مجلة الرسالة/العدد 269/عود إلى الموضوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 269/عود إلى الموضوع

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 08 - 1938



الدين والأخلاق بين القديم والجديد

لأحد أساطين الأدب الحديث

- 2 -

لو أن الأستاذ الغمراوي قصر حديث الدين والأخلاق على الرافعي لكانت حجته أقوى، ولكنه وقع في خطأ منطقي إذ حسب أن جميع أدباء المذهب القديم قد راعوا حرمة العرف والتقاليد وآداب الدين وأخلاقه كما راعاها الرافعي. فكأن حجته مقسمة حسب التقسيم الذي يُستشهَدُ به في الخطأ المنطقي: هي أن الرافعي راعى حرمة أخلاق الدين، والرافعي من أدباء المذهب القديم، فنستنتج من ذلك أن المذهب القديم يراعي حرمة أخلاق الدين. وهذا الاستنتاج كاستنتاج من يقول: الفيل له خرطوم، والفيل حيوان، فكل حيوان إذاً له خرطوم. وقد ظهر هذا البرهان المنطقي في أكثر من مكان في مقالات الأستاذ الغمراوي ولا سيما في المقال الأخير. أنظر إلى قوله (فالمسألة في الأدب إذاً ليست مسألة لفظ ومعنى ولكنها في صميمها مسألة روح. فريق يريد أن يجعل روح الأدب روحاً شهوانياً بحتاً يتمتع صاحبه بما حرم الله وما أحل، ولا يفرق بين معروف ومنكر، ثم يصف ما لقي في ذلك من لذة وألم أو غيرهما من ألوان الشعور؛ وفريق يريد أن يحيا الحياة الفاضلة. . إن أدب الفريق الأول هو ما يسمونه الأدب الجديد. . . وأدب الفريق الثاني هو ما يسمونه بالأدب القديم. . .)

ومن الغريب أن عدد الرسالة الذي كتب فيه الأستاذ الغمراوي هذه الجملة فيه مقال للأستاذ خلاف يشير إلى كتاب يتيمة الدهر للثعالبي وإلى غيرها من كتب الأدب القديم، ونستشهد منه بالجملة الآتية: (ومنذ أن قال امرئ القيس أقواله الفاحشة في المرأة، ونظم الفرزدق وجرير الشتائم والسباب، وقال أبو نواس وبشار وأضرابهما في معاني الشذوذ والضعف الخلقي، وامتلأ العصر العباسي الثاني بالتفنن في تسجيل الصور الدنيئة من حياة الإنسان كما يتمثل في كتاب يتيمة الدهر (قاموس الأدب الداعر الوقح)؛ منذ ذلك كله تحول ذوو الطبائع الجادة إلى وجهات أخرى في الحياة غير وجهة الأدب والاشتغال بمحصوله) فالأستاذ خلاف يثبت في مقاله أن الأدب الداعر بدأه أمير شعراء الجاهلية في مثل قوله (إذا ما بكى من خلفها. . . الخ) واستمر في عصور الإسلام إلى أن استفحل كل الاستفحال في عصر الأدب العباسي الثاني. فهل يعد الأستاذ الغمراوي أدباء هذه العصور الذين يعنيهم الأستاذ خلاف من أدباء الأدب الجديد أم من أدباء الأدب القديم؟ وهل قول الأستاذ الغمراوي (فريق يريد أن يجعل روح الأدب روحاً شهوانياً الخ الخ) ينطبق أولاً ينطبق على أدباء الأدب القديم الذين ذكرهم الأستاذ خلاف؟ وهل ينكر الأستاذ الغمراوي أنه قلما يخلو كتاب من كتب الأدب القديمة من أشياء لا يليق بالفتيات والفتيان ولا بأي إنسان أن يقرأها، وأن الأستاذ خلاف عندما ضرب الأمثلة لم يقصد أن يذكر كل ما وجد من هذا القبيل؟ إن في كتاب يتيمة الدهر أشياء لو قرئت على الأستاذ الغمراوي لوضع إصبعه في أذنه وفر وهو يقول: مرحباً بالجديد. وما رأي الأستاذ الغمراوي في شرح السيد توفيق البكري شيخ السادة البكرية، ورجل الفضل والدين لأبيات ابن الرومي التي ذكر فيها صوت يد العجان في العجين (راجع صهاريج اللؤلؤ)؟ فهل السيد توفيق البكري من أدباء المذهب الجديد؟ وما رأيه في الشيخ شريف رجل الفضل والدين ومفتش اللغة العربية في وزارة المعارف وقد شرح أرجوزة ابن الرومي التي أولها (رب غلام وجهه لا يفضحه). وليس من موبقة إلا وفي كتب الأدب القديم وصفها والافتخار بها على شكل لم يبلغه الشبان المولعون بما يسمونه (الأدب المكشوف). ومن الغريب أن الذين ينبهون الحكومة إلى سقطات هؤلاء الشبان لا ينبهونها إلى ما في كتب الأدب القديم من مخاز لا تسمح أية دولة بنشرها. راجع في الأغاني أمثال قصة إصبع بن أبي الإصبع ومطيع ابن إياس، على ما أذكر، أو سل الأستاذ خلاف عما وجد في كتاب يتيمة الدهر حتى سماه قاموس الأدب الداعر، بل خذ أي كتاب أو ديوان، خذ مثلاً ديوان أبي تمام وراجع القصيدة التي يخاطب فيها الحسن ابن سهل في قوله:

