مجلة الرسالة/العدد 270/فلسفة الأسماء
مجلة الرسالة/العدد 270/فلسفة الأسماء
للأستاذ السيد شحاتة
إن أول ما يصادف الإنسان في حياته فيوسم به ويبقى ملازماً له، ويشتهر به حتى بعد موته، ويمتاز به عن غيره من الناس، هو الاسم. وقد ترتفع بالإنسان الشهرة وذيوع الصيت إلى أن يكون طبيباً نطاسّياً أو شاعراً فحلا أو عالماً نحريراً أو خطيباً لسناً أو صانعاً ماهراً فلا يعرفه الناس ولا يقرون له بفضل إلا مقروناً باسمه
فالاسم هو السمة الواضحة البارعة التي تفصح عن صاحبها وتبين عن مواهبه. وفي القديم والحديث تفنن الناس في انتقائها وجهدوا في اختيارها حتى اتخذوا من الأسماء علامات للخير والشر والذكاء والغباء والسعادة والشقاء
ولرجال التربية مذهب في تسمية الأبناء فهم يرون أن أول واجب على الأب أداء هذا الدين على وجه موفق محبوب باختيار اسم جميل يكون عنواناً محبباً مقبولاً لابنه على تقادم الأيام، يرى فيه عزة وكرامة لا مهانة وسخرية. فهم ينصحون الآباء بأن يؤدوا الأمانة أحسن أداء فلا يسمون أبناءهم باسم قبيح مرذول حتى لا يحيدوا عن طريق الصواب
وفي الحقيقة أن للاسم تأثيراً كبيراً في توجيه عقلية الإنسان وفي سعادته وفي نبوغه وفي شهرته. وقد تسعد الأسماء أو تشقى بسعادة أصحابها أو شقائهم. وقد يتهافت الناس على أسم فيشيع ويذيع لأنه لنبي أنار الظلمات، أو ولى أزال الشبهات، أو قائد أو زعيم طارت شهرته، فأخذ الناس بسناه، وتأصل بينهم من اسمه سحر يجذبهم إليه
الإنسان والأسماء
لقد كانت التسمية عند الإنسان هي المحور الأساسي الذي تدور عليه قواعد التسمية أجمع، لأن الاسم من أفضل علامات التكريم ومن أبين دلائل الرقي والكمال. وما من شك في أن الله قد كرم بني آدم وفضلهم على سائر المخلوقات
ولكنا على رغم هذا نجد الإنسان نفسه قد استعار من أسمائه ومن غيرها فسمى الخيل والشوارع والقطط والكلاب والبلاد وغير ذلك فأطلق على الخيل (فواز) (غاوي) (سحاب). . . الخ
وفي كل منزل يسمي الناس كلابهم وقططهم بأسماء خاصة يقصدون فيها إلى الرشاق والدلال. وكذلك الشوارع تسمى بأسماء يخذها المختصون من التاريخ أو الموقع أو اسم أحد الفطان الملوك والزعماء
ولقد غدا تكريم الملوك والعظماء يأخذ من أسماء الشوارع أعز مكان. فهم يطلقون أسم ملك أو العظيم حباً فيه وتخليداً لذكراه واعترافاً بأياديه
والمدن تنسب إلى الملوك (كالإبراهيمية. الفاروقية. الإسماعيلية. بور سعيد. بور فؤاد. الإسكندرية). وقد تدل على صناعة أو زراعة راجت فيها مثل (معمل الزجاج. المعصرة. كفر الزيات. كفر البطيخ. التل الكبير). ومنها ما تنسب إلى شخص أشتهر فيها مثل (أبو حماد. سيدي جابر. جرجا) - نسبة إلى ماري جرجس - ولبعض المدن أسماء غربية من اللغة القبطية القديمة مثل (دمنهور). وهور: أحد آلهة المصريين القدماء. ودمن: أي مدينة
وقد أنساق الناس في تعليلات طريفة لبعض أسماء المدن والقرى فهم يزعمون أن يوسف عليه السلام تقابل مع زليخا زوج العزيز بعد أن طوي شبابها تتابع الأيام فذوت نضرتها وذبل جمالها - تقابل معها في المكان المعروف بمديرية الجيزة فقال لها (أصبح البدرشين) فلذلك سميت مدينة البدرشين باسمها هذا
ويزعمون أن القائد جوهر أراد أن يضع أسس البناء في عاصمة مصر في ساعة سعيدة يقدرها رجال الفلك، فجعل أجراساً تدق للبنائين ليضعوا البناء إذا ما حانت ساعة سعيدة، ولكن الحظ خانه إذ حرك طائر حبال الأجراس، فرنت، فوضع الأساس في ساعة القهر فسميت القاهرة. وهذه مزاعم دفع الناس إليها حرصهم على المبالغة في التعليل.
والمدن كالإنسان خاضعة عند تغيير اسمها إلى قانون فلا يجوز تغيير اسم بلد إلا بعد موافقة وزارة الداخلية ووجود ضرورة لهذا التغيير.
التسمية عند القدماء
لقد وضعت أسماء الأعلام والأجناس للدلالة على أفراد النوع الإنساني وما يحيط به في بيئته الطبيعية وما يبتكره في حياته الفكرية. وليس من شك في أن وضع هذا النوع من الأسماء قد جاء سابقاً في المرتبة على وجود الأفعال والحروف التي ما وجدت إلا لتربط الأسماء في الجمل المختلفة.
ولكن المرجح أن الإنسان لم يتذوق التسمية بمعناها السامي الفني، ولم يعن بها ولم يتفنن في اختيارها قبل أن يعرف الحضارة والمدينة ويسمو إلى أفق الحياة الكاملة. وإنما كان الناس في عصور الجهالة يطلق بعضهم على بعض أوصافا تميز كل واحد منهم من الآخر؛ وهذه الأوصاف تدل على ميزة كل شخص بقدر الامكان، كقولهم (الرجل القصير. الرجل البدين. ذو العين الواحدة. وهكذا. . .) ولكنا نحن في عصورنا هذه عصور الحضارة والمدينة نلجأ إلى ذلك في مواطن كثيرة. فإذا أردنا وصفا دقيقا لمن لا يعرف اسمه وصفناه بأخص صفاته وأظهرها
وقد كان المتوحشون يخافون أن تستحسن العفاريت والأرواح الشريرة أسماء أولادهم فتقبض أرواحهم، فلذلك كانوا يسمون أولادهم بأسماء بشعة (القذر. الوغد. الجبان) وكان بعضهم يسمى الطفل باسم تاريخي (القحط. الوباء. الحرب) وما زلنا نحن نسمي أولادنا بأسماء تاريخية (عيد. خميس. جمعه. شعبان. رجب، محرم. ربيع) ولبعض الأسماء القديمة دلالة تدل على ميزة بها أو أصل طبيعتها؛ فقد أشتق (آدم) من أديم الأرض لأنه خلق من الطين واسم (إبليس) من الابلاس وهو اليأس
التسمية عند العرب
ذهب عرب الجاهلية مذاهب شتى في تسمية أبنائهم، فمنهم من تفاءل بالنصر والظفر فسمى (غالب. غلاب. ظالم. طارق. معارك. منازل) ومنهم من تفاءل بنيل الحظوظ فسمى (سعد. سعود. غانم. غياث. غوث) ومنهم من قصد التسمية بما غلظ وخشن لإظهار القوة فسمى (صخر. جندل. جبل. قهر)
ومن العرب من كان يخرج وزوجته قد جاءها المخاض فيسمى من تلده امرأته بأول أسم يقابله كائناً ما كان (سبع. ثعلب. كلب) ويروون في هذا أن أسماء بنت دريم من قبائل العرب كانت تلقب (أم الأسبع) لأنها سمت أولادها (كلب. أسد. ذئب. فهد. ثعلب. سرحان. خثعم. هر. ضبع)
ومن العرب من أضيف إلى عبودية الأصنام (عبد العزى. عبد مناه) وقد كان في الأمة العربية من اشتهر بلقب غلب عليه في شعره حتى أصبح علماً له مثل: (عمرو بن رباح السلمي) (أبو الخنساء - الشاعرة المشهورة) إذ سمى (الشربد) لقوله:
تولي إخوتي وبقيت فرداً ... وحيداً في ديارهم شريدا ومنهم (عمرو بن سعيد - الملقب بالمرقش) لقوله:
الدار قفر والرسوم كما ... رقش في ظهر الأديم قلم
ومنهم سالم بن نهار العبدي الذي لقب بالمزق لقوله:
فإن كنت مأكولا فكن خير آكل ... وإلا فأدركني ولما أمزق
وكذلك أمرؤ القيس أمير شعراء الجاهلية يلقبونه (بذي القروح) لقوله:
وبدلت قرحاً دامياً بعد صحة ... فيالك من نعمى تحولت أبؤسا!
وما زلنا نحن في عصرنا هذا نسمي الناس بشيء يرتبط بهم من صناعة أو أي عمل؛ فعندنا الآن ألقاب ربما شاعت بين الناس حتى طغت على شهرة الاسم الحقيقي، فأصبح المسمى لا يعرف إلا بها (الصحافي العجوز. أبو بثينة. برسوم المجبر. ابنة الشاطئ) وفي العرب أسماء كثيرة من هذا النوع. كما أن بينهم أسماء أخذت في حوادث معينة - مثل جرير الشاعر الأموي المشهور؛ فقد ذكروا في ذلك - أن الجرير في اللغة هو الحبل. وقد سمي الشاعر بذلك لأن أمه رأت في منامها وهي حامل به أنها تلد حبلاً يخنق الناس، فذهبت في الصباح إلى معبر للرؤيا وقصت عليه رؤياها فقال لها (لتلدن ولداً يكون شراً على الناس) وفعلا كان كذلك جرير. وكانت أمه ترقصه وهو صغير وتغني له:
قصصت رؤياي على ذاك الرجل ... فقال لي قولا وليت لم يقل
لتلدن عضلة من العضل ... ذا منطق جذل إذا قال فصل
وسمى الجاحظ جاحظاً لجحوظ عينية. والمتنبي لادعائه النبوة كما أشتهر كثيراً بنسبتهم إلى بلادهم أو قبائلهم (البحتري. أبو العلاء المعري. الطائي. الخزرجي. المزني) ونحن نسمي الأشخاص نسبة إلى بلد أو صناعة (إبراهيم المصري. خليل الزيات. بيومي الطبال. محمد النجار. خديجة العياشة)
وكذلك (الصباغ. الجمال. الدباغ) ومما تحسن الإشارة إليه بمناسبة الدباغ. أن رجلا في الماضي القريب أسمه إبراهيم الدباغ اشتهر بكثير الأكل، فأطلق الناس كلمة دباغ على كل إنسان يكثر الأكل
أما النسب إلى القبيلة كما كان الحال عند العرب، فقلما نجده الآن لشيوع روح المدينة وتقطع التواصل بين الناس وعدم الاعتزاز والفخر بالقبيلة كما فعل العرب، ولأن الوحدة أصبحت للدولة لا للقبيلة
الأسماء والأديان
لم تكن للأسماء في العصور الأولى صبغة دينية خاصة، إلا أن الحال تغيرت بعد ظهور المسيحية، إذ أخذ المسيحيون يقلعون شيئاً فشيئا عن بعض الأسماء اليهودية والوثنية ثم يختارون أسماء جديدة
وفي أوائل عهد النصرانية درج النصارى على أن يسموا أبناءهم بأسماء القديسين والأنبياء، إذ يعلن الأب اسم ابنه جهاراً عند المعمودية فيصبح اسماً معترفاً به قانوناً
وفي فرنسا لا يجوز لأحد أن يبتدع لابنه اسماً غريباً لم يعرفه الناس من قبل، وما يزال في فرنسا حتى اليوم سجل رسمي يحتوي الأسماء التي يجوز للإنسان أن يختارها لأبنائه ولا يجوز له أن يسمى بما عداها، وهذا السجل يهذب من وقت لآخر بإضافة أسماء حديثة وحذف أخرى قديمة
وفي أسبانيا - حيث ديانتهم الرسمية الكاثوليكية وقد كانت حكوماتهم ملكية - كان الآباء مقيدين عند تسمية أبنائهم بطائفة من أسماء القديسين والقديسات مأخوذة من تقويم الكنيسة؛ ولكن بعد زوال الملكية قريباً قد أبطل هذا وصار الآباء أحراراً في تسمية أبنائهم
ولما ظهر الإسلام تطورات الأسماء عند العرب، إذ سمي النبي (محمد) مع أنه لم يسم أحد من قبل بهذا الاسم، ثم شاعت الأسماء المضافة إلى عبودية الله وتعدت لفظ الجلالة إلى غيره من أسماء الله الحسنى. والآن نجد بين المسلمين نحو النصف من الأسماء تدعى محمداً أو ما اشتق منه مثل محمود. أحمد. حامد، وقد أثر عن النبي (صلعم) أنه قال (خير الأسماء ما حمد ثم ما عبد)
والأديان على العموم لا تحرم اسماً ولا تبيح آخر، بل الإنسان حر في التسمية بما شاء. غير أنه على الرغم من هذه الحرية المطلقة نرى بعض أسماء اختص بها المسلمون، وأخرى اختص بها اليهود، وغير ذلك من الأسماء تفرد بها المسيحيون. فمن أسماء النصارى الخاصة (بطرس. ميخائل. حنا. جرجس. عبد المسيح. هيلانة. ماري) ومن أسماء اليهود الخاصة (باروخ. عزرا. كوهين. ليفي. حانان) ومن أسماء المسلمين الخاصة (محمد. مصطفى. حسن. علي. فاطمة. عائشة) ومن أسماء المسلمين المشتركة (يوسف.
سليمان. إبراهيم. داود. يعقوب. توفيق)
وفي الواحات المصرية كما في جزيرة قبرص أسماء مخلوطة، فهناك بطرس حسين. جورج محمد. نقولا عثمان. وفي سوريا من المسيحيين من سمى ابنه محمداً. وفي مصر تميل الأسماء المسيحية شيئا فشيئا نحو الإسلامية، حتى أنها لتشتبه بها في كثير من الأحيان. وفي أسبانيا حيث مكثت الديانة الإسلامية نحو ثمانية قرون، نجد كثيراً من أسماء الأجداد الأولين للأسبان المعاصرين تنتهي بأسماء إسلامية.
(البقية في العدد القادم)
السيد شحاته