مجلة الرسالة/العدد 278/فردريك نيتشه

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 278/فردريك نيتشه

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 10 - 1938



للأستاذ فليكس فارس

- 3 -

ذلك كان فردريك نيتشه، مجسَّم القوة المفكِّرة التي دارت بها النائبات وحاصرتها الأوجاع وتصادمت مع تيارات الفلسفات التي كانت تهبُّ في ذلك العهد في ألمانيا وفي أوربا بأسرها حاملة للعالم مبادئ تضعضع العقل وتهزُّ المجتمع بتقويضها كل عقيدة تقيم أمام الإنسان غاية لحياته

فقد كانت أفكار فيخته وشللينغ وهيغل وشوبنهور تهب جميعها ناشرة في أوربا مزيجاً من مذاهب القدرية والعدمية ووحدة الوجود والإدارة الحرة، فقال شوبنهور إن روح الوجود قوة طائشة عمياء أدركت نفسها في عقل الإنسان وشعوره فوجم حائراً وفي نفسه ظمأٌ في صحراء لا ماء فيها غيرُ وهج السراب، ولم يجد هذا الفيلسوف من علاج لهذه العلة غير التمرد على الحياة نفسها بترك ملذاتها والالتجاء إلى الزهد وانتظار الفناء في ما يشبه النيرفانا وهي القوة التي تتلاشى كل شخصية فيها

وكانت الفلسفة الدينية تقاوم هذه التيارات للاحتفاظ بالعقيدة المسيحية بأبحاث لاهوتية ينسجها حول تعاليم عيسى رهطٌ من المفكرين كنويمن وكورليج وكارليل وشلير ماخر وبيالرووجان باينو وشارل سكريتان وإضرابهم فزجَّوا بالإنجيل في مآذق مجادلات ليست منه وليس منها في شيء. وهل خطر لذلك المعلم الإنساني وهو يدعو إلى تطهير النفس ومقاومة الظلم والأخذ بالرحمة وإقامة الإخاء بين بني الإنسان أن ينشئ مدرسة للتعليل عن مظاهر الكون ومنشأ الروح والانعكاسات من الآفاق والانطباعات في السرائر؟ بل هو خطر له أن يبحث علاقته بالله وعلاقته هو وحده أو هو وأبو الخليقة كلها بروح القدس؟

وأخذ نيتشه بهذه التيارات تهبُّ من كل جانب على فكره الوَّقاد تلهمه الآلام وتثير تشوَّقه إلى حال يعلل فيها سبب وجوده وهدف صبره وجهاده

إن الرجل المتمتع بصحة الجسم وبشيء من العزم يكتفي من هذه الحياة بما تعطيه، فإذا آمن بالله واليوم الآخر وقف عند إيمانه هذا مرتاحاً إلى ضميره، وإذا أُخذ بفلسفة الجحود رضي بهذه المرحلة من شعوره بذاته وطلب أوفر تمتع بأقل ج ولا يسطو القلقُ الفكري بخاصة في حالة الحيرة من أمر هذه الحياة إلا على الإنسان الذي يؤدي ثمناً باهظاً من أوجاعه لكل لذَّة يختلسها كالسارق من قوَّته الأسيرة في ضعفه الجائر

إن مثل هذا الإنسان إذا عززته القوة الخفية بالحس المرهَف، يطالب الدنيا ببدلٍ لما يبذل فيها فيستنطق نفسه والآفاق ليعلم ما إذا كان لهذه الإنسانية المعذَّبة المجاهدة ما يبرر محنتها وجهادها

وفريدريك نيتشه كان ذلك الإنسان فما أَرضته من الفلسفة اللاهوتية تلك الأحاجي التي أُحيطت المسيحية بها، وما كان ليرضى من جهة أخرى بهذه القوة الهوجاء التي صوَّرها شوبنهور موجدةً لإنسان لم يُعط له إلا التصور لإقامة أشباحٍ تتراقص حوله وهي غير كائنة إلا في وهمه

ونظر نيتشه إلى الوجود فرأى وراء صوره المتحولة مادة تتعالى عن الاندثار، فنشأت فيه فكرة العودة المستمرة، وبدأت صورة زرادشت ترتسم في ذهنه حتى استكملها فأنشأ كتابه في أوقات متقطعة من سنتي 1883 و1885 في فترات كانت تسكن فيها حِدَّة دائه أو هو يسكنها بما كان يتناوله من جرعات الكلورال المخدر. وهو نفسه يقول: إنه كتب كلاًّ من الأجزاء الثلاثة الأولى من زرادشت في مدى عشرة أيام كان فيها مأخوذاً بإلهامه خاضعاً لقريحة تحكمت فيه فلم يستطع مقاومتها حتى أرهقته إرهاقاً

