مجلة الرسالة/العدد 273/التاريخ في سير أبطاله
مجلة الرسالة/العدد 273/التاريخ في سير أبطاله
ابراهام لنكولن
هدية الأحراج إلى عالم المدنية
للأستاذ محمود الخفيف
يا شباب الوادي! خذوا معاني العظمة في نسقها الأعلى من
سيرة هذا العصامي العظيم. . . . . .
- 22 -
جلس أبراهام ينتظر رد سيوارد بصبر فارغ وفؤاد قلق، فإنه ليعجب كيف يقف منه صاحبه مثل هذا الموقف؛ على أنه لن يحجم عن مواجهة العاصفة وحده مهما بلغ من شدتها، وإن كان ليود بينه وبين نفسه أن يكون سيوارد إلى جانبه في تلك الشدة التي تطيش في مثلها أحلام الرجال وإن كانت تزن الجبال. . . يود أن يستعين بصاحبه فهو واثق من كفايته مطمئن إلى إخلاصه
وما بال الرئيس تزداد سحابة الهم كدرة على محياه حتى ليبدو للأعين كمن أخذته غاشية من حزن أليم؟ ما باله طويل الإطراق كثير الصمت، لا يستمع إلى حديث زوجه إلا قليلاً ولا يشاطرها جذلها ومرحها ولا يشاركها ما دب في قلبها من الزهو بما باتا يتقلبان فيه من نعمة ويحظيان به من جاه. . .؟
إنما يكرب الرئيس ما آلت إليه حال بلاده، فما به خوف أو تردد وما هو عن البذل بضنين؛ وإنه ليحزنه أن يكون بنو قومه بعضهم لبعض عدو في غير موجب لذلك وهم عن الحق في عماية من تبليل أفكارهم وتسلط العناد على نفوسهم، وما له إلى هديهم بالتي هي أحسن حيلة.
ورضى سيوارد آخر الأمر أن يعمل مع أبراهام، وكان سيوارد قليل الثقة بكفاية صاحبه الإرادية لأنه لم يسبق له أن شغل منصباً إدارياً قبل هذا المنصب الخطير، ولذلك كان يطمع سيوارد أن تكون في يده السلطة الفعلية وتكون للرئيس الرياسة فحسب؛ وبهذه الروح بدأ العمل مع صاحبه. . .
واختار لنكولن رجالاً للحكومة كون منهم مجلسه ومن أشهر هؤلاء نشيس، وكان من أعظمهم كفاية بعد سيوارد؛ غير أنه لوحظ على الرئيس أن أربعة من رجال مجلسه كانوا منافسين له في الرياسة مما يخشى معه أن ينسوا الصالح العام من أجل العمل على توطيد مراكزهم توطئة للانتخاب القادم، ولكن لنكولن رد على هذه المخاوف بما ارتآه من اعتبارات أملاها عليه بعد نظره، فلكل من هؤلاء شيعة وأعوان، وكل منهم يمثل ولاية من الولايات الشمالية؛ هذا إلى ما يعلمه من كفايتهم، وإنه ليركن إليهم مطمئناً إلى وطنيتهم قائلاً إن الوقت عصيب فما يظن أن أحداً تحدثه نفسه أن يعمل لصالحه الشخصي في ظروف كتلك الظروف. . .
ولما جلس لنكولن معهم حول المنضدة عرف كيف يؤلف بين قلوبهم وكيف يحملهم على احترامه ثم محبته ثم الإذعان له والتسليم بالتفوق. ولقد باتوا جميعاً يعجبون كيف يدير الأمور كما يلمسون رجل لم يعهد إليه مثل هذا العمل من قبل، ولولا أنهم يعرفونه جميعاً لما صدقوا أن هذه هي أول مرة يضطلع فيها بمثل هذا العمل
رأوه يخفض لهم جناحه ويبسط لهم مودته ويوسع صدره؛ يستمع لآرائهم جميعاً ولا يتكلم حتى ينتهوا؛ فإذا أعجبه رأي قبله مغتبطاً، وإذا خالف أحداً في رأيه أظهر له في دماثة سبب مخالفته مع شدة الحرص على احترام شخصية من يخالفه وإظهار الاستعداد للاقتناع إذا استطاع محدثه أن يزيده إيضاحاً أو يسوق له الجديد من الحجج
وعرفوا من كثب خلاله فأعجبوا بأدبه وعذوبة روحه ونقاء سريرته وطيب قلبه؛ ولمسوا شجاعته في الحق، وأنسوا نكرانه لذاته ونسيانه كل شيء عدا رسالته التي يستمد منهم العون في أدائها. . . وبلوا بأنفسهم صبره في الشدائد وعزيمته إذا همّ بأمر اقتنع بصوابه؛ وتبينوا حصافته وأناته وبعد نظره، وبهرهم فوق هذا ذهنه المصفى ومنطقه المستقيم وفصاحته وفطنته، تلك الخلال التي جعلته أقدر الناس فيهم على أن يفصح عن آرائه لمن إليه، وأن يتبين ما يأخذ مما يدع في كل ما يعرض له من الأمور مهما تعقدت والتوت على غيره الأمور. . .
