مجلة الرسالة/العدد 274/ختام

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 274/ختام

ملاحظات: بتاريخ: 03 - 10 - 1938


للأستاذ عباس محمود العقاد

بدأنا بقنطار ثمين فأجملنا ما نراه من مذهب في صفات الجمال، وكانت خلاصته أن الجسم الجميل هو الجسم الذي ليس به فضول، وهو الذي يحمل كل عضو فيه نفسه غير محمول في مشهد العين على سواه، وهو الذي يكون مقياس الفضول فيه أداء الوظيفة، ومقياس الوظيفة بين عضو وعضو وبين حيوان وحيوان قربها من الحرية وبعدها من القيد والضرورة

وهذا مقياس أعضاء وأجسام

ومقياس معان أيضاً وأفكار وأرواح

فأننا بهذا المقياس نعرف الكلمة الجميلة والشعر الجميل والخلق الجميل والفكر الجميل

فلن يكون جميلاً فكر به فضول فهو زائد فضفاض في غير طائل، أو فكر فيه قصور فهو مفتقر إلى غيره وليس بمحمول على نفسه، أو فكر يظهر فيه عجز التقييد وعسف الضرورات

وذلك ما أردناه حين قلنا إن الجمال يخرج الأجسام من عالم الشهوات والنزوات إلى عالم المعاني والأرواح، وأن العين التي تنفذ إلى لبابه تنظر إليه كما تنظر إلى الحقائق العليا، وإلى الأصول الشائعة في نظام الوجود كافة؛ فإذا اتفق أن يعبث العابث بالجمال فكما يتفق أن يسرق السارق جوهرة نفيسة: لا يسرقها لأنها جميلة وهو يحب الجمال، ولكنه يسرقها لأنه يستحضر في ذهنه السوق، والسوء!

ثم رجعنا إلى بقية الذهب، ثم تلاحقت الملحقات من تفريع إلى حاشية إلى تذييل، إلى هذا الختام، وكان به ختام الصيف وختام السفرات في كل أسبوع إلى الإسكندرية

أكتبه إلى جوار الصحراء صديقتي القديمة منذ عرفت الأصدقاء في الأماكن والبقاع

وأصغي فلا أسمع الأمواج كأنها فوران القدر العظيمة عند ميناء الإسكندرية، ولا أسمع الأمواج كأنها غطيط النائم في اطراد رتيب عند ميناء مرسى مطروح، ولا أسمع الأمواج كأنها المارد الوديع الحالم عند ميناء السلوم، فلا هدير له ولا ضجيج، بل سكون كسكون النيل في ساعة صفاء قرير لا أسمع الأمواج ولكني أسمع الصحراء، ومن طالت عشرته للصحراء سمعها وهي تسكت، وسمعها وهي تصخب، وسمعها وهي لا تحفل بأسماع، ولخص ذلك كله في كلمة واحدة، وهي القناعة أو الاستخفاف أو القوة التي تغالب الأزمان؟ لأن الأزمان تقوى على التغيير. . . فإذا لم يكن تغيير فماذا يبلغ من قوة زمان واحد أو من قوة جميع الأزمان، وإذا كان التغيير لا يغير منها الحقيقة ولا يمس منها إلا العرض فلماذا تباليه الصحراء؟

ورجعت أعرض صور الإسكندرية فإذا هي كثيرة تتصل بها أجزاء الدنيا وترينا كيف يتشعب العالم وكيف يؤول إلى التماثل والتوحيد

فالعالم اليوم يحكمه زي واحد تبصره في شواطئ القارة الحديثة، وتبصره في شواطئ الصين، كما تبصره في شواطئ بحر الروم وفي شواطئ بحر الظلمات، الذي ليس فيه اليوم ظلمات

أو هذا كل ما هنالك من تماثل وتوحيد بين أجزاء العالم المتنابذ المستعد في هذه الساعة لأشنع الحروب

كلا. بل هنالك تقارب بين المثل والأوضاع في كثير من الأمور

هنالك العملة التي كانت من قبل أخص الخصائص فيما يسمونه بالسيادة القومية فأصبحت اليوم موضع التفاهم والاتفاق بين شتى الحكومات