إذا نحن عرفنا هذا تجلت لنا العوامل التي ألقت على زرادشت وشاح الأحلام، فان نيتشه يقبض في فصوله على مشاعر قارئه ليمر به على رؤى يتسامى الخيال فيها إلى أوجه مفلتاً من رقابة القوى الواعية فكأنه يسير بمطالعه في عالم أحلام تبعث أشباحها من انطباعات القوى الواعية ولكنها تتبع في مرورها وحركاتها ما نحسبه تضعضعاً في عالم القوى الساهية المجهولة

لقد ماشينا نيتشه في حلمه وهو يستعير لعقله الباطن أو لسريرته أو لفكرته الساهية اسم زرادشت الفارسي الذي قال بالخير والشر كقوتين تتنازعان حياة الإنسان، فرأينا زرادشت المزيف لا يقلد الأصلي باتخاذه أتباعاً له وباقتباسه لهجة حكماء الشرق إلا ليعارض فكرة الخير والشر قائلاً: إنها نشأت دخيلة على الإنسانية، وأن ليس لهذه الإنسانية أن تتفوق على ذاتها إلا بإنكار الخير والشر وتحطيم ألواح الشرائع المقدرة لقيم الأعمال، لأن كل شعب أشترع لنفسه ما لا يتوافق واشتراع جاره

ولكن نيتشه المتلبس خيال زرادشت في رؤياه لم ينتبه إلى أنه يرتكب تناقضاً بيناً في دعوته إذ ينكر ما يراه من خير وشر طلباً لحالة جديدة يراها هو خيراً يريد أن يتسلح به للقضاء على شر ينكر وجوده

ولو كانت الحقيقة كامنة وراء الخير والشر كما يدعي زرادشت الجديد، أو بتعبير آخر لو أن هنالك حقيقة مجردة عن الخير فلماذا يطلب زرادشت هذه الحقيقة وهو يعلن أنها الخير كل الخير للإنسانية إذا هي أدركته؟

إن تحديد الخير والشر في الكلمات العشر إنما هو أساس كل شرعة تكفل حق الفرد ونظام المجموع

لقد تتناقض الأحكام التي تسنها الحكومات والجماعات في مجال الأزمان مستوحاة من حالةٍ موقتة تدفع إليها حاجةٌ ملحَّةٍ، فتُكتب ألواحٌ تستبدَلُ بتبدُّل الوضع والملابسات ولكنَّ السننَ التي تسن لهم من الشريعة الموحى بها لا يمكن أن تتعارض إذا هي سلمت من دخيلات الأوضاع الإنسانية. وكلُّ شرعةٍ أصيلة تحتفظ بطابع مصدرها تتوافق حتماً وكلَّ شريعةٍ تحدَّرت مثلها من ذلك الأصل

إن زرادشت الجديد لم يَجُلُ في مسارح حلمه فاتحاً لسريرته مجالات التفكير إلاَّ وهو يحتفظ بانطباعاتٍ من تواريخ الأمم القديمة الوثنية وبصورٍ متناقضة من القوانين التي أبدعتها حكومات الغرب وجماعاته ونقاباته الصناعية والمالية فتمثَّلت هذه السننُ أشباحَ ألواحٍ نتراقص عليها ألوانُ البِدَع، فما وسع زرادشت إلا أن يثور عليها ويدعو اتباعه إلى تحطيمها

أما اللوحان الأوَّلان وكلمة عيسى بأن يعامل الإنسان أخاه بما يريد أن يعامله أخوه والشريعة الأحمدية التي جاءت على أساس هذا المبدأ بخير الكلِّيات تُستنبط منها الأحكام لكل جماعة ولكل زمان، فان زرادشت لم يبحثها، مع أن نفسه كانت تصبو إليها لشعوره بوجودها وراءَ أقنعة النظم التي أسدلها الغرب على مجتمعاته. وإذ كان لم يتميزها فما ذلك إلا لأن دماغه كان يتصدَّع بما حُشر فيه من فلسفة اليونان القديمة ومن مشاحنات أعلام عصره الذين شُغلوا بالجدل والمماحكات المنطقية المجردة حتى أتوا بنظريات تورث الدوار وتبلبل الفكر فيضطر من أَلمَّ بها إلى نبذها جميعاً لأنها كدود القبور يلتهم بعضها البعض الآخر بعد أن تتغذى من جيفة لا حياة فيها

