مجلة الرسالة/العدد 279/في رمضان

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 279/في رمضان

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 11 - 1938



للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

ليقل من شاء ما شاء، فإني أعتقد أن الله تعالى يغفر لي ذنوبي وخطاياي جميعاً جزاء لي على صبري في رمضان. ومن كان له أولاد كأولادي، وخدم كخدمي، فإن هؤلاء شفاعة كافية له بلا نزاع، وإذا كان القارئ لا يصدق، ولا يؤمن كأيماني بشفاعة هؤلاء لي، فلينتظر حتى تقوم الساعة وينصب الميزان

عددت أبواب الغرف وما المسها فإذا هي عشرون، ومنها تتألف جوقة موسيقية لا تفتر ولا تهدأ في ليل أو نهار، وقد يئست من حمل خادمتنا العجوز التي حملتني طفلاً - على كتفها أو ذراعها لا في. . . - على تزييت هذه الأبواب، وما أكثر ما قلت لها إني أشفق على هذه الأصوات الرخيمة أن تبح، فكانت تبتسم - أو تظن أنها تبتسم - وتقول: (الله يخليك يا سيدي!). فأقول لها: (لا تخافي علي فإن عمر الشقي، باق أي طويل، ولمن غيري يكون وجع القلب؟ كلا: لا تخافي، وإني لفي أمان من الموت ما بقيت لي، فإذا ذهبت أنت بعد عمر طويل، فإن هناك الأولاد. . .؛ كلا. لا خطر علي من هذا الردى العادي الراصد لغيري، المتربص بسواء)

فتدعو لي بطول العمر، ولكنها لا تزيت الأبواب! وقد حاولت أن أنهض أنا عنها بهذا العبء، فكادت تدق عنقي، فكففت بعد ذلك، ورضت نفسي على السكون إلى هذه الموسيقى

ومن طرائف هذه الخادمة العجوز أنها لا تكاد تسمع، أو تبصر، فهي لا تكاد تفهم. وأنا رجل خفيض الصوت جداً، وأحتاج أن أكلمها - فما من هذا مفر في بعض الأحيان - فأنادي أحد الأبناء الأفاضل وأقول له - وأنا أعلم أن هذا يسره - انقل عني بصوت عال، فيفعل، ولكن اللعين يصيح في أذني أنا!! ثم يقع على الأرض من الضحك

ويكون الولدان الصغيران في المدرسة، وتكون بي حاجة إلى كلام الخادمة، فماذا أصنع؟ لقد جربت عبث الصياح، فإن أقول لها (هاتي قهوة). فتغيب شيئاً ثم ترتد إلي، وتدعوني أن (أتفضل) فأتعجب، وأسأل نفسي: (ماذا يا ترى؟ هل شرب القهوة يستدعي أن تجرني هذه العجوز إلى غرفة أخرى؟) وأطيع، وأخرج، وأتبعها، فإذا هي قد أعدت لي طشتاً وإبريقاً وسجادة للصلاة!! لهذا صرت إذا احتجت أن أطلب منها شيئاً، أكتب لها رقعة بما أريد، تذهب بها إلى البقال أو النجار، أو الجيران، ليشرحوها ويبينوا لها ما فيها، وما أكثر ما يعابثها البقال!!

ولا أستطيع أن أنهرها، أو حتى أن أظهر لها الغضب أو الأمتعاض، أو الضجر، فقد ربتني صغيراً، وليس هذا ذنبي، ولكنها تعدني (ملكا) لها، وترى أن هذا يخولها حقوقاً علي، فالبيت كله بيت (ابنها) بما فيه، ومن فيه، ومن كان لا يعجبه هذا فلينفلق!

على أن مصيبة الأولاد أدهى، تكون الساعة الخامسة صباحاً، فأسمع نقراً على الباب، فأفتح عيني وأقول (تفضل. . . تفضلا. . تفضلوا. . . أو تفضلن) فيدخل اللعين الصغير الذي نسميه (ميدو) - وهي عندنا صيغة التصغير لعبد الحميد - فيدور بيننا هذا الحوار

- بابا

- نعم يا سيدي

- صباح الخير أولاً

- صباح الخير يا سيدي. خير إن شاء الله؟

- الساعة كم الآن؟

- الساعة؟ أو ليس عند ماما ساعة؟

- عندها ساعة. ولكنها قالت لي البارحة إنها خربت ووقفت

- هي قالت ذلك؟ وحضرتك صدقتها؟

- وهل ماما تكذب؟

- أعوذ بالله!! مستحيل يا سيدي. وهل يكذب إلا الكذاب؟

وأخبره أن الساعة الخامسة فيقول

- أنا ذاهب إلى المدرسة

فأصيح، واستوي قاعداً، (أي مدرسة يا أخي؟ وهل صارت المدارس في عهد هيكل باشا تفتح قبل الفجر؟ أما إن هذه لبلية! رح يا أخي، رح نم!)

