انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 27/العلوم

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 27/العلوم

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1934



البحوث الروحية

للأستاذ عبد المغني علي حسين خريج جامعة برمنجهام

هل يصل العلم الحديث إلى استنباط وسيلة للتخاطب مع أرواح الموتى؟ لا مبرر للقول بأن هذا مستحيل. ويكفي أن نستعرض تاريخ العلوم في العهد الأخير لنرى كم حققت لنا من ضروب المستحيلات. فإذا امتد أجل المدنية الحاضرة، وواصل رجال العلم بحوثهم في هدوء واطمئنان، فقد يتحقق على أيديهم كل حلم وخيال، بل وما لا يخطر ببال.

قد يقال أن العلم الحديث لا شان له بالأرواح. لأن اختصاصه ينحصر في المادة ومحيطها. ولما كانت الأرواح غير مادية فهي من العلم كالثريا من سهيل

هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني.

هذا القول يبدو صحيحا في ظاهره. ولكن الواقع أن عددا كبيرا جدا من البحوث العلمية في الوقت الحاضر يتعلق بأشياء بعيدة في ذاتها كل البعد عن المادة. خذ المجال المغنطيسي مثلا. فهو عبارة عن دوائر في الأثير تحيط بقطعة الحديد الممغطسة. دوائر غير مادية في وسط غير مادي. خذ أمواج الرديو ومويجات الحرارة والضوء وأشعة أكس، كل هذه أيضا ظواهر غير مادية في وسط غير مادي.

قد تسلم معي بأن هذه الظواهر في ذاتها غبر مادية، ولكن تقول أن يد العلم لم تكن لتصل إليها إلا عن طريق تأثيراتها في الأجسام المادية. فالمجال المغنطيسي غير المحسوس لم يكن العلم ليعترف بوجوده لولا تحريكه لقطع الحديد وأدارته لإبرة البوصلة. وأمواج الأثير لم يكن العلم ليقر وجودها لولا تأثيرها في آلات الراديو أو في الألواح الحساسة. فالعلم أذن لن يعترف بوجود الأرواح المجردة عن المادة إلا إذا استطاعت التأثير في جهاز مادي.

هذا صحيح. ولابد للأرواح المجردة قبل أن تصبح حقيقة علمية من أن تحدث أحداثا محسوسة ظاهرة. وهذا هو السبيل الذي سلكه (سر ألفر لدج) ومن قبله (سر وليم كروكس) و (الفرد رسل ولاس) وحاولوا منه إثبات وجود العالم الروحي إثباتا علمياً، ثم العمل على الاتصال به بوسائل علمية في متناول كل إنسان.

فما هو الجهاز الذي ركبه أولئك العلماء وهيأوه لتستخدمه الأرواح؟ أنه مع الأسف ليس بآلة حديدية أو خشبية أو زجاجية، وليس مما يصنع أو يباع. هذا حلم لم يتحقق بعد، وأن لم يكن مستحيلاً. الأرواح لا يناسبها إلى اليوم غير الجهاز المخي العصبي العضلي وهو الجسم البشري. ولذلك لا تستطيع أن تتصل بنا إلا باستخدام جسم بشري لشخص يسمونه الوسيط.

فما هو الوسيط؟ وهل يستطيع كل إنسان أن يكون وسيطاً؟ أم هل الوساطة وقف على أفراد معينين؟ يقولون أن الوساطة صفة مجهولة السبب. وأنها من ضروب العبقرية، كالقدرة على الغناء الشجي عند المغني الموهوب، وكالبراعة في الشعر عند الشاعر الفحل. وكما أن كل واحد منا لا يستطيع أن يكون مغنياً أو شاعراً ممتازا، فكذلك لا يستطيع كل منا أن يكون وسيطا. والوساطة كالغناء والشعر متى وجدت بذرتها في الشخص يمكن تقويتها وتغذيتها وإنماؤها بالتعليم والمران، كما يمكن أضعافها وأماتتها بالإهمال والكبت والانصراف عنها إلى غيرها. وهم يقولون أن الوساطة موجودة في عدد من الناس أكبر بكثير مما نتوقع، ولكنها تهمل في الأغلبية العظمى من الحالات. فتموت من تلقاء نفسها إذا كانت ضعيفة، وتحسب شذوذا نفسانيا أو خلقيا أو مرضاً عصبيا إذا كانت قوية

الوسيط كعامل التلفون تذهب إليه وتطلب منه أن يصلك بالعالم الآخر فينيلك ما تريد. كيف يقوم الوسيط بهذا العمل الغريب وعلى أي صورة يؤديه؟ الوسطاء يختلفون في أداء مهمتهم، فمنهم من وهب القدرة على الكشف البصري فهو يرى الأرواح كما يرى الأشباح. ومنهم من لديه خاصة الكشف السمعي فهو يسمع حديث الأرواح وينقلها إلى الأحياء. ومنهم من تستولي الروح على يده وتكتب بها ما تريد دون أن يكون لفكر الوسيط دخل فيما يكتب. ومنهم من يغيب عن رشده ويسلم جسمه كله للروح فتستخدمه كما كانت تستخدم جسمها في حياتها الأرضية.

