مجلة الرسالة/العدد 276/غزل العقاد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 276/غزل العقاد

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 10 - 1938



للأستاذ سيد قطب

- 20 -

كل ما استعرضه حتى الآن من خصائص غزل العقاد، جائز أن يشركه فيه سواه، في الفكرة الخاصة أو في الاتجاه العام؛ وهي على ندرتها في عالم الشعراء الكبار، وتفرد العقاد بكثير منها في الشعر العربي كله كما بينت ذلك بوضوح، ليست ملكا خاصا له بمقدار اختصاصه فيما أفرد له اليوم هذا المقال من (خصوصيات)!

الغزل غرض مباح لجميع الشعراء، ومذاهب الحس والتعبير فيه ملك كذلك للجميع، إلا أن العقاد وحده هو الذي يقول ما سأعرضه في هذا المقال الأخير، ولن يشركه أحد في اتجاهه هذا، ولا في فكراته أو تعبيره، لأنه فيه هو (العقاد) بشخصه ولحمه ودمه، لا سواه من الأناسي - قبل الشعراء - وهو هنا في تقاطيعه وتقاسيمه وسحنته التي يلوح فيها، ويتميز بها:

غني عنده ما يعطيه

في قصيدة (تبسم) بالجزء الثاني من الديوان صفحة 172 يقول لحبيبه

فلا تبتعد عني فإنك راجع ... متى تبتعد عني بصفقة خاسر

ومن لك بالقلب الذي أنت مبصر ... به كل إعجاز لحسنك باهر

تراه عصيا - إن نأيت - على الرضا ... ولا قلب أرضى منه إن كنت زائري

وفي الناس مطوي الضلوع على الشجا ... ولا مثل شجوى بين باد وحاضر

إذا شاركوني في هواك فما لهم ... سروري بما أصفيتهم وتباشري

وفي هذه الأبيات يشخص العقاد الشاعر بأن عنده ما يعطيه وأن حبيبه سيسخر حين يفقده؛ الشاعر بتفرده في سروره وشجوه على السواء، وكأنما هو من عنصر غير عنصر البشر الذين يعج بهم الكون، وتهفو قلوبهم إلى هذا الحبيب، ولو شاركوه في هواه، فمن لهم بقلبه في شجوه ورضاه؟

وغير العقاد يقولون لأحبائهم: إنكم لن تجدوا إخلاصاً كإخلاصنا، ولا تضحية في سبيلكم كتضحيتنا. . . الخ مذاهب القول في هذا الباب، ولكن العقاد لا يعني شيئاً من هذا، إنما يعني أن قلبه فريد في نوعه لا في مظاهر إحساسه كالحب والإخلاص والتضحية وما إليها، وأنه ممتاز حتى في (شجوة) وأن شجوه الممتاز هذا يُغلبه ويرتفع به، كالسرور الممتاز على السواء!

رجولة صارمة

يرضى المحبون ويغضبون، ويقولون في الرضا ما يقولون، ويبقى للعقاد غضبه ورضاه، متميزاً بطابعه الذي لا ينساه. وفيما مضى رأى القارئ كيف يرضى العقاد في كثير من الأمثلة مثل (سنة جديدة) و (عامنا) و (قبلة بغير تقبيل) وسواها. فمن أراد أن يعرف كيف يغضب العقاد وكيف يكون صارماً باتا في هذا الغضب، فليقرأ: (الهجر الصادق):

تجشم فيك القلب ما ليس بعذب ... أما آن لي منك النجاء المحبب؟

فهجرا فهذا القيد قد طال عهده ... أليس لقلبي غير حبك مذهب؟

هجرتك هجر المرء أسود سالخا ... يمج حماما كيفما يتقلب

هوى الموت أحلى من هواك لأنه ... هوى صادق الميعاد لا يتذبذب

وما كنت فتانا ولكن فتنتني ... بما قد صنعت عيني من الحسن أعجب

فلا تغترر مني بما قد عهدته ... لدن كنت أعفو إذ تسيء وتذنب

فما كل حين يغلب الحبُّ ربَّه ... ولا الصبر في كل المواطن يغلب

لتظمأ ليال كان دمعي شرابَها ... فحسب الليالي دمع من لم يجربوا

أنا اليوم في هجري على الكره صادق ... وقد كنت في هجري على الكره أكذب

هكذا في نفس واحد، وفي نفثة واحدة، صرامة قاسية، هي طابع العقاد حين يكره، وحين تسأم نفسه طول الإساءة، وجفاف الصلات، وحين يجنح إلى اختيار الهجر بعد اليقين والاعتزام