فيقول (بس اسمع يا بابا)

فأقول وأنا أعيد رأسي إلى المخدة (سامع. فضل)

- بقى الأفندي قال لنا (يجب أن نكون موجودين في منتصف الساعة الثامنة، وأن من يتأخر عن هذا الموعد لا يشترك في الرحلة)

فأشتهي أن أقول في هذا (الأفندي) أشياء كثيرة. وأقولها فعلاً، ولكن في سري؟ كما كانت تفعل حماتي. أي نعم حماتي، فقد كانت في هذا قدوة، ومثلاً يحتذى. وكانت إذا سخطت على إنسان، توسعه ذماً، وسباً، ولعناً، في سرها! وكانت تجد في هذا شفاء لغليلها، فتتبسم، وتتنهد، وتضع يدها على قلبها وتقول (أيوه كده! الحمد لله! كنت سأطق)

وأقول للغلام (ولكن أين نحن من هذا الموعد؟ أذهب، ونم)

فيقول: (لا يا بابا، لئلا أتأخر!)

فأقول: (يا أخي، وما ذنبي أنا إذا تأخرت حضرتك)

فيقول: (إنما أردت أن أسألك هل أصوم؟ لأني أكلت في السحور مع ماما)

فأهز رأسي، وقد فهمت، ذلك أن ماما لابد أن تكون هي التي أوعزت إليه أن يبكر فيسألني هل يصوم أو لا يصوم وأقول له:

(إنك صغير، جداً، والصيام غير مفروض عليك، ثم إنك ذاهب لتلعب، وتنط، فستجوع بسرعة، فيجب أن تأخذ معك طعاماً وإلا مت من الجوع)

فيسألني (وماذا آخذ معي؟ إنهم لم يُعدوا لي شيئاً)

فأغتنم هذه الفرصة، وأقول له (يا عبيط! كيف تقول أنهم لم يعدو لك شيئاً؟ أو تتهم ماما بمثل هذا الإهمال؟)

فيسألني (هل تعني. . .؟)

فأقاطعه وأقول بصوت كالهمس (أسمع، لقد هيأت لك ماما كل شيء، ولكنها لم تخبرك حتى لا تخرج قبل الأوان، ثم لتفاجئك فتسرك. . . ماما لطيفة، أليست كذكلك؟ (فيهز رأسه موافقاً) ولكني صرت أخشى الآن أن تتأخر، وقد قال لك الأفندي إن من يتأخر لا يشترك في الرحلة، فاذهب إلى ماما، وأيقظها بلطف، وصبحها بخير، وارج منها أن تعطيك ما هيأت لك. . . وستنفي لك أنها صنعت شيئاً، لأنها تعتقد أنك بكرت جداً، وساعتها كما تعلم واقفة، فأفهمها أن الوقت قد أزف، وخذ ما تعطيك. . . والآن أذهب، ومع السلامة، وإن شاء الله نراك ونراها بخير)

فيذهب مسروراً، فأنهض خفيفاً، وامشي إلى الباب على أطراف أصابعي، وأوصده بالمفتاح، لأني أعرف ما يحل بي إذا تركته مفتوحاً!!

والمثل يقول (جن الذي نجا من الموت!) فلا تمضي دقائق حتى أشفق أن يتهشم الباب، ويتحطم رأسي، فلا يسعني إلا أن أفتحه، فتدخل ماما، كالإعصار وتصيح بي:

(ما هذا الذي صنعت؟ تغري الولد بي، فيوقظني في هذه الساعة وأنا صائمة!!)

فأقول: (ساعتك واقفة؟ أليست كذلك؟)

فتقول، وهي تغالب الضحك (يعني إيه؟)

فأقول، وأنا أعود إلى السرير (يعني دقة بدقة، والبادي أظلم!)

فتقول: (راجع إلى السرير؟ تقلقلنا وتنام! شيء جميل!)

فأقول: (من الذي أقلق صاحبه؟)

فتقول: (إنك أنت سبب القلق والمتاعب كلها في هذا البيت)

فأقول: (غفر الله لك يا امرأة! أذهبي وتوبي إلى الله واستغفري لذنبك عسى أن يرحمك)

فلا يجدي هذا النصح، وينتهي الأمر بأن أجمع المخدات المبعثرة في الغرفة، وأعيدها إلى حيث كانت، وأنا أنهج من التعب، وأتمثل بقول الشاعر:

(ومن ظن أن سيلاقي الحروب ... وأن لن يصاب، فقد ظن عجزا)

وهكذا، وهكذا، إلى آخره، إن كان له آخر. فالحق أن أجري عظيم في رمضان!

إبراهيم عبد القادر المازني