مجلة الرسالة/العدد 279/إلى شباب القصصيين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 279/إلى شباب القصصيين

ملاحظات: بتاريخ: 07 - 11 - 1938



كيف احترفت القصة

قصة الآنسة (ديلافيلد)

للأستاذ أحمد فتحي

لقد ظلت أول قصة كتبتها حتى اليوم بغير أن تنشر، ومن ودي أن تبقى كذلك أبد الدهر دون أن تخرج للناس

ولقد كتبتها أيام كانت أحلام مثيلاتي من الطالبات منحصرة في أن يتم للواحدة مرح الشابة (الأيرلندية) العابثة!. ومن المحقق أنني كنت متأثرة في قصتي الأولى بهذه الروح. وإني لأذكر عنها القليل جداً، ومن ذلك القليل أن البطلة كانت تسمى (بليس) وأنني جعلتها تموت وهي غضة السن: أعني لم تعدُ السبعين! بينما كنت أنا بين الثانية عشرة والرابعة عشرة. ولم يكن الحب - في تلك الأيام - ليخطر على بال إنسان لم يودع عشرين ربيعاً من عمره

على أن كثيراً من المشاهد التي كنت قد بنيت عليها هيكل تلك القصة ظل عالقاً بذهني مدى عشر سنوات كاملة، تقمص بعدها إهاب قصتي الأولى الجدّية (زيللا)

وربما كان من الخير أن أشير هنا إلى أن قصتي الأولى (زيللا) لم تكن أكثر من دراسة (سيكلوجية) لفتاة بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة، كان عليها أن تعاني اضطراب وراثة مختلطة تضطرب بين إنجليزية وفرنسية

وحينما فكرت في أمرها أول الأمر وأنا في غرفة دراستي، كنت أوثر أن تكون لها نفس صافية، بينما تفتقر إلى الخلق الشخصي القويم، حتى أنها تخدع نفسها بنفسها، وينتهي بها الحال إلى أن تعود غير خليقة أن تؤمن على أية حقيقة على وجه الإطلاق

ولم تكن القصة التحليلية - حينذاك - قد عرفت سبيلها إلى الذيوع؛ ولاسيما في الأوسط المدرسية؛ وبذلك كان اختياري الطبيعي لهذا الطراز محدداً للمنهاج الذي التزمته ودرجت عليه في مستقبل أيامي

ولقد علمت، عامدة أو غير عامدة، أن البطلة الأنموذج فيما كان تتاح لي قراءته من القصص، لم تكن تعني كثيراً بمطابقة الحقيقة ومحاكاتها. حتى أن تلك القصة العظيمة الت كتبتها (ماري كولمندبلي) باسم (الطعام الأحمر) والتي ضمنتها كثيراً من أروع الشخصيات، لم تخل من هفوة أو شبه هفوة، في تصوير بطلتها (راشيل) فتاة خيرة راجحة العقل. فإن المؤلفة لم تشأ أن تبرز بطلة قصتها في الصورة السمجة التي لابد أن تكون عليها في الحياة الواقعة؛ وهذا سر ضعفها. بل لقد بلغ إبرازها بهذا الوصف الخير من الثقل حد الطغيان على باقي شخصيات هذه القصة التي اختلط فيها الخير والشر مثل اختلاطهما في أفراد الجنس البشري بغير استثناء!

ولقد أوليتُ هذه القصة (الطعام الأحمر) عناية فائقة، لأنها كانت أول قصة عصرية حيوية أذكر أنني قرأتها بعين النقد وأعدت قراءتها مرات ومرات، كما أصنع دائماً بالكتب التي أفضلها، وبذلك استطعت أن أحللها بكل دقة، في حدود طاقة طفلة في مثل سني حينذاك

ولقد وضح لي منذ ذلك الحين أن رغبات الناس وتأثراتهم حيال الظروف المختلفة أمر ليس من السهل أن يُقرأ، أو يُكتبَ عنه، وأن تنزيه المؤلف لبطل قصته عن الأخطاء، من أشنع الأخطاء! وكذلك أنجيت بطلة قصتي (زيللا) من التعرض لمثل هذه المؤاخذة. والحقيقة أنه كان يروق لي أن أبرز نقائصها أكثر مما كان يروقني إبراز ما فيها من فضائل، فلم أكن أرغب مطلقاً أن أسمو بها عن المزالق الطبيعة التي يتورط فيها نظائرها من الشباب!