ولقد عد كثير من المؤرخين إدارة لنكولن مجلسه على هذه الصورة مظهراً قوياً من مظاهر عظمته، وناحية متينة من نواحي نجاحه، وسلكوه بها في ثبت كبار الساسة في تاريخ الأمم، ولا عجب فإنه ليندر أن نجد في سجل الأيام مجلساً حكومياً شعر أعضائه من معاني الاحترام والمحبة بمثل ما شعر به أعضاء هذا المجلس نحو رئيسهم. . . لا يستثنى منهم أحد، حتى سيوارد الذي كان يدل أول الأمر بتجاريبه ودرايته بأساليب الحكم والسياسة، ما لبث أن اعترف في نبل وكرامة نفس أن رئيسه أقدر منه وأجدر بذلك المنصب. . .
وكان أول ما تلقاه الرئيس من البريد في صباح اليوم الثاني لتسلمه العمل خطاباً من الجنرال أندرسون في حصن سمتر ينبئه فيه أنه ما لم يصل مدد إلى الحصن فإنه لا يقوى على الدفاع عنه أكثر من أسبوع. . . وكان أهل الجنوب وأهل الشمال على اتفاق ألا يهاجم أنصار الانسحاب من الاتحاد الحصن إلا إذا رأوا من أهل الشمال ما يبرر ذلك. . . وماذا عسى أن يفعل الرئيس إذن؟ أيترك حامية الحصن بلا مدد أم يرسل المدد فيتحدى بذلك أهل الجنوب؟ إن عليه أن يختار بين أمرين أحلاهما مرْ.
لذلك أخذ الرئيس يتدبر عله يجد مخرجاً، وهو على عادته طويل الأناة لا يخطو خطوة قبل أن يحسب لكل أمر حسابا، ولكن سيوارد يضيق ذرعاً بهذه الأناة وينصح للرئيس أن يأمر بإخلاء الحصن، وكذلك يشير عليه سكوت رأس جنده؛ وهو لا يرى ما يريان فالمسألة دقيقة شائكة. أو ليس التخلي عن الحصن معناه الاعتراف ضمناً لأهل الجنوب بصواب دعوتهم إلى الانسحاب؟ ثم أليس في ذلك خروج على ما أعلن الرئيس في خطبة الاحتفال؟ وهو أن أرسل المدد إلى الحصن ألا يعتبر عمله هذا تحدياً للثائرين فيكون بذلك هو الذي خطا أول خطوة نحو الحرب، الأمر الذي يحرص أشد الحرص أن يتجنبه؟. . . إذن فلابد من الروية والتدبر والصبر. . .
وجاء رجلان من الجنوب إلى العاصمة الشمالية كممثلين لدولة أجنبية يطلبان أن يفاوضا لنكولن على هذا الأساس، ولكنه رفض أن يلقاهما ولم يفعل أكثر من أن يرسل إلى كل منهما نسخة من خطبته. . وبقي الرجلان في العاصمة يجمعان الأنباء ويرسلانها إلى أهل الجنوب. . .
والصحف تهيب بالرئيس أن يأتي عملاً إيجابياً ولكنه صامت يفكر. . والرأي العام يغلي كالمرجل حتى لقد أطلق الناس ألسنتهم فيه بالسوء من القول، فالرئيس غِرٌ جبان، متورط لا رأي له ولا بصيرة ولا حزم. . . وتفرق الناس في الشمال شيعاً فمنهم من يرى وجوب الحرب، ومنهم من لا يرضى إلا المسالمة والاتفاق، ومنهم من يتذمر ويتبرم ولكنه لا يرى شيئاً ولا يحس غير القلق والخوف، والرئيس لا يجيب إلا بقوله (إذا أخلى أندرسون حصن سمتر فسيكون عليَّ أنا أن أخلي البيت الأبيض). . .
