مجلة الرسالة/العدد 269/إلى صاحب المعالي وزير المعارف
مجلة الرسالة/العدد 269/إلى صاحب المعالي وزير المعارف
أذكر يا سيدي أني كتبت إلى معاليك يوم سموت إلى منصب الوزير ورتبة الباشا كلمة صادقة صريحة في هذا الموضع من (الرسالة) قلت فيها: إذا كان غيرك قد وصل بالأدب من غير خلق، أو بالصحافة من غير أدب، أو بالسياسة من غير صحافة، فإنك لم تصل إلا بهذا الأدب الشامل الذي يشرق فيه وميض الروح، ويسيطر عليه نبل النفس؛ لذلك نعدُّ بلوغك هذه الغاية من المجد انتصاراً للأدب المجاهد، وترضية للقلم المجهود، وتمكيناً للفكر الجميل أن يؤدي رسالته في عالم أوسع وعلى طريق أسد؛ ولذلك نجعلك من بين الوزراء الصلة الطبيعية بيننا وبين أولي الأمر، فقد قطعوا أسبابنا الواصلة، وسَفِهوا حقوقنا المعلومة، واعتقدوا أننا حِليّ تزين ولا تنفع، ودُمىً توجد ولا تعيش. . .
وأذكر يا باشا أنك كتبت إلي على أثر هذه الكلمة الطيبة كتاباً رقيق العبارة كريم العاطفة صريح الوعد بأنك ستكون وليّاً للأدباء ونصيراً للأدب.
ثم أذكر أنك وأنت عميد الصحافة المعارِضة كتبت في (نزاهة الحكم)، وخطبت في (الحكم الصالح) مقالات سماوية وخطباً مثالية لا تزال فِقَرِها وحججها ترن في أذن الحكومة وتجري على لسان المعارضة
أذكر كل أولئك يا باشا وأنسى أنني طلبت الإِذن على معاليك فلن أنله، وأنني كتبت إليك كتاباً فيه بعض العتب فلم تقبله؛ ثم أنسى أنني سمعت بعد ذلك أنك لم تُرِد إنصاف (الرسالة) وقد سألتك إياه، وأنك محوت أسمى من مشروع (المجمع الأدبي) وقد كان فيه. نعم أنسى كل ذلك يا باشا لأن هذه المعاني البشرية لا تلبث أن تموت أو تضعف في خاطر رجلين: الوزير لأنه ينفذ أمر الملك، والقاضي لأنه يعلن حكم الله. وولي الأمر أو ولي القضاء متى شعر أنه مظهر الإرادة العليا أخذته حال من السمو الإلهي ترفع النفس وتُرهِفُ الضمير وتُوَثِّق الذمة.
فأنا أتقدم إلى معالي الوزير بشكوى الأدب الحر وأنا مطمئن إلى عدله واثق بجميل رأيه. والأدب الحر يا باشا هو الأدب المجاهد الذي ليس له حزب يحميه ولا منصب يسنده، وشكواه أن الأدب الرسمي بغى عليه بقوة السلطان وحكم الأثرة، فشهد فيه الزور وحكم عليه بالباطل
هذه لجنة إنهاض اللغة العربية - ولا أريد أن أعرض لغيرها اليوم - تألفت بقرار منك فأصبحت حدودها الموقوتة أداة من أدوات السياسة العليا تنظر بعين المصلح، وتنطق بلسان الوزير، وتحكم بذمة القاضي. ولكنها يا باشا لم ترد أن تخرج عن إطارها الشخصي، فمكنت لنزعات الهوى أن تطير بين آرائها في عمل من أعمال الناس وشأن من شؤون الدولة!
لقد سلكت في اختيار الكتب التي تساعد الطلاب على اكتساب ملكية البيان طريقاً عجيباً إن ضمن فائدة الكاتب لا يضمن فائدة الطالب، وإن قضى حاجة الصداقة لا يقض حاجة اللغة
ولا أريد أن أضرب مثلاً على تجنيها غير ما نالني منها. وأدع لغيري من الذين حكمت عليهم بالإغفال أن يضربوا بقية الأمثال فإن لهم أقلاماً وألسنة
هل تصدق يا باشا أن هذه اللجنة التي ألفتَها من أربعة شيوخ من شيوخ الدين والأدب قد استطاعت أن تحمِل العقل والضمير والفن والمنفعة على أن تلعن كتابين ألفهما جوتة ولامرتين، وترجمهما الزيات، وقدم لهما طه حسين ومنصور فهمي، وطبعهما ونشرهما أحمد أمين، وقرأهما الشبان والشواب في جميع أقطار العروبة ثمانية عشر عاماً لا يرون فيهما غير الخلق النبيل والبيان المشرق والأدب المحض والإلهام المقدس؟
هل علمت يا معالي الباشا أن هذه اللجنة الأخصائية في علوم العربية قد أغفلت كتاباً في صميم الفن أُلف للكتاب والطلاب، وعالج مسائل مبتكرة في تاريخ الأدب، وأضاف قواعد جديدة إلى قواعد الكتابة، وليس في المكتبة العربية اليوم ما يحل محله؟
لقد تساءل الناس في الأندية والصحف عن سر هذه اللعنة، وسبب هذا الإغفال، فأعياهم أن يجدوا الجواب، حتى رد عليهم الأستاذ أحمد أمين عضو اللجنة بما نشرناه وعلقنا عليه في العدد السابق من الرسالة، فانقلبت الأسئلة إلى شكوك وظنون، وراب الأدباء من لجان الوزارة أن يكون هذا مبلغ الحق والعدل، في لجنة عرف أعضاؤها بالنزاهة والفضل، وعجبوا أن يمتهن المنطق رجال المنطق ويظلم الأدب حماة الأدب، وقالوا ماذا عسى يصنع الدهر بلجان الاختيار والتأليف والمسابقة؟
هذا (بلاغي) يا معالي الوزير أرفعه إليك لتحقق ما فيه بعدما قرأتَ في العددين السابقين سؤال السائل وجواب المجيب ورد المتعقب. وصاحب المعالي هيكل باشا غني عن السؤال والجواب والبينة، فإنه بملكته الأدبية يعلم الفن، وبحاسته القانونية يدرك الحق، وبسلطته الوزارية يملك الحكم
ومعاذ الله أن يكون لهذه الشكوى مبعث غير الحِفاظ للأدب وللكرامة. فقد سلخنا في الجهاد الأدبي ثلاثين عاماً نعمل بين الجمهور وللجمهور فما شعرنا بالحاجة إلى حماية ولا معونة. وهذه منزلة من الإيمان والصبر لا يستطيع أن يصفها لهيكل باشا الوزير، إلا هيكل باشا الأديب
أحمد حسَن الزيات