مجلة الرسالة/العدد 27/الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 27/الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية

مجلة الرسالة - العدد 27
الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية
ملاحظات: بتاريخ: 08 - 01 - 1934


2 - مرحلة الكفاح وبداية الظفر للأستاذ محمد عبد الله عنان

لم يشهد التاريخ الحديث ثورة ضئيلة في نشأتها، عظيمة شاملة في

نتائجها كالثورة الوطنية الاشتراكية الألمانية؛ فان تلك الجماعة

المغمورة التي قامت في ميونيخ باسم حزب العمال الوطني الاشتراكي

بزعامة ادولف هتلر والتي لم تتجاوز السبعة، كانت أول حجر في

صرح الحركة الوطنية الاشتراكية الألمانية التي أخذت

تغمرألمانيالأعوام قلائل من ظهورها، والتي تواجه اليوم مصير الشعب

الألماني.

قامت هذه الجماعة في ميونيخ سنة 1919 على نحو ما بينا وانتظم فيها الضابط الصغير والبناء النمسوي السابق ادولف هتلر، ليتولى بعد قليل زعامتها وتنظيمها، فماذا كانت ترجو وعلام كانت تعتمد؟ من الصعب أن نعتقد أن هذه الزمرة من رجال لا ماضي لهم ولا عصبة، وليست لهم أية كفاحات خاصة، كانت يوم انتظامها تؤمل أن تفوز في ميدان الكفاح السياسي بتلك السرعة المدهشة، لتفرض برنامجها بعد ذلك على الشعب الألماني كله. ولكن تأذى لا ريب فيه أن ظروف ألمانيا عقب الحرب الكبرى، وما سرى إليها من عوامل الانحلال واليأس والفوضى، كانت تفسح مجالا للظهور والمغامرة؛ وكانت أية دعوة إلى الخلاص والنهوض والأمل تلقى في هذه الغمار المظلمة قبولا.

وقد كانت الحركة الوطنية المحافظة التي كانت ميونيخ مهدا لها، تتخذ شعار العمل على إنقاذ ألمانيا من ويلات الهزيمة، ومن براثن الفوضى الاشتراكية والشيوعية؛ فكانت عصبة هتلر تحمل لواء هذه الدعوة، وتعمل في جو من العطف الذي يتمتع به أبان اليأس العام كل من ألقى كلمة الخلاص والأمل. وفي هذا الجو استطاع هتلر أن ينظم حزبه وأن يجمع له الأنصار. وكانت المهمة شاقة، ولكن هتلر استطاع بكثير من العزم والمثابرة والجلد أن يحول عصبته الصغيرة إلى حزب سياسي هو: (حزب الع الألماني). ووضعت مبادئ الحزب الأساسية في فبراير سنة 1920 في ميثاق وطني يتألف من خمس وعشرين مادة ترمى إلى أغراض خمسة: (الأول) الاستيلاء على الحكم والسلطة. (الثاني) سحق الحركة الماركسية (الاشتراكية والشيوعية). (الثالث) صبغ ألمانيا كلها بالصبغة الوطنية الاشتراكية. (الرابع) تحقيق وحدة الشعوب الجرمانية (المتكلمة بالألمانية). (الخامس) تنقية الجنس الألماني وتطهيره من كل شخص يجري في عروقه دم يهودي أو دم آخر غير آري. ولهذه الغاية الأخيرة التي صيغت في المادة الرابعة من الميثاق، أهمية خاصة؛ لان فكرة الإيثار الجنسي لم تبد من قبل في برنامج أي حزب من الأحزاب السياسية بمثل هذه الصراحة؛ وسنرى إنها غدت منذ استيلاء الحزب الوطني الاشتراكي على السلطة من أخطر المشاكل الاجتماعية والسياسة التي تواجهها ألمانيا، والتي مازالت تعاني من جرائها كثيرا من المتاعب والصعاب.