وليس هو هكذا في الغزل وحده، فهو بعينه في الصداقة وفي السياسة وفي الآراء والمعتقدات في شتى مناحي الحياة: ضربة قاصمة، لا رجعة بعدها ولا اتصال

اليقظة والوعي الفني والتأمل الفلسفي ولقد كنت أفردت مقالا للحديث عن هذا العنوان، وضربت من الأمثلة ما فيه الكفاية. ولكنني هنا ماض على نهجي للغرض الذي صدرت به هذه المقالة من استعراض (الخصوصية) المعبرة عن شخص العقاد، لا عن مناحي تفكيره واتجاهاته

فمن اليقضة التي هي جزء من شخصه قوله تحت عنوان (الهزيمة المرغوبة)

أريد التي ألقي سلاحي وجنتي ... إليها وألقاها من البأس أعزلا

وأطرح أعباء الجهاد وهمه ... لدى قدميها مغمض العين مرسلا

وأنت إذا أقبلت جحفلا ... وجردت أسيافا وشيدت معقلا

فإن تهزميني فاهزمي عن بصيرة ... مريداً لأسباب الهزيمة مقبلا

فها هنا رجل يعرف إحساسه، ويدرك قواه وقوى حبيبته، ولكنه يجنح إلى الفطرة، ويريد المرأة ليلقي إليها سلاحه وجنته ويلقاها أعزل من كل قوة، لتحضنه كالأم الرءوم، بعد ما ضاق ذرعاً بالجلاد والكفاح، فآوى إلى الهزيمة المرغوبة وهو قوي عالم بقواه!

ومن التأمل الفلسفي أن ينظر إلى حبيبه الغرير، الذي لا يدرك فتنة سحره فكأنما هو منها محروم، بينما العقاد قد فطن إلى هذه الفتنة وقطف من ثمارها وعرف الدنيا على ضوئها، وتملى الحياة على نورها، فعاد مالكا لها، وصاحبها محروم منها!

يا ساحراً فاتته فتنة سحره ... وتنقبت عن لحظه العسّاف

نجني الثمار من القفار بفنه ... ونَصيبُه منها التراب السافي

نرثي لسحرك أم نجل فعاله؟ ... ما أجدر المحروم بالتعاطف!

سحر خصصت به وأنت حُرمته ... حرمان لا حرج ولا متلاف

لا يقول هذا إلا العقاد، المتأمل في كل لفته ولمحه، الواعي للظواهر والبواطن، المعنيّ بالموافقات والمفارقات في عالم المعاني والإحساس

صوت الفطرة

وصوت الفطرة السليمة مسموع في كل ما يكتب العقاد، ولكنه في الأبيات التي نعنيها هنا مكشوف ناصع، لا يحتاج إلى الكشف والبيان، ولا ينسرب في الرموز والألوان، وهو - مع هذا - صوت فطرة العقاد الخاصة به، وإن كانت قبساً من الفطرة الخالدة يقول بعنوان (عيوب المحب):

لا تعدّي على عيباً فإني ... لك كلي محاسني وعيوبي

وعيوب المحب أولى بعطف ... من كمال فيه وحسن وطيب

هي كالطفلة الشقية تلقي ... من حنان الآباء أوفى نصيب

فليس التأمل وليست الدراسة النفسية وحدهما يوحيان بهذا المقال، إنما هو الشعور الفطري الصادق قبلهما يوجه النفس هذا التوجيه. يعرف ذلك الآباء المشغوفون من لدن الحياة بالأبناء، والبنات الأشقياء والشواذ، لأن هؤلاء أحوج للرعاية في منطق الحياة! ويعرفه كذلك المحبون الذين يزيد شغفهم بحبيباتهم ما ينفر سواهم الخليين من أقوال وتصرفات. ويعرف العقاد هذا فيطل بوجهه من خلاله وكأنه وشاحه الخاص، الذي لم يفطن إليه سواء