وبعد بضع سنين، حين كانت القصة بين يدي الناشر، كاشفته برغبتي في تغيير اسمها باسم آخر رمزي هو (الحرباء) ولكنه ردّني عن هذه الرغبة في رفق، زاعماً أن من القسوة على البطلة أن أشبِهها بهذا الحيوان البارد المتلوِّن!

على أنه قد يوجعني أن أضيف إلى ما تقدم أنني حين كتبت (زيللا) لأول مرة؛ وقبل أن أبدل فيها كثيراً أو قليلاً؛ كنت قد ختمت فصولها بمأساة فاجعة. وكذلك كانت تُختَتَمُ غالبية القصص التي قدر لي أن أقرأها إلى ذلك العهد. وعلى أي حال فقد كنت في سن لا يتورع فيها الإنسان من أن يبتسم للفواجع! وإنما كنتُ في الواقع أفوق من عاصروني بجعل الفكرة في قصة (زيللا) تمهد لتصوير البطلة في موقف مفاجأة عنيفة يتلخص في اقتحامها بيتاً وهو يحترق، كي تنقذ طفلاً؛ فإذا بها تجد نفسها طعمة للنيران فتحترق وتموت!

وأظن أني شعرت في غموض بأن وجود هذا الطفل في ذلك البيت المحترق، يعلل اقتحام الفتاة النيران بدافع غير سيئ! حتى ولو لم يكن الدافع لها على ذلك هو روح بطولة، وأؤكد أنني لم أتصرف تصرفاً كهذا في حياتي، مهما كان الدافع إليه مما يجعله - في نظري - على درجة عظمى من البطولة الحق!!

على أنني قرأت بعد ذلك بأمد، كتاباً للمستر (روبرت هيوبنس) اسمه (الجبان) انتهى أمر بطله إلى نفس تلك النهاية ذاتها، غير أن الصور النفسية فيه كانت أقلَّ رداءةً! كما أني قبل أن أضع لختام قصتي فكرة احتراق البيت، كنت أنوي أن أختتمها بانتحار البطلة! وكانت خاتمة كهذه خليقة بإنجاح القصة في نظري!

وبعد أن لبثت هذه الخواطر الفجة المتداعية متأرجحة في ذهني ست سنين أو سبعاً؛ نتج منها آخر الأمر شيء له هيكل (القصة). . . على أن عملي لم يكن ليتجاوز تصوير بعض الشخصيات التي خالطتها وخبرتها من كثب وتأثرت بها في مدارس الرهبنة

وإني لأذكر جيداً أنني لم أنفق أكثر من ستة شهور أو سبعة في تسجيل فصول هذه القصة تسجيلاً نهائياً. على أني لم أكن أكتب إلا في أوقات فراغي؛ وقد أخذت أوقات الفراغ هذه في التضاؤل بعد أن وضعت الحرب أوزارها، واستؤنفت الأعمال بهمة ونشاط

على أن فصول القصة لم تُكتب تباعاً، وإنما كنت أشرع في الكتابة حالماً أحس الرغبة في ذلك، فأثبت الحلقات الضرورية، بحيث أصل بين الصفحات كلما بدا لي أنها قد انفصل بعضها عن بعض. وهذه الطريقة - إذا جازت تسميتها كذلك - كانت كل ما في وسعي، لأنه لم تكن لدي أية فكرة إنشائية عن فن القصة، بل لم يكن وجود مثل هذه الفكرة ليخطر ببالي. وإني لأتصور أن قليلاً من قصص الناشئة قد كتب بمثل ما كتبت به حرارة العاطفة. ولقد استمرأت الكتابة بسرعة وبقلة اكتراث؛ وكان مضحكاً أن أقرأ للفصول الطوال على أصدقائي في صوت مرتفع؛ وكان من هؤلاء الأصدقاء واحدة فقط تتنبأ لقصتي بصلاحيتها للنشر، وربما لم يكن بين الباقين من آمن بصحة نبوءتها!

وفرغت من الكتابة في (إيستر) عام 1916 حين كنت معتزمة الرحيل، وقد كنت أؤمل أن أنتهي من أمرها قبل رحيلي، وإني لأذكر جيداً كيف كتبت بعض الصفحات الأخيرة وأنا جاثية إلى منضدة، بسبب عدم وجود مقاعد ساعتذاك في بيت الغرباء الذي كنت فيه، وما كدت أنتهي من الكتابة على هذا النحو حتى هرعت فلحقت القطار وإني الآن لأستدعي ذكريات صفحات هذه القصة بعد فراغي من كتابتها بقليل، وكيف كنت لا أظن كلمة واحدة منها تحتمل الحذف، فضلاً عن جريان القلم الأحمر على نصف صفحة كاملة مثلاً. وكذلك كنت شديدة الاعتداد بهذا العمل الأدبي الذي كتبته بأقصى سرعة تسمح بها حركة القلم على الورق، حتى أنني كنت شديدة الاعتقاد بأن قصتي فوق التنقيح وفوق التصحيح

على أني لا أزال حتى اليوم، وبعد احتراف الكتابة عشرين عاماً ونيفاً، كما كنت وثيقة الإيمان بإن إعداد الفصول للنشر أعداداً نهائياً هو أصعب مراحل الإنتاج الأدبي على وجه الإطلاق

ومن الخير أن أسمي المستعار الذي ظهرت به أعمالي الأولى كان من اقتراح شقيقتي ولكنه لم يكن من ابتداعها، إذ كان اختراع قصصي معاصر شهير، ولكنني وفقت إلى توقيع حرفي حسن هو (ا. م) ولم أكن أقصد به أن يخطئ الناس فيظنوني رجلاً ولكنني استعملته متابعة لكاتب معاصر كنت ولا أزال أقدمه على سواه.

ونصحت لي إحدى الصديقات بالبحث عن ناشر؛ ولم تلبث هي أن قدمت قصتي إلى (ويليام هاينمان) فوافق على نشرها على الفور. ولا أزال أحتفظ بذلك الخطاب الرقيق الذي بعث به إلى حينذاك.

ولم يكن لأمي علم بأنني وضعت كتاباً. ولقد كان عندها واحد من الأقرباء لا يفقه الأدب حين بلغتها برقية مني بأن كتابي قد وافق عليه الناشر! وبعد ساعة واحدة، وصلتها برقية أخرى علق عليها ذلك القريب الجاهل بقوله لأمي (لعلها تخبرك أن الأكاديمية الملوكية قد قبلت إحدى لوحاتها الزيتية)؟!

وعلى أي حال، فقد كان أسم (زيللا) من وضع مكتب الناشر (هاينمان) وربما كان على التحقيق من وضع المستر (ف تومسون) الذي كان يقرأ له كل ما يراد نشره!

وظهر الكتاب في مارس 1917. وصادف ظهوره نجاحاً فائقاً كباكورة أعمالي القصصية. وقد ظل الناشر نفسه يجهل اسمي الحقيقي حيناً طويلاً بعد ذلك

ومما هو جدير بالإشارة أن المستر (هاينمان) قد تفضل - بعد ظهور الكتاب - فدعاني إلى الغداء، حيث قدمني إلى ثلاثة من مشاهير الأدباء المعاصرين، وهذا ما لم يكن يطمع في مثله ولا بعضه أي قصاص مبتدئ! ولكنني كنت صغيرة السن جداً كما كنت قليلة الخبرة بأمور الحياة الأدبية، فلم أومن بهذا الفضل! بل إن غداء المستر (هاينمان) قد ظل أول وآخر عهدي بالمجتمعات الأدبية إلى الآن!

وكلما أعدت قراءة قصتي الأولى (زيللا) بعد الطبع، استرعت نظري فيها جدة خاصة، أظنها الطابع المميز لمعظم الأعمال القصصية الأولى، كما تسترعي انتباهي أيضاً طريقة كتابتها التي أصبحت بها بعيدة العهد. والواقع أنها لم تكن قصة بالمعنى الصحيح بقدر ما كانت تسجيلاً تعقبياً لما تميزت به البطلة من ضعف طبيعي جر على حياتها أسوأ العواقب. على أني أعتقد بأن استعراض شخصياتها لم يكن رديئاً. وكما أسلفت، أرى أن ضعف هذه القصة ينحصر في طريقة بنائها، وفي انعدام العقدة الفنية فيها، بحيث أنها كان من الجائز أن تختتم في منتصف فصولها، دون الاستطراد إلى مئات من الصفحات الأخرى.

ولكن. . . بعد أن تم كل شيء أحسست بشعور دافق من الارتياح يغمرني. ولست أنسى أبداً تلك اللحظة السعيدة التي تسلمت فيها النسخ الخمس الأولى من قصتي هدية من الناشر. . .!!

المترجم

أحمد فتحي