ويهتدي ابن الأحراج بعد طول روية إلى رأي فيه دليل قوي على حنكته السياسية حتى لكأنه مارس السياسة طول حياته، ذلك أنه يزمع أن يرسل القوت ليس غير إلى الحصن، وحجته أن ذلك عمل إنساني لا عدوان فيه، فإذا قبل الثائرون هذا حلت المشكلة؛ أما إذا قابلوا ذلك بالقوة فعليهم إثم ما يفعلون، فهم بذلك يكونون بادئي العدوان ومشعلي نار الحرب. . . ولأهل الشمال بعد ذلك أن يدفعوا عن أنفسهم العدوان إن كانت في نفوسهم حمية وفي رؤوسهم نخوة الرجال. . .
وتسير السفن محملة بالقوت، بعد أن يرسل الرئيس نبأ عنها إلى قائد الثوار حول الحصن، ولكن القائد لا يكاد يبصر السفن من بعد، حتى يطلق النار على الحصن فيسقط علم الاتحاد وتنسحب الحامية بعد دفاع مجيد. . .
ويثب أهل الشمال للنبأ وثبة واحدة فلا خلاف بينهم بعد ذلك ولا تنازع، وما فيهم إلا من يريد الدفاع عن الاتحاد ورد الإهانة التي لحقت بالعلم الذي طالما خفق على رأس وشنجطون وجنوده البواسل غداة حرب الاستقلال. . .
وما حدث في تاريخ العالم من قبل أن تحمس شعب إلى الدعوة للجهاد كما تحمس أهل الشمال يومئذ؛ فلقد كان الشيوخ قبل الشباب يريدون خوض غمار الحرب، ولم يتخلف النساء ولم يقعدن عن شحذ العزائم واستنهاض الهمم وإن لم تكن هناك حاجة إلى سعيهن. . . أما الشباب البواسل فقد استحبوا الموت على الحياة فساروا مغتبطين يطرحون نفوسهم تحت المنايا كأنما يسيرون إلى نزهة لا إلى مثل عذاب الجحيم. . .
وهكذا تقع الحرب بين نصفي شعب واحد. ولقد كان الرئيس أكثر الناس في الشعب جميعاً تألماً، وكان قلبه الإنساني الكبير يكاد يتفطر، ولكن ما الحيلة وهو يرى بناء الاتحاد أمام عينيه ينهار حجراً بعد حجر؟
وحسبك دليلاً على حماسة أهل الشمال أن الرئيس عندما أهاب بالولايات أن ترسل إليه خمسة وسبعين ألفاً من المتطوعين، هرع إليه أكثر من تسعين ألفاً، وبعد شهرين وصل العدد إلى أكثر من ثلاثمائة ألف من البواسل الأمجاد.
وكان الموقف قبل وصول المتطوعين إلى العاصمة أشد ما يكون هولاً وخطراً. . . فلم يكن لدى لنكولن سوى ثلاثة آلاف، ولن يستطيع هؤلاء الدفاع عن العاصمة مهما كان من استماتتهم وشجاعتهم؛ لذلك سرى الخوف في المدينة وأيقن أهلوها أنها واقعة في أيدي الأعداء لا محالة
والرئيس ينتظر قدوم المتطوعين لإنقاذ المدينة من الخطر المحدق بها؛ ذلك الخطر الذي تشتد وطأته تبعاً لمسلك الولايات المحايدة وعلى الأخص فرجينيا؛ إذ كانت تلك الولايات تقف من النزاع موقفاً مبهماً ظن من أجلها أنها تلتزم الحيدة وإن كانت في الواقع تنزع إلى أهل الجنوب؛ وكانت فرجينيا أقربها موقعاً من وشنجطون لا يفصلها عنها إلا نهر ضيق. وسرعان ما أعلنت فرجينيا انضمامها إلى الاتحاد الجنوبي فبات العدو بذلك على أبواب عاصمة أهل الشمال، بل لقد كان البيت الأبيض على مرأى من الجند؛ لذلك شاع في الناس أن الجند سيعبرون النهر عما قريب فيستولون على مركز الحكومة ويسوقون لنكولن ومجلسه أسرى بين أيديهم. . .
وتزايد القلق وعظم الهول واشتد بالناس الكرب، والرئيس يسأل عن المتطوعين فلا يجد جواباً شافياً من أحد، حتى يصل إلى العاصمة قطار يهرول الناس على صوت صفيره إلى المحطة فتقع أعينهم على أول فرقة من فرق المتطوعين وهي فرقة نيويورك، وتعظم حماسة الجميع فيتصايحون ويرددون الأناشيد.
ويظل الرئيس يبحث عن القائد الذي يوكل إليه أمر هذه الحرب فلا يجد غير رجل يدعى (لي)، وكان يومئذ غائباً في فرجينيا وهو خير من يضطلع بهذا العبء، ولكن (لي) يرفض أن يأخذ قيادة الجيش، فيجزع لنكولن لهذا الرفض ويكتئب.
وبينما هو يبحث عن قائد غيره ينذره أهل بلتيمون، وهم الذين تآمروا من قبل على قتله، أنهم لا يسمحون بمرور جند في ولايتهم لأنهم محايدون. . . وينقضون بعد ذلك على فرقة قادمة من مساشرست، كانت من أقوى الفرق وأعظمها نظاماً، فيقتلون عدداً منها ويجرحون عدداً، ويحمل الجرحى على محفات إلى وشنجطون، فتلهب جراحهم حماسة القوم وتستثير حميتهم وتزيد بأسهم. . .
ولم يكتف الثوار في بلتيمور بما فعلوا فحطموا الجسور التي تصلهم بالشمال والغرب، وعطلوا الخطوط الحديدية المؤدية إلى وشنجطون. . . ولكن أحد القواد الشجعان الموالين للرئيس لنكولن خرج من وشنجطون على رأس عدد من المتطوعين وباغت المدينة ليلاً وقبض على كثير من الثوار وقتل نفراً منهم ففت ذلك عضدهم، وأعلنت ولاية ماري لند بعد أن خضعت عاصمتها على هذا النحو انضمامها صراحة إلى الاتحاد، وكانت هذه الخطوة من جانب أهل الشمال أولى خطواتهم الموفقة
وأعلن الرئيس لنكولن الحصار البحري على موانئ الاتحاد الجنوبي ليقطع الصلة بينها وبين العالم، ثم أهاب بالولايات الخاضعة له أن تمده بعدد جديد من المتطوعين، فما لبثت أن أمدته بما طلب، حتى لقد غصت وشنجطون بهؤلاء المستبسلين الذين أراد لنكولن أن يستعيض بحماستهم عما يعوزهم من التدريب والنظام.
وفي تلك الأيام العصيبة نرى دوجلاس خصم لنكولن القديم يسعى إلى البيت الأبيض ويقابل الرئيس ويفضي إليه بإعجابه بما انتهج من خطة، ويعده أن يظل إلى جانبه خادماً لقضية الاتحاد وتتوثق عرى المودة بين الرجلين، ويستأذن الرئيس صديقه الجديد أن يذيع في الناس هذا النبأ، فيأذن دوجلاس مغتبطاً بعد أن يقرأ ما أعد للنشر؛ ويقابل الديمقراطيون وغيرهم هذا النبأ بالابتهاج، ويشعرون بقوة جديدة يظفر بها أهل الشمال
ولا يني دوجلاس يدافع عن الرئيس وسياسته يخطب الناس في المدن يستحثهم إلى البذل والتضحية؛ ولا يفتأ يضع بين يدي الرئيس من نصحه ومشورته ما يحرص الرئيس على الانتفاع به. ولكن يد الموت لا تمهل دوجلاس أكثر من شهرين فيلقى حتفه، ويتلقى لنكولن نبأ الفجيعة فيذرف الدمع السخين ويشتد به الغم حتى يرمض فؤاده. . .
ولقد امتدت يد الموت قبل دوجلاس إلى شاب مجاهد كان أول أمره يعمل في مكتب لنكولن أيام كان يحترف المحاماة؛ ولقد أعجب لنكولن بذكاء هذا الشاب وملك قلبه شدة محبته له، فلما سار إلى العاصمة سار معه؛ ولما تحرجت الأمور، برز هذا الشاب الباسل الذكي يجمع الفرق ويدربها ويعدها للنضال. . . إلى أن كان ذات يوم فأرسله لنكولن إلى ضفة النهر المواجهة للعاصمة ليحتل المرتفعات هناك. . .
ثم إن هذا الشاب الذي يدعى الزورت ذهب على رأس جنده فاحتل الأماكن المعينة؛ وهناك بصر بعلم من أعلام الثوار يخفق على جدار فندق في مدينة صغيرة تسمى الإسكندرية فتسلق الحائط في بسالة عجيبة وانتزع العلم من موضعه، وبينما هو نازل من أعلى الجدار إذ أصابته رصاصة فانكب على وجهه، وتدفق الدم من قلبه على هذا العلم، فكانت ميتته هذه ميتة بطل، تركت في نفوس أصحابه ما لا يتركه النصر في معركة حامية. . . ولا تسل عما أصاب الرئيس يومئذ من هم وحسرة. . . لقد حزن على هذا البطل كما كان يحزن لو أن الميت كان وحيده؛ وجاءت بعده منية دوجلاس فكانت الميتتان فاتحة الكوارث في هذا النضال العظيم. . .
(يتبع)
الخفيف