وفي هذا الحلم يسير زرادشت هادماً كلَّ ناموسٍ ونظامٍ لينبئ الناس بالخلود وبقاء الذات في وجودٍ شبَّهه بالساعة الرملية ينقلب أبداً قسمها المفرغ لاستفراغ قسمها الممتلئ

ولا يطمعنَّ القارئ في الظفر من زرادشت بما يثبت هذه العقيدة الراسية على خلود مبهم وعودة أشد إبهاماً لأنه لن يظفر منه صور يلمحها لمحاً في بيان شعري يتلبس الفلسفة دون أن يكون فيه أثرٌ لأي استقراء أو لأي تعليل فيخرج من استغراقه وهولا يدري أيقصد نيتشه من العودة المستمرة ما يتوهمه الملحدون من خلود الآباء في الأبناء أم هو يرمي إلى عودة الشخصية بالذات ناسيه ماضيها تاركة في كل مرحلة من مراحلها جثة تتلواها جثة على مدى الأحقاب.

لقد تمرد نيتشه أمام العدم كما قلنا وخفيت عنه حقيقة الدين الذي أخذ به الغرب عن عيسى فأحاطه بالمعميات كما خفيت عنه حقيقة ما أنزل على محمد فشوَّهه هذا الغرب بالافتراء والتشنيع تعصباً وجهلاً فوقف مفكراً جباراً لا يستسلم لفكرة العبث في غاية الكون ولا يرضى بالنظم الاجتماعية التي أوجدتها المدنية وأسندتها إلى الدين. وهكذا هبَّ يطلب للإنسانية إلهاً منها يسودها، وللأرض معنى أبدياً يحول كل زوال فيها إلى خلود مستمر التجدد بين الخفاء والظهور في محدود غير محدود. . .

ولو تسنى لنيتشه أن ينفذ حقيقة الإيمان الذي دعا عيسى إليه مكملا ما جاء به موسى لكان تجلى له إيماناً بالقوة ترفع الضعفاء لا بالضعف يسلط عليهم الأقوياء، ولو تسنى له أن يستنير بما جاء به الإسلام من مبادئ اجتماعية عملية عليا تماشي ما جاء به عيسى ولا تنقضه لأدرك أن في الدين الحق دستوراً يهدم كل ما أراد هو هدمه من صروح الفساد في المجتمع، ويوجد الإنسان المتصف بمكارم الأخلاق محباً للحياة والقوة والجمال والحرية دون أن يكسر حلقة الإنسانية ويحاول الانطلاق منها وهو لا يزال يلبس تراب الأرض ويرسف في أغلالها

ولكن نيتشه باندفاعه إلى معارضة الفلاسفة من معاصريه وبثورته على التفكير الديني والتفكير المطلق في آن واحد رأى أن التكامل النبل عطف الألوهية الراسخة في الأذهان والتخلص من عقابها الصارم يقتضي الإعراض عن الزائلات والاستكانة إلى السلطة واعتبار العقلية الجنسية ملطخة بأوضار الخطيئة فثار على هذه الألوهية المزيفة التي ما عرفها الشرق في أي دور من أدوار وحيه، وهكذا كفر نيتشه بالله فأعلن موته واختناقه برحمته

هذا هو جحود نيتشه في تعاليم زرادشت وهو في تقديرنا إذا نحن استترنا بالدين الحق كما تدركه ذهنيتنا السامية جحودٌ يتجه إلى غير الإله الواحد الأحد رب الناس أجمعين.

بل أننا إذا ذكرنا القاعدة المثلى التي وردت في حديث للنبي الكريم على قولٍ أو في كلمة لأمير المؤمنين عمر على قول آخر، وهي

(اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً)

إذا ذكرنا ذلك، يتضح لدينا أن نيتشه قد ذهب إلى أبعد مدىً في الامتثال للوصية الأولى وقد فاتته الوصية الثانية وهي وصية راسخة في أرواح أبناء هذه البلاد الشرقية العربية، فليس إذاً في عظات زرادشت ما يزعزع عقائدنا أو ينال من إيماننا، بل إن فيها ما يتمشى والمبادئ العليا التي اتخذها السلف الصالح أساساً لإقامة عظمة الدين على عظمة الحياة

(البقية في العدد القادم)

فليكس فارس