الملك بالمعرفة

وبعد فهذا فن وحده، واتجاه في الإحساس غريب: محب ينقضي ما بينه وبين حبيبته من حب ومن لقاء واتصال وأخذ وعطاء، ويفصل بينهما فاصل من هجر مرير بعد شك دامٍ ويقين أليم حدثناك عنهما في كلمة سابقة، ثم يحس في خلال هذا كله أنه ما يزال مالكا لهذه الفتاة، مالكا لها إلى الأبد، لا يملكها سواه أبداً، ولا تفلت من بيده أبداً. . . لماذا؟ لأنه يعرفها بكل ما فيها، ولأن غيره لن يعرفها مثله، ولن يطلع منها على ما اطلع هو، وهي له وحده، لأن صفحتها مفتوحة أمامه يقرؤها بلا مفسر وبلا منظار، ولأن أحداً لن يحبها حبه أو يكرهها كرهه، بل لأن أحداً لا يزدريها ازدراءه!

ألقاءٌ أم لات حين لقاء ... وسلام أم تلك حرب عداءِ!

وفراق تُجدد العتبَ فيه ... يوم تخلو على مهاد الصفاء!

أم فراق على الحياة طويل ... كفراق الردى بغير انتهاء!

أنا ما بين هاتف ونذير ... ذاهب السمع إثر كل دعاء

هاتف في الضمير أن ليس هذا ... آخر العهد فاعتصم بالرجاء

ونذير بأنها غضبة العمر ... وعقبى مودة الأصفياء

ليت عاماً من الحياة تَقضّى ... لأرى في غد بعيد القضاء

وأرى الخير لا يطول انتظاري ... وأرى الشر لا يطول عنائي لا لعمري بل يكذب الخير وال ... شر وتعفو معالم الأنبياء

ويقول الزمان قولا فإني ... مرسل قوله مع الأصداء:

أنت لي أنذر الزمان بِشرِّ ... أم مضى هاتفاً مع البشراء!

أنت لي أضمرت نَياتُك حباً ... أم طوت سرها على البغضاء!

إن لي فيك يا بنية حقاً ... فوق حق الهوى وحق الدماء

مزجت في قرارة الحب نف ... ساناً وسيطت أيامنا في وعاء

وترائيت لي بقلب ولب ... من وراء الحياء والكبرياء

من مِن الناس قد تذوق منك الع ... يش صفواً والعيش جم الشقاء؟

من مِن الناس قد توسم فيك ال ... حسن نوراً والحسن من ظلماء؟

من مِن الناس قد أحبك حبيب ... ك ومن منهم ازدراك ازدرائي

من مِن الناس قد رأى خير ما في ... ك وأخفى ما فيك من أدواء؟

من جمال ومن ذكاء ومن غد ... رٍ ومن صدق شيمة ورياء؟

هذه أنت لا تزالين لي وحد ... ي - جميعاً - لا تظهرين لراء

يعرف العارفون منك لماماً ... بعض ما قد عرفت من سيماء

فلهم منك صورة وأحا ... ديث ولي منك لب ذاك الطلاء

هذه أنت لا فؤادك خاف ... عن عيناي ولا ودادك ناء

إن يطل بيننا النوى فالتلاقي ... من ندائي بموقع الإصغاء

ولنا في صحيفة الدهر غيب ... سيعيد انتهاءنا لابتداء

وكنت أود أن أعقب بشيء على هذه القطعة، ولكنها ليست بحاجة إلى الشرح، وإن كانت بحاجة إلى حس غني مرهف يتلهمها بمجرد قراءتها. فمن كان له هذا الحس فما هو بحاجة إلى بيان، ومن لم يكن له، فما أنا ببالغ شيئاً في إفهامه

وإنني لمفتون بهذه القصيدة، أكاد لفتنتي بها، ولمسي لقلب الشاعر فيها، أفضلها على كل غزل العقاد!

والآن أختم حديثي عن (غزل العقاد) وقد طالت عنايتي بهذا الضرب من شعره لأسباب سأشرحها في الكلمة الختامية بعد الحديث عن (أسلوب العقاد) في مقال تال (حلوان)

سيد قطب