(إن أنت لم تترك السير الحثيث الخ) ولاسيما البيت الذي أوله (سبحان) في الطبعة غير المنقحة، أو خذ ديوان البحتري وانظر كيف أفحش في المجون في حضرة أمير المؤمنين المتوكل في القصيدة التي يمدحه بها وأولها (سقاني القهوة السلسل) وانظر إلى البيت الذي أوله (وقطع) فهل هؤلاء من شعراء المذهب الجديد؟ وهل أمير المؤمنين المتوكل من أدباء المذهب الجديد؟ أو خذ ديوان أمير المؤمنين عبد الله ابن المعتز ففيه أيضاً مخازٍ يعجب لها الأستاذ الغمراوي. أو خذ ديوان الرجل التقي النقي العلوي صفي الدين الحلي وانظر إلى مجونه وغزله المؤنث والمذكر، أنظر مثلاً إلى سبب تضمينه الأبيات الآتية في قصيدة له والأبيات أولها (أيا جبلي نعمان بالله خليا الخ الخ)

إن أدباء المذهب القديم وأدباء المذهب الجديد في أيام شبابهم قد قرءوا كل هذه الكتب وقرءوا ما فيها مما لو رآه الأستاذ الغمراوي لطمسه. وقد تأثر كثير منهم بها إلى حد جعلهم لا ينكرون وجودها وجعلها في نظرهم أشياء طبيعية مألوفة. وأدباء المذهب الجديد قد قرءوا الكتب العربية قبل قراءتهم كتب الأدب الأوربي الذي يخشى الأستاذ الغمراوي قدوتها. فإذا كانت كتب الأدب الأوربي قد أثرت فيهم فان كتب الأدباء والشعراء التي يستنكرها الأستاذ خلاف لا بد أن تكون أبلغ أثرا في نفوس الفريقين؛ وهي أيضاً بليغة الأثر في نفوس فتيات وفتيان المدارس لأن هذه الكتب يستعيرها التلاميذ والتلميذات بمدارس البنين والبنات، فهي بمكتبات المدارس ويُحَثُّ التلاميذ والتلميذات على قراءتها. لو كان الأستاذ الغمراوي يعرف ما يكتبه الطلبة من الحواشي أحيانا على هامش هذه الكتب المستعارة لعرف مقدار أثر كتب الأدب القديم في نفوس النشء. إني أتوسم في الأستاذ الغمراوي الإنصاف، ومن أجل ذلك أعتقد لو أنه بحث هذه المسألة وفحص أثر هذه المؤلفات وأمثالها بعد أن يدرس مجونها ويهتدي إليه بهداية أهل العلم بأماكنه لا أعترف أنه إذا كان لأدبٍ ما أثر في دفع الشبان إلى المجون والإباحية في الأخلاق فهو أثر الأدب القديم، وأن هذا الأدب القديم غير مقصور الأثر على التلاميذ والتلميذات، بل إن أثره يشمل أدباء المذهب القديم العصريين وأدباء المذهب الجديد على السواء. ولا يعجب الأستاذ الغمراوي إذا قيل أن الأدب الأوربي الحديث إنما يؤدي دينا عليه للعالم العربي، فأن الأدب والشعر والفكر العربي كما كان في الحضارة العربية ولا سيما العباسية والدويلات التي أتت بعدها كان كثير الحرية إلى حد الإباحية في الخلق أحياناً؛ وقد كان هو والأدب الإغريقي القديم من العوامل التي قضت على أدب التعفف والتقشف المسيحي في القرون الوسطى.

وما يقال في الأدب القديم عن الآداب والأخلاق يقال أيضاً عن العقيدة. نفسها فلو رجع الأستاذ الغمراوي إلى كتب الملل والنحل العربية لوجد أن بعضها لم يترك إلحادا إلا وصفه ولا كفر إلا أطال القول في معانيه

وأقوال ملاحدة الدولة العباسية وغيرها من الدول لا تزال أمام القراء من شعر ونثر، وما ترك الأول للآخر شيئاً.

إذاً يحسن بالأستاذ الغمراوي أن يقصر قوله على الرافعي، وأن يمجده ما شاء، وأن يقدس مراعاته حرمة الآداب والأخلاق الإسلامية، أما أن يقع في خطأ الاستنتاج فهو أعظم من ذلك منزلة؛

وإذا كان الأستاذ الغمراوي يريد أن يقضي على سبب من أهم أسباب فساد الأخلاق فعليه أن يحث وزارة المعارف وإدارة المطبوعات على تشكيل لجنة لفحص الكتب العربية وطمس ما هو مفسد للأخلاق في الموجود من نسخها وتحريم طبعه في الطبعات الجديدة فان ائتمان أمثال هذه الكتب وهؤلاء الأدباء على أخلاق النشء (ومحاربة الأدب الأوربي) يكون كمن يأتمن لصاً وطنيا على بيته وأمواله وأثاثه لأنه وطني؛ وقد يكون هذا اللص الوطني أشد خطرا لأنه يؤتمن ويمهد له السبيل ويعطى له مفتاح المنزل. أو كمن يأتمن فاجرا داعرا على أبنائه لأنه كان صديق صباه وأليف أيام شبابه.

قارئ