سار الحزب الوطني الاشتراكي الجديد في طريق التقدم بسرعة، ولقي برنامجه كثير من العطف والتأييد؛ وألفى في حوادث سنة 1923 (مثل نكبة العملة واحتلال الروهر) وما بثته في ألمانيا من البؤس واليأس مهادا خصبة لدعوته، وبلغ أعضاؤه يومئذ نحو ألفين. وأيده جماعة كبيرة من القادة والضباط القدماء وعلى رأسهم الجنرال لودندورف؛ وأيده كثير من رجال المال والصناعة الذين خشوا عواقب تقدم الحركة الشيوعية ولم يدخروا وسعا في مقاومتها؛ وأخذ هتلر يجمع الأنصار حول علمه ذي الصليب المدبب (سفاستكا) وانشأ لحزبه قوة شبه عسكرية لتحفظ النظام أثناء الاجتماعات وغيرها من المناسبات وهي التي غدت فيما بعد جناح الهجوم الشهير وانشأ حرسا من خاصة أعوامه وأنصاره لحمايته وحماية زعماء حزبه وهو المعروف بفرقة الحماية وبهذا اتخذ الحرس الوطني الاشتراكي لونا عسكريا قويا؛ وألفى هتلر في هذا الوقت نفسه (ربيع سنة 1923) في حوادث بافاريا فرصة للقيام بأول محاولة عنيفة. وكانت بافاريا تضطرم يومئذ بحركة رجعية قوية ترمي إلى إسقاط حكومة برلين الجمهورية وإعادة الملكية في بافاريا، على رأسها فون كار رئيس وزارة بافاريا السابق والجنرال فون لوسوف مبعوث (الريخ) - حكومة برلين - العسكري والكولونيل سايزر مدير البوليس. فتفاهم زعماء هذه الحركة مع الجبهة الوطنية الاشتراكية التي يتزعمها هتلر ولودندورف لان الحركتين ترميان إلى غرض واحد؛ واتفق الفريقان على أن ينظما الزحف على برلين وإسقاط الحكومة؛ ولكن فون كار تخلى عن الوطنيين الاشتراكيين في آخر لحظة، ونظم هتلر وأصدقاؤه الحركة وحدهم، وبدأ الثورة بأن أطلق رصاص مسدسه على سقف محل للبيرة في ميونيخ في اجتماع حافل، وأعلن أن الثورة الوطنية قد بدأت ضد (حكومة برلين اليهودية). ولكن السلطات البافارية كانت على أهبة؛ فقتل عدة من رجال النازي، وجرح الكابتن جيرنج أخص أصدقاء هتلر وساعده الأيمن ولكنه حمل خلسة إلى إيطاليا؛ وقبض على هتلر ولودندورف. وصدر قرار بحل الحزب الوطني الاشتراكي ومنع اجتماعاته - نوفيمبر سنة 1923 - . وبرئ لودندورف ولكن هتلر قضى عليه بالسجن في قلعة لخمسة أعوام - أبريل سنة 1924 - . وزج إلى قلعة لانجسبرج فبقى فيها ثمانية أشهر كتب أثناءها كتابة المعروف (جهادي) وفيه يقص حياته ويشرح مبادئ الحركة الوطنية الاشتراكية وغايتها ويرد على خصومه اليهود. وهو مؤلف لا طرافة فيه ولا قوة، ولا ينم عن مواهب فكرية أو أدبية ممتازة، بيد أنه ينم عما تضطرم به نفس هتلر من عزم وجلد. ثم أفرج عنه. وكان حزبه قد تفرق؛ ولكنه عاد إلى جمعه وتنظيمه بنفس عزمه وهمته، وظهر يومئذ في الجماهير بمقدرته الخطابية وذلاقته وقوة تأثيره. وكان هذا التأثير ومازال اعظم خواصه ومواهبه. وكان يعمل عمله في صفوف الشباب بنوع خاص، إذ كان هذا الشباب الطامح يعانى من صفوف الشقاء واليأس والفاقة أشدها، ويتطلع دائما بحماسة ولهفة إلى طريق الخلاص المنشود. وظهر تقدم الدعوة الوطنية الاشتراكية واضحا في انتخابات مايو 1924، إذ نال حزب هتلر نحو مليوني صوت تخوله في الريخستاج 32 كرسيا. ثم فتر هذا التقدم خلال الأعوام التالية، أولا لتحسن الأحوال الداخلية ولا سيما الحالة الاقتصادية وانتعاش الآمال نوعا، وثانيا لان الحكومة المتوالية أخذت تشتد في مقاومة الحركة لما رأته من تقدمها وخطورتها. بيد أن الحزب الوطني الاشتراكي استمر في كفاحه، وعادت دعوته بعد وفاة شتريزمان وانهيار سياسة الوفاق واضطراب حكومة برلين من جراء ذلك، تسري في الجموع بسرعة، حتى بلغ أعضاؤه في سنة 1931، أربعمائة ألف؛ ونال في انتخابات ديسمبر سنة 1930 نحو ستة ملايين ونصف مليون صوت تخوله في الريخستاج 107 كرسيا؛ ووصل ذروة ظفره في انتخابات يوليو سنة 1932 حيث نال نحو أربعة عشر مليون صوت تخوله 230 كرسا، وهو ما يقرب من خمس أعضاء الريخستاج، وأضحى بذلك أقوى الأحزاب البرلمانية، وقوى أمله في انتزاع الحكم. ورشح هتلر نفسه في ذلك الحين لانتخاب رآسة الجمهورية ضد المارشال هندنبورج فلم يفز المارشال أمام منافسة القوى إلا في الدورة الثانية. وبذلت حكومة فون بابن القائمة وقتئذ جهودا عنيفة لوقف تيار الحركة الوطنية الاشتراكية، وحلت الريخستاج وأجرت انتخابات جديدة في نوفمبر سنة 1932، فنال الوطنيون الاشتراكيون فيها مع ذلك 196 كرسيا. وأضحى الرئيس هندنبورج وحكومة برلين أمام الأمر الواقع؛ وأضحى واضحا انه لا يمكن لأية قوة أن تقف في وجه هذا التيار الجارف، وأن الوسائل المصطنعة لا تجدي في المقاومة، وأن السلطة صائرة إليه بلا ريب. وكان الرئيس هندنبورج قد دعا هر هتلر عقب انتخابات يوليه ليفاوضه في إمكان اشتراكه في الحكم، ولكن هر هتلر أصر على تولى السلطة كاملة غير منقوصة. وهذا ما أباه الرئيس هندنبورج مدى حين. وكان المارشال يبدي في الواقع تردداً في الثقة بالوطنيين الاشتراكيين ويخشى وجودهم في الحكم وقد ظهر ذلك واضحا في موافقته على حل البرلمان أكثر من مرة خلال أشهر قلائل، وفي تفويضه للهر فون بابن ثم من بعده للجنرال فون شليخر، أن يتذرع بالسلطة المطلقة وأن يحكم بمقتضى قوانين الطوارئ، وذلك لأن أحداً منهما لم يتمتع بثقة الريخستاج، ومع ذلك فانه لم يمض على انتخاب البرلمان الجديد شهران حتى كانت حكومة فون شلخير في دور النزع وحتى كان الرئيس الشيخ يفاوض هتلر في تولى الحكم. وقد كان هذا التطور الفجائي في موقف المارشال ومستشاريه مثار دهشة عامة، خصوصاً إذا ذكرنا أن الحزب الوطني الاشتراكي لم يكن يومئذ في ذروة قوته، ولم تكن له في البرلمان سوى أقلية، وكانت قد نضبت موارده وخبت قواه. ومن الغريب أن يكون رجل هذا التطور ومدبره فون بابن لم يدخر أثناء حكومته وسعا في سحق هتلر وحزبه وقد فسر هذا التطور يومئذ بان استدعاء هتلر إلى الحكم لم يكن إلا وسيلة لتحطيم نفوذه وتمزيق حزبه، وأن هذا الاضطلاع بأعباء الحكم ومسئولياته سيصهره ويكشف عن ضعفه، وانه من جهة أخرى لن يتمتع بالسلطة كاملة، وستتخذ الضمانات الكفيلة بكبح جماحه ومنعه من إطلاق العنان لمشاريعه المتطرفة التي كانت تعتبر يومئذ خطرة على مستقبل ألمانياومصالحها ومركزها الدولي. وعلى أي حال فقد وقع الانقلاب الحاسم أخيراً، وعهد المارشال هندنبورج إلى الهر أدولف هتلر بتولي رياسة الحكم في 30 يناير سنة 1933 ودخل الوزارة معه من أقطاب حزبه الكابتن جيرنج وزيراً للداخلية. ولكن أعطيت وكالة الرياسة ورآسة وزارة بروسيا للهر فون بابن، ووزارة المالية لزعيم الحزب الوطني الهر هوجنبرج، ووزارة الخارجية للبارون فون نويرات ووزارة الدفاع لقائد مسئول مباشرة لدى الرئيس هندنبورج، وبذاأعطيت السلطات الهامة لرجال يثق المارشال بفطنتهم واتزانهم وحسن تقديرهم

على أن هذه الضمانات التي أريد أن يحاط بها حكم الوطنيين الاشتراكيين كانت نظرية، وكان هر هتلر بالعكس يعتقد أن هذه الخطوة إنما هي تحقيق للشطر الأول من برنامجه، وهو الاستيلاء على السلطة؛ ويجب أن يكون هذا الاستيلاء عمليا كاملا. وسرعان ما تدفق تيار الوطنية الاشتراكية منذ المساء الذي تقلد فيه الزعيم (أي هتلر) رآسة الحكم، وهرعت فرق الهجوم ذوي الأردية السمراء آلافا مؤلفة تحي الزعيم في مكتب الرآسة وتهتف له حتى منتصف الليل. ومنذ تلك الليلة ظهر الحزب الاشتراكي في ذروة قوته، وشعر زعماء ألمانياالسابقين وشعر الشعب الألماني كله بان عهدا جديدا سيفتتح. ثم توالت الحوادث بسرعة فوقع حريق الريخستاج في 27 فبراير؛ وكان الريخستاج قد حل مرة أخرى لان هتلر لم يثق بمجلس ليست له فيه اغلبية قوية، ولم يرد أن يبقى تحت رحمة حلفائه اعضاء الحزب الوطني وحزب الوسط الكاثوليكي؛ وتحدد للانتخابات الجديدة يوم 5 مارس فوقع حريق الريخستاج قبله بأيام قلائل، ونسبت الحكومة الجريمة إلى الشيوعيين واتخذتها ذريعة لسحق كتلة اليسار أعني الديمقراطيين والشيوعيين فقبضت على زعمائهم وصادرت مراكزهم وأموالهم وطاردتهم بمنتهى العنف والشدة؛ وصرح الهر هتلر وزملاؤه يومئذ بان لديهم الأدلة الحاسمة على أن الجريمة إنما هي بدء فقط لثورة دموية مخربة واسعة النطاق يدبرها الشيوعيون لقلب الحكومة. ولكن حريق الريخستاج لبث مع ذلك حادثاً غامضا مريبا ولم يقتنع الرأي الخارجي بهذه التأكيدات؛ ووجهت بشأنه شكوك وتهم خطيرة إلى الحزب الوطني الاشتراكي ذاته وعلى أي حال فقد ساعد هذا الحادث على ظفر الهتلريين في الانتخابات فخرجوا بأغلبية قوية وفاز الديمقراطيون مع ذلك بنحو مائة وثلاثين كرسي والشيوعيون بنحو ثمانين وعقد الريخستاج الجديد في 23 مارس؛ ولم يشهد النواب الديمقراطيون والشيوعيون لأنهم كانوا جميعا في السجن أو المنفى، وفي هذه الجلسة حصل الهر هتلر على تفويض بالحكم المطلق والتشريع لمدة أربعة أعوام، ولم يبق له حاجة بعد ذلك إلى موافقة الرئيس هندنبورج أو توقيعه، وتحققت بذلك الدكتاتورية المطلقة التي ينشدها الحزب الوطني الاشتراكي، ولم يمض سوى قليل حتى انتزع هتلر الوزارات التي كانت بيد حلفائه وشغلها بأصدقائه ومعاونيه، وتوارى جميع الزعماء والقادة الآخرين من الميدان؛ وأضحى هتلر سيد ألمانياالمطلق ومن ورائه حزب زاخر قوامه اليوم خمسة ملايين.

(يتبع)

محمد عبد الله عنان