والوسيط يتناول بطبيعة الحال أجرا لقاء ما يؤدي للناس من خدمة يصرف فيها الوقت والمجهود. لأنه ككل الناس لابد له من أن يعيش. بل هو جدير بالأجر الحسن والعطاء السخي. ولكن أنى لنا أن نثق بصدقه ونطمئن إلى صحة دعواه الخطيرة. ولم لا يكون محتالاً ماكرا يعيش بالادعاء على الموتى وتغفل الأحياء.

لا شك أن مجال الاحتيال واسع في هذا الميدان، وهناك حتما مدعون للوساطة يكسبون من خدع البسطاء عيشا سهلا. ولكن هذا الصنف في الغالب يعمل في الخفاء، وينفرد سرا بالسذج والأغبياء. أما القول بأن وسيطا يزاول عمله في جمعية علمية سنين متوالية ويجتمع به كل يوم رجال أذكياء اعتادوا البحث العلمي المنطقي المنتظم يكون مدعيا ومحتالا، فقول بعيد جدا عن المعقول وهو مرفوض بالبديهة.

الواقع أن جمهور العلماء اليوم يعترف بوجود أفراد لهم مواهب نفسانية غريبة تمكنهم من أن يدلوا إليك بمعلومات جمة عن نفسك وأسرتك، ومن مات من معارفك، مما يستحيل أن يكون قد وصل إليهم علمه من طريق طبيعي معتاد، والخلاف بين العلماء ينحصر في تعليل هذه الظاهرة، وهل هي اتصال بكائنات حية غير منظورة مما نسميه الأرواح أم لها سبب آخر

هناك تعليل آخر يصح أن تعزى إليه هذه الظاهرة وهو قراءة الأفكار أو ما يسمونه بالتلباثي فقد ثبت بالتجارب العلمية الصحيحة أن بين الناس من يستطيع استطلاع ما في فكر الآخرين دون أن يحتاج في ذلك إلى إشارة أو لفظ. وقد اجرى العلماء في ذلك تجارب عديدة، فإذا طلب من أحد الحاضرين حصر فكره في شيء معين استطاع هذا الموهوب بعد فترة من السكون أن يعرف ذلك الشيء، فيمكن القول أذن بأن ما يدلى به الوسيط وينسبه إلى الأرواح يحصل عليه كله من أفكار الحاضرين.

ولكن الوسيط يدلي أحيانا بمعلومات ليست في ذهن أحد من الحاضرين في ذلك الوقت، فكيف نعلل هذا؟ يكمن تعليله بأن الوسيط يقرؤه من العقل الباطن لأحد الحاضرين. إذ لكل إنسان عقل باطن تستقر فيه ذكرياته وكل ما مر به مما لا يفكر فيه في وقته الراهن. فلعل لدى الوسيط القدرة على ولوج هذه الناحية العجيبة من العقول ليستخرج ما يشاء منها كلما شاء.

ولكن ما قولنا فيما يدلي به الوسيط أحيانا مما لا يمكن أن يكون قد مر بذهن أحد من الحاضرين يوما ما؟ أن الوسيط ينسب أصله إلى الأرواح التي تخاطبه، فهل نسلم معه بهذه الدعوى الخطيرة، ونتخذ من ذلك دليلا علمياً على صحة وجود العالم الروحي والحياة الآخرة؟ أن بعض العلماء يميل لهذا الفرض. . ولكن البعض يميل إلى فرض آخر وهو القول بأن الميت أثناء حياته كان قد فكر فيما ينسبه إليه الوسيط فانتقلت أفكاره إذ ذاك إلى عقول الأحياء بطريق التلباثي واستقرت في عقلهم الباطن، ثم استطاع الوسيط أن يستخرجها من عقلهم الباطن بطريق التلباثي.

أي الفرضين يا ترى هو الصحيح؟ أظن أن الفرض الثاني هو محاولة بعيدة وتعلق بالقش لإنقاذ الفلسفة المادية من الغرق بعد أن غاصت تحت الماء.

سنواصل هذا المبحث الواسع المتشعب في فرص أخرى أن شاء الله.