مجلة الرسالة/العدد 268/للأدب والتاريخ

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 268/للأدب والتاريخ

ملاحظات: بتاريخ: 22 - 08 - 1938



مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 36 -

مقالاته للرسالة (7)

كان الرافعي قلما يجلس إلى مكتبه في المحكمة إلا أن يكون له عمل؛ فإذا لم يجد له عملا في المحكمة أنصرف لوقته إلى حيث يشاء غير مقيد بموعد من مواعيد الوظيفة. وكان يزورني أحيانا في المدرسة ليقضي معي وقتا من الوقت أو ليصحبني لبعض حاجته. وكان يغبطني على عملي ويزعم أنه لو كان في مثل هذا الجو المدرسي لوجد لنفسه كل يوم مادةً تلهمه الفكر والبيان؛ ويعجب لي كيف لا أجد في صحبة هؤلاء الصغار الذين يعيشون في حقيقة الحياة ما يوقظ في نفسي معنى الشعر والحكمة والفلسفة. . .

وزارني يوما، وكان من تلاميذي في المدرسة طفل في العاشرة أبوه من ذوي الحول والسلطان؛ فكان يصحبه شرطيٌّ كل يوم إلى المدرسة ويعود به، وكان فتى لدنا، فيه طراوة وأنوثة، وله دلال وصلف، فاتفق أن حضر إليَّ لشأن ما والرافعي معي، ووقف الشرطي ينتظره على مقربة من مجلسنا؛ ونظر الرافعي أليه وقد وقف يكلمني وهو يتثنى ويتخلّع لا يكاد يتقار في موضعه. . .

ثم أنصرف الغلام وانصرف الشرطي وراءه يحمل حقيبته، وألتفت الرافعي إليَّ يسألني: (. . . وبين تلاميذك الكثير من مثل هذا الشَّمعون؟)

وكلمة (شمعون) عند الرافعي هي عَلَم مشترك لكل فتى جميل. وتاريخ هذا الاسم قديم، يرجع إلى أيام صلة الرافعي بالمرحوم الكاظمي الشاعر؛ إذ كان الكاظمي له صديق من الغلمان يحبه ويؤثره ويخصه بالسر. . . وكان اسمه (شمعون) - قال لي الرافعي: