انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 27/حول (الوضوح والغموض)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 27/حول (الوضوح والغموض)

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1934



عقد الأستاذ عباس فضلي فصلا طويلا تحت هذا العنوان، تكلم فيه عن غموض الشعر وأسبابه وقيمته، وانتهى في حزم إلى أننا يجب أن نرفض كل شعر غامض لأن الغموض والجمال لا يجتمعان في صعيد واحد، ويظهر أن الأستاذ إنما يريد هذا النوع من الغموض، الذي يتجلل من حنادس الليل بحجب وأستار، فإذا أعملنا فيه عقولنا وأجهدناها ما وسعنا الأعمال والاجهاد، لم نتبين شيئا غير الظلام الموحش، والحلوكة الدامسة، وليس هذا هو الغموض الفني أو الشعري الذي يجعله الدكتور طه حسين سببا من أسباب جمال الشعر، وإنما يريد الدكتور - فيما أفهم - غموضا آخر جميلا، لا تنفر منه النفس ولا تستوحش، وإنما تقبل عليه، وتهش له، وتجد فيه لذة ومتاعا كبيراً، وهو أشبه ما يكون بالظلال لا تحجب النور ولكن ترسله بقدر، ومهما كثر هذا الغموض وفاض فلن يحول بيننا وبين التأثر الجميل بالقطعة الشعرية وما يغمرها من سحر وإبداع، بل ربما كان هو مثار إعجابنا وتقديرنا، ومبعث سرورنا وغبطتنا، هو غموض حقا، ولكنه غموض ذو بهجة، تقر به النفس، ويسر به الذهن، وما أشبهه بهذه السدول الرقيقة التي يرخيها الضباب على الطبيعة، فلا يزيدها إلا سحراً وجمالا، ولا يزيدنا إلا إعجابا واستحسانا.

وهذا الغموض الشعري له أسباب مختلفة، ولعل كثيراً منها يرجع إلى فقر اللغة وقصورها في الإفصاح عن عواطف الشعراء النفسية، وميولهم، ورغباتهم، فكثيرا ما تعجز اللغة عن أداء المعاني التي تضطرب في صدورهم، وحتى هذه الألفاظ التي ظفرت بالإفصاح عن بعض هذه المعاني، لم توفق في القيام بمهمتها الشاقة توفيقا كبيرا، وذلك لأن المعاني تفصح عنها لا تخضع لشيء خاص محدود يعرفه الجميع، فالمعاني ليست مادية محسوسة، وإنما الألفاظ هي المحدودة بحروف معدودة وفراغ مخصوص، ومما يزيد الموضوع خطرا، أن كل كلمة من هذه الكلمات التي يستعملها الشعراء تعبر عند كل واحد منهم عن حالة مخصوصة لا يشركه معه فيها أحد مشاركة تامة، وما هذه الكلمات إلا حيل وتدابير يستعملونها للإفصاح عن هذه المعاني التي تزفر بها نفوسهم، ولا شك في أن بها كثير من التسامح، كما أن بها كثيرا من الإبهام والغموض، ويخطئ كثيرا من النقاد فيظنون أن لا خلاف بين الحياتين العقلية والنفسية، الواقع أن هناك اختلافا كثيرا، فالحياة العقلية قد درست واستطاع العلماء أن يعرفوا مقدماتها وطرق استدلالها، فكان علم المنطق، أما الحياة النفسية فلا تزال على أشد ما تكون إبهاما وغموضا، ولهذا كان تحليل الحادثة الشعرية إلى عناصرها، من إحساس، وشعور، وخيال، وعاطفة منشأ غموض كثير ينتشر بين أجزاء القصيدة الواحدة، ومن هنا كان الخلاف كثيرا ما يقوم بين النقاد في فهم القطع الشعرية المختلفة، لأنهم لا يعتمدون على مبدأ معروف للمناقشة والمقارنة، فهم لا يستنيرون بتحليل واضح سابق مشابه للحوادث الشعرية التي يتناقشون فيها، وعلماء النفس أنفسهم يقولون أن الشعور مصدر الإبهام، فما بالنا بالحياة النفسية كلها وما تنطوي عليه من رغبات وعواطف، وميول وشهوات، لا سبيل إلى حدها وحصرها، وإذا كانت هذه هي الحياة النفسية وهي على أشد ما تكون التواء وتعقدا أفلا نسمح لما يخرج منها أن يحمل شيئا من آثار إبهامها ما دام جميلا نشغف به، ونعجب بحسنه وجماله

والواقع أن الأمر لا يحتاج منا إلى إصدار حكم ليفارق الشعر الغموض ويقاطعه، بل إن ذلك يرجع كما رأينا إلى الحياة النفسية ذاتها، وسواء أرضينا أم غضبنا فيستمر الغموض مسيطرا على الشعر حتى تنضج الحياة النفسية، ولا سبيل إلى هذا الإيضاح الآن وتاريخ الشعر يؤيد أن هذا الغموض لازم الشعر منذ نشأته الأولى، فقد كان الإنسان - قبل أن يتحول محيط عواطفه إلى جليد تسطع عليه أشعة الأفكار والألفاظ - يعبر عن هذه الحياة الصاخبة في نفسه بأصوات مبهمة، ولما أخذت الأفكار والألفاظ تقوم بتجسيم هذا التعبير رأى الشاعر الأول إنها عاجزة عن القيام بمهمتها قياما تاما فأضاف إليها الوزن الشعري عله يكمل بنغماته المعنى الذي يريد الإفصاح عنه، وللموسيقى الشعرية شأن كبير في الشعر، وذلك لأنها إذا ارتقت إلى أسمى درجاتها، استطاعت أن تؤثر في نفوس السامعين بدون حاجة إلى فهم الأفكار التي تحملها، فلا يكادون يسمعونها حتى يجدوا لذة جميلة لا يستطيعون أن يرجعوها إلى مصدر سوى هذه النغمات السحرية التي يبثها الشاعر في آثاره الشعرية

وغموض الشعر لا يأتي دائما من الشاعر وشعره بل كثيرا ما يأتي من القارئ وقراءته، فالناس يختلفون في فهم القصيدة بل في فهم البيت الواحد، ولا سبيل إلى كبح جماح هذا الخلاف، لأنه يرجع إلى حوادث سيكولوجية، فأن كل صورة في الشعر أو فكرة فيه حين ينقلها من عالمها الخارجي إلى عالمنا النفسي الداخلي تصادف مناطق من الشعور تختلف باختلاف القراء، ولهذا ينتهي كل قارئ غالبا إلى صورة أو فكرة لا يشترك معه فيها غيره، ولكي يكون حكم القارئ للشعر صحيحا، يجب أن يكون ماهرا، في إخراج نفسه من كل ما يؤثر فيه، بارعا، في فهم الحالات العقلية التي تلائم الموضوع الشعري الذي يقرأ فيه، كما يجب أن يتخلى عن كل النزاعات فلا يؤثر شيئا لقدمه، وبقائه، ولا يحتقر شيئا لجدته وحداثته

والإبهام كثيرا ما يأتي مما ترمز إليه الفكرة الشعرية، لان الفكرة الفنية لا تلهم القارئ دائما برموز محدودة، فمثلا إذا صور إنسان فتاة رامزا بها إلى الأنوثة ولم يعرف الناس ماذا أراد، رأيتهم يختلفون فيما بينهما اختلافا شديدا، هذا يقول إنه يرمز إلى الجمال، وذاك يقول إنه يرمز إلى الدلال، ويقول ثالث بل إلى الجلال، وقلما يهتدون إلى الرمز الحقيقي الذي أراده الرسام لصورته، وكذلك المناظر الطبيعية فهي لا تملي علينا فكرة محدودة، وهذا هو الذي يجعلنا نقول إن الإنسان يرى من الجمال في المرة الثانية ما لم يره في المرة الأولى، أي إنها توحي ألينا بألوان مختلفة من الأفكار العذبة والصور الساحرة، كلما نظرنا إليها وأمعنا فيها، وليس الأمر كما يظن الأستاذ فضلي من أنه يرجع إلى أننا لا نفهم الجمال مرة واحدة، إذ الجمال ليس مسألة حسابية يعوزها الفهم، ولا تمرينا هندسيا ينقصه البرهان، وإنما هو معين لأفكار كثيرة، لا مقطوعة ولا ممنوعة، ولن ينضب من هذه الأفكار الساحرة إلا إذا فنيت لا - قدر الله - حياتنا النفسية، ويتبين جمال إطلاق الشعرية من قيود التحديد في كثير من الآثار الشعرية، كما نجد في رواية هملت، فأن الناس يختلفون اختلافا كثيرا في شخصية هملت نفسه، ولا يكاد ينتهون إلى رأي واحد معين، ولكنهم مع ذلك يتفقون على أن هذه الرواية من أعظم أعمال شكسبير إن لم تكن أعظمها، وربما كان يستحسن - لهذا السبب - أن يعتمد الشعر على الإيجاز حتى يصبغ أفكاره بشيء من الإبهام والغموض يسمح لنا أن نستوحي من أفكاراً مختلفة جميلة، ولا يضع الإيجاز من قيمة الشعر بل هو على العكس يرفع منه ويسمو به إلى الأفق الأعلى، وإنما الذي يضع منه حقاً هو الإطناب الذي لا يزال بالفكرة حتى يظهرها عارية أمامنا، فسرعان ما نبتذلها ونحتقرها

وإذن فالغموض الشعري يجب أن نقدره التقدير اللائق به، فلا نغالي في ازدرائه وتحقيره، يجب أن نعرف أنه من أهم أسباب جمال الشعر وحسنه، ومن يدري؟ ربما كان من أهم أسباب خلود الشعر وبقاءه، فان الآثار الشعرية تشرق عليها الحياة في العصور المختلفة، بينما تبلى القطعة العلمية بمرور الزمن، وتنطمس معالمها، وأكبر ظني أن هذا يرجع إلى وضوح القطع العلمية، فالشيء الذي يتضح أمام الإنسان لا يفكر في ترديده وتكرار النظر فيه. وأي حاجة تستدعي ذلك؟. أما الآثار الشعرية فإنها لا تنضج أمام الإنسان جملة واحدة، ولهذا نحن نقرأها مرة ومرتين وثلاثاً، وقد نحفظها ونكررها ولا نحس بضجر ولا بملل، بل نحن نجد في ذلك لذة مغرية ومتعة طيبة

والغريب كل الغرابة أن الأستاذ فضلي يدعي (أن كل بديع في هذا الكون من منظر إلى صوت إلى شعر يلازمه الوضوح كيفما تكيف وتطور وتصور) ثم ينتهي إلى أن (الوضوح هو جوهر الجمال) وما أعرف أن أحداً يستطيع أن يوافق الأستاذ على دعواه، بل إن نقاد الفنون المختلفة يكادون يجمعون على أن الوضوح إذا عرض للآثار الفنية أفقدها كثيراً من روعتها وجمالها، والدلالة على ذلك كثيرة فنحن نعجب بنور القمر أكثر من إعجابنا بنور الشمس، وما هذا إلا لأن نوره أكثر إبهاما وأوفر غموضا، وكذلك نحن نعجب بالمناظر الطبيعية تتراءى لنا في ثياب أضواء الفجر الغامضة، أكثر من إعجابنا بها وهي متبرجة في أضواء الهاجرة، ونحن أيضا لا نطلب في الموسيقى انكشافا ولا وضوحا فمشاعرنا تتهيج بالسماع فقط، وليس من الضروري أن نفهمها، بل إن كثيرين يتأذون من فهمها، ويقلقون من وضوحها، والشعر لا يخرج عن بقية الفنون الجميلة، فهو كلما كان أكثر وضوحا، كان أقل قيمة وأدنى درجة لأنه لا ينطق حينئذ إلا بظاهر من القول وضحل من التفكير، نعم هناك مسألة مهمة يجب أن يأخذ الأدباء لأنفسهم الحذر من شرها، وذلك أن كثيرا من شعرائنا افسدوا أذواقنا في حكمنا على الشعر فجعلونا نضن أن بين الجمال والوضوح علاقة وثيقة، لأننا نجدهم يحسون بالضوء أكثر من إحساسهم باللون أو أي شيء آخر، فإذا وصفوا لنا روضا لم يشاءوا أن يصفوه إلا والسماء مصحية، وقرص الشمس يلتهب التهابا، وقلما تحدثوا بشيء عن هذا الروضإذا تنفس الصبح أو بزغ القمر، ولو تدبر شعراؤنا لعرفوا أن الجمال لا يبدوا عاريا مكشوفا أمام العيون، وإنما يتخذ دائما سرابيل تقيه شر الوضوح والابتذال سواء في الطبيعة، أو في الشعر، أو في أي شيء آخر.

شوقي ضيف بكلية الآداب