مجلة الرسالة/العدد 270/مائة صورة من الحياة
مجلة الرسالة/العدد 270/مائة صورة من الحياة
للأستاذ علي الطنطاوي
4 - وطني
كنت عند صديق لي شاب ذكي، نال شهادة البكالوريا، فلم يطف بها على دواوين الحكومة يستجدي (وظيفة) ويسأل (الخزينة) حسنة، كما يفعل كل شاب في هذا البلد، وإنما نزل إلى السوق ففتح للتجارة محلاً يعيش فيه سيداً عزيزاً، على حين يعيش الموظفون مقيدين مسودين، ويأكل خبزه بكسب يده على حين يأكله كثيرون بضمائرهم وأديانهم، ويخدم أمته هادئاً صامتاً على حين يؤذي أمتهم كثيرون، وهم يخطبون الخطب الوطنية، ويملئون الدنيا كلاماً جميلاً. . .
كنت عند هذا الصديق، ومن دأبي أن أزوره كلما مللت العمل أو نزلت إلى البلد، آنس به، وأشرف من دكانه على الدنيا فأرى ما فيها. . . فرأيت رجلاً يدخل عليه، فيريه نماذج من البضائع يعرض عليه أن يكون وكيل معملها، والتفرد ببيعها لما سمع عنه من الثناء وما وصف له به من الذكاء والاستقامة، ويخبره بالأثمان، فيتهلل وجه صاحبي، ويشرق فرحاً بهذه الأرباح التي سينالها، ولكنه يتريث فيسال الرجل أن يدع له البضاعة ويتركه ساعة يفكر، ثم يعود إليه فيأخذ الجواب. . .
فيمضي الرجل، ويميل علىَّ صاحبي فيسر إلى أن هذه الصفقة أجدى من دكانه وما فيه، فأهنئه وأتمنى له ما يتمنى لصديقه الصديق، ولكنه لا يلبث أن يقلب البضاعة فيعلو وجهه الأشمئزاز، ويبدو عليه الغضب. فأسأله: مالك يا صاحبي؟
فقال: مالي؟ إنها بضاعة صهيونية!
فقلت له: وماذا يعينك منها؟ أنت تاجر، فبع من شاء أن يشتري ولا تدعُ إليها أحداً
قال: معاذ الله! أأنا عدو وطني وديني؟ إني تاجر، ولكني أعلم أن على التاجر أن يخدم أمته من الناحية التي أقامه الله فيها كما يخدمها المعلم والموظف والصحفي. . . وخدمة الأمة بأن تتقدم لها منفعة في مالها أو أخلاقها أو أبنائها أو صحتها، أو تدرأ عنها ضرراً. ليست خدمة الأمة بالجعجعة والصياح والخطب المدوِّية والمقالات الطنانة؟
قلت: وهذا الربح الذي وصفته لي أترضى بأن تدعه لغيرك؟ قال: من أراد أن يأخذ جمرة من جهنم فليفعل. أما أنا فلا أريد، سيغنيني الله عنه
ولقيته بعد أيام، فقلت: ما فعل الله بتلك الوكالة؟
قال: رفضتها فعرضوها على أهل السوق فقبلها منهم فلان!
قلت: رئيس لجنة مقاطعة البضائع الصهيونية؟
قال: نعم!
5 - معصرة
كنت أسير في (دوما) قصبة الغوطة الشرقية، فرأيت شارعها الأعظم (الذي يشقها شق شارع الرشيد مدينة بغداد) رأيته يمضي مستقيماً سوياً حتى إذا جاوز ثلثيها انحرف ذات اليمين وما ثمة مسجد يغشى عليه الهدم، حتى ينحرف لأجله الشارع ولا أثر قيم، ولا صخرة قائمة، فعجبت وسألت صاحبي الذي كان يمشي معي
فقال: كان هنا في سالف الدهر معصرة لوجيه من الوجهاء لم يقدر على هدمها، فلوى من أجلها الشارع!
فقلت: هذه هي مصيبتنا! ولو أنها معصرة واحدة لاحتملت، ولكنا كلما خططنا في الحياة طريقا مستقيما اعترضتنا (معصرة) لوجيه من الوجهاء. فكم من (معصرة) في طريق القوانين والنظم، وفي طريق العدالة والقضاء؟
هل خلا طريق لنا من (معصرة)؟ فمتى تهدم هذه (المعاصر)؟
(دمشق)
علي الطنطاوي