله عندئذ نحو قدمين، وإذا امتد به الأجل عاش إلى أن يطول إلى خمسة أقدام وبلغ ثمانية من البوصات، ثم يزداد في الطول عاماً بعد عام، حتى إذا استتم عامه الرابع أدرك فاستطاع أن يكون أباً أو أماً، ويكون طوله عندئذ نحو قدمين، وإذا امتد به الأجل عاش إلى أن يطول إلى خمسة أقدام وإلى أن يزن خمسين رطلاً.
وتبيض الأنثى من الحوت بيضاً يتذبذب عدده بين المليون والعشرة الملايين في الفصل الواحد تبعاً لحجم الأنثى وزنتها. ويبلغ قطر البيضة جزءاً من عشرينمن البوصة، وليس كل البيض بفاقس، فأكثره يذهب طعمة لغادي السمك ورائحه، وكثير منه يهلك فلا يستتم إنضاجه بسبب مؤثرات فيزيائية لا طاقة له بها، وقد عرفت الطبيعة منه ذلك فزادته عدداً لكي يفلت منه المقدار الذي لابد منه لاضطراد وجوده.
وأكثر صيد الإنسان للحوت يكون في فص إنساله، ذلك لأنه فص التجمع فالترحل إلى سطوح من قيعان البحر أقرب إلى يد الإنسان. وأشهر هذه السطوح مواضع ثلاث، ساحل النرويج، وجزيرة أسلن وجزيرة نيوفوندلند وهي لذلك أشهر مصايد الحوت. وعدادها قيعان ضحلة ببحر الشمال بين بريطانيا والقارة الأوربية.
أما مصايد النرويج فقد هيأت لها الطبيعة ساحلاً متعرجاً، يدخل فيه البحر تارة ويدخل هو فيه تارة أخرى، وينحدر شاطئه في الماء انحداراً باغتاً كبيراً. وفي قبالة هذا الساحل سلسلة جزائر اللوفوتي في حذاء الشاطئ النرويجي وتستدير قليلاً مع استدارته، تنحو عليه، كأنما تحميه من أنواء البحر الطلق وأمواجه. وعدا هذا تأتي الشاطئ التيارات المائية الدافئة من خط الاستواء من حرارته فتقل نحواً من عشرين درجة عن حرارة أي نقطة من الكرة الأرضية على خط عرضه. ولهذا لا تتجمد البحار النرويجية في الشتاء، فهي تهيئ بقيعانها وطيب جوها مناخاً مستطاباً لقبائل الحوت تنزح إليه لتؤدي في كنف الحب واجب الحياة الأول.
أما مصايد جزيرة نيوفوندلند فأوفقها منطقة تتكون من سلسلة جبال علاها الماء نحواً من ثمانين قامة، قممها تحت الماء من رمل وطين، يرحل إليها الحوت في جماعاته فيجد عندها مسكناً ومستقراً إلى حين. ويزيد في صلاح هذه المنطقة تياران بحريان يلتقيان هنالك، يحملان معهما مقادير لا حصر لها من أحياء متعضونة صغيرة ومن الفطريات، غذاء طيب لا للحوت ولكن لأسماك قشرية وأخرى رخوة يعيش الحوت بدوره عليها.
كذلك لجزيرة أسلن وللبحر الشمالي ميزات من ضحولة واسستار عن هائجات المحيط تجعل الحوت يقصدها.
وتعود السفن بحمولاتها من الحوت، فيشق ويغسل باطنه ثم يملح. وبعد استكمال ملوحته يجفف إما في الشمس إن كانت. وأما في حجرات سخن هواؤها بالفحم، وذلك إلى أن يبلغ درجة من الجفاف معروفة. وقد يجفف بلا تمليح. ثم يصدر هذا القديد، وهو المعروف عندنا بالبكلاه، إلى أوربا الجنوبية ومصر والقارة الأفريقية. أما كبد الحوت فتعالج بالبخار وهي صبيحة فتدر بزيتها المشهور. ولحم الحوت أبيض لذيذ الطعم وهو طازج، سهل الهضم إلا أنه قليل التغذية نسبة إلى غيره وذلك لقلة دسمه، حتى كأنما تركز دسمه في كبده فافتقدته سائر الأعضاء. أما زيته فغذاء طيب كسائر الزيوت ويمتصه الجلد سريعاً فيغذي به الأطفال في بعض الأمراض بدعك بطونهم به. وكشفوا فيه عن فيتمين من الفيتمينات التي تذوب في الدهن فطلبه الطب فغلا ثمنه. والزيت النقي له طعم جميل كطعم الزبدة لا رائحة للسمك فيه، ولكنه سريع العطب بالتأكسد وينشأ عن هذا التأكسد طعمه الكريه، والزيت يتأكسد ولو احتجب عن الهواء لأن به أكسجيناً ذائباً يكفي لإفساد نكهته. والطريقة الحديثة لوقايته من ذلك تتلخص في تفريغ ما فوق الزيت من هواء كائناً ما كان، فينبعث منه كل غاز مذاب، ثم يطلق في الفراغ الحاصل غاز الكربون فيحل في الزيت محل الهواء.
ويقدر الحوت المصيد في السنة بما بين 300و400 مليون حوتة، ثمنها دون دون الزيت خمسة ملايين من الجنيهات والطازج منه كثير في إنجلترا فقد قصد صيادوها بعد الحرب العالمية إلى منافسة الأمم في اصطياده فبرزوا عليهم. والطازج منه رخيص في إنجلترا، كنا ندفع في الرطل منه ستة بنسات أو دون ذلك. أما القديد فثمن الرطل منه دون هذا.
والحوت له المحل الثاني في جدول أسماك العالم الاقتصادية أما المحل الأول فلسمك الرنكة المعروف بالرنجة ولا نراه في مصر إلا مملحاً أو مدخناً.
وقد بدأ القلق يظهر خشية على الحوت والرنكة وغيرهما من الأسماك أن تنفد من المحيطات وذلك لإمعان الإنسان في اصطيادها ولتحسن العدة التي يستخدمها في ذلك، فهو بتحسنها يأتي بالمحصول الأكثر لقاء مجهود أقل وزمن أقصر. وهم يحاولون اتقاء هذا بإغلاق المصايد أحياناً، وبإنشاء المرابي الصناعية أحياناً أخرى. ويطهر أن الطريقة الأولى هي الوحيدة الناجعة، إذ لابد من أن يتباطأ الصيد حتى يتمشى مع سرعة إنسال السمك فلا يصيد الإنسان غير المزيد. أما الطريقة الثانية فتقليد للطبيعة عسير، وقد دلت التجارب على أن تلك المرابي يأتي أكبرها في العام من الخلف بالمقدار الذي يأتيه بضع مئات فقط من الحوت الطليق في المحيط.
ومصر، مصر الواقعة جنوب البحر الأبيض؛ وغرب البحر الأحمر، وكلاهما مزرعتان تناهضان في أمل الثراء ضياع الدلتا والصعيد، ما دخلها مما أحاطها الله من بحاره؟ لا أدري. إنما الذي أدريه أنها في يوم عيدها القومي تأكل سمك البكلاه، وهو لا ينزرع في بحرها الأبيض، إنما يأتي من أصقاع بعيدة نائية.
أحمد زكي