وهنالك المحظورات والتواصي بمنعها بين الدول من الرق إلى المخدرات إلى المهربات

وهنالك الجيوش والمؤتمرات التي تنعقد من حين إلى حين لتقرير عددها وتقرير سلاحها وتقرير نظامها، وإن لم تسفر عن وفاق وإجماع

بل هنالك الحرب التي لا يتأتى أن تنفجر في مكان إلا عمت جوانب الأرض بعد بضعة أسابيع

فالعالم يمضي إلى التماثل والوحدة، ولا ينفي هذه الحقيقة أنه ماض كذلك إلى الوحدة في الشرور والنكبات، بل إن هذا ليؤكدها ويجلوها في جانبها المخيف كما يجلوها في جانبها المأمون، وجانبها المحبوب

أزياء الشاطئ تكشف لنا هذه الحقيقة وتكشف لنا معها حقيقة أخرى يأسى لها كثيرون ويغتبط بها كثيرون أو لم يكن الراقصون والمغنون وأصحاب الملاهي والملاعب نفاية الجماعة الإنسانية في الأجيال القريبة؟

فأنظر اليوم من ذا الذي يفرض على الناس الأزياء والآداب؟ ومن ذا الذي يملي عليهم ما يشتهون وما ينبذون؟!

إنهم هم نفاية المجتمع بالأمس وسادة المجتمع اليوم!

إنهم فتيان هوليود وفتيات الستار الأبيض فيها وفي كل مكان

فأين هي اليوم تلك السيدة التي تخجل من ظهورها في مظهر الممثلات على ذلك الستار؟

وما معنى ذلك إلا أن المجتمع ينقلب رأساً على عقب ثم لا يستقر على هذا الانقلاب؟

وهل بعيد ما بين هذه الحقيقة وبين حقيقة أخرى في عالم السياسة الدولية نشهدها ونسمعها الآن فيما نشهد ونسمع من نذير وشرر مستطير؟

ما معنى الحرب اليوم إلا أن نفايات المجتمع قد أصبحوا يسوسون الدول ويقودون الشعوب ولا يؤمنون إلا بما يؤمن به النفايات من غلظة وجور وعنت وتحطيم؟

لئن كان الحجر على هذه النفايات فيما مضى ظلماً لقد رأينا الساعة أن سيادتها ليست بأنصاف، بل فيها الظلم والإنصاف مزيج كريه المذاق، ومصفاة الزمن خير كفيل بالتصفية والترويق، ولا خوف على الزمن آخر الأمر من العجلة ولا من الأناة. .

صور كثيرة بقيت في خلدي من الإسكندرية كأنها صفحات مقسمة من معارض الفن والحياة والتاريخ

وستبقى ما قدر لها البقاء، وسيكون من إبقائها وأولاها بالبقاء صورة واحدة لمخلوق ضعيف أليف يعرف الوفاء ويحق له الوفاء، وذلك هو صديقي (بيجو) الذي فقدناه هناك. وأني لأدعوه صديقي ولا أذكره باسم فصيلته التي ألصق بها الناس ما ألصقوه من مسبة وهوان، فإن الناس قد أثبتوا في تاريخهم أنهم أجهل المخلوقات بصناعة التبجيل وأجهلها كذلك بصناعة التحقير. . . فكم من مبَّجل بينهم ولا حق له في أكثر من العصا!

وكم من محَّقر بينهم ولا ظلم في الدنيا كظلمه بالازدراء والاحتقار!

وكنت أقدر أنني سأخلو من العمل في مجلس النواب ثلاثة أشهر الصيف الشديد، فأخلو بنفسي وبالبحر والصحراء في مرسى مطروح أو في السلوم، وأفرغ هناك لتأليف كتابي الذي جمعت له ما جمعت من الأخبار والوقائع عن الصحراء وأبنائها الأقدمين والمحدثين

فلما تواصلت الجلسات أزمعت أن أقضي أياماً في القاهرة وأياماً في الإسكندرية من كل أسبوع، ولم أصحب بيجو في الرحلة الأولى ولا في الثانية ولا عزمت على اصطحابه بقية أشهر الصيف، اكتفاء بأن أراه أيام مقامي في القاهرة وأن أعود إليه كل أسبوع

ولكن المخلوق الأمين الوفي أرغمني على مصاحبته كلما ذهبت إلى الإسكندرية وكلما رجعت منها، لأنه صام عن الطعام صومة واحدة في الرحلة الثانية، وزاده إصراراً على الصيام أننا كنا نتركه في كفالة الشيخ أحمد حمزة طاهينا القديم الذي يعرفه قراء كتابي (في عالم السدود والقيود)

والشيخ أحمد حمزة كما علم أولئك القراء رجل يكثر الصلاة والوضوء ويعتقد نجاسة الكلاب فلا يقربها إلا على مسافة أشبار

وبيجو مخلوق حساس مفرط الإحساس ما هو إلا أن تبين النفور من الشيخ أحمد حتى قابله بنفور مثله أو أشد وأقسى. فكنا إذا تعمدنا تخويفه وزجره نادينا: (يا شيخ أحمد). . . فإذا بيجو تحت أقرب كرسي أو سرير، ثم لا يخرج من مكمنه إلا إذا أيقن أن الشيخ أحمد حمزة بعيد، جد بعيد

فلما استحال التوفيق بينهما واستحال إقناعه بالعدول عن الصيام في غيابنا أصبح بيجو من ركاب السكة الحديد المعروفين بالذهاب والإياب، واصبح يزاملنا من القاهرة إلى الإسكندرية ومن الإسكندرية إلى القاهرة كل أسبوع، وشاعت له نوادر في معاكسته للموظفين ومعاكسة الموظفين له، يتألف منها تاريخ وجيز. . .

ثم أصابه في الإسكندرية ذلك المرض الأليم الذي كان فاشياً فيها واستعصى علاجه على أطباء الحيوان، فلزمته في مرضه مخافة عليه من مشقة السفر، وعلمت أن الأمل في شفائه ضعيف، ولكني لم أجد مكاناً أولى بإيوائه من المكان الذي أراه ويراني فيه

وإني لفي ظهيرة يوم بين اليقظة والتهويم إذا بهمهمة على باب حجرتي وخدش يكاد لا يبين، ففتحت الباب فرأيت المخلوق المسكين قابعاً في ركنه يرفع إلي رأسه بجهد ثقيل، وينظر إلي نظرة قد جمع فيها كل ما تجمعه نظرة عين حيوانية أو إنسانية من معاني الاستعطاف والاستنجاد والاستغفار: أحس المسكين وطأة الموت فتحامل على نفسه، وخطا من حجرته إلى باب حجرتي، وجلس هناك يخدش الباب حتى سمعته وفتحت له، وهو لا يزيد على النظر والسكوت

كان اليوم يوم أحد، ولكنا بحثنا عن الطبيب في كل مظنة حتى وجدناه، وقد شاءت له مروءته الإنسانية أن يفارق صحبه وآله في ساعة الرياضة ليعمل ما يستطيع من ترفيه وتخفيف عن مريضه الذي تعلق به وعطف عليه، لفرط ما آنسه أثناء علاجه من ذكائه وألاعيبه ومداعباته، ولكنه وصل إلى المنزل وبيجو يفارق هذه الدنيا التي لم يصاحبها أكثر من سنتين

سيبقى من صور الإسكندرية ما يبقى، وسيزول منها ما يزول، ولكني لا احسبني أنسى ما حييت نظرة ذلك المخلوق المتخاذل يقول بها كل ما تقوله عين خلقها الله، ويودعها كل ما ينطق به فم بليغ من استنجاد واستغفار، كأنه يعلم أنه أقلقني ولا يحسب ما كان فيه عذراً كافياً لإقلاق صديق. ومن شهد هذا المنظر مرة في حياته علم أنه لا ينسى، فأن لم يعلم ذلك فهو أقل الناس حظاً من الخلائق الإنسانية، لأن البعد من العطف على الحيوان لا يجعل المرء بعيداً من الحيوان، بل يقربه منه غاية التقريب

عباس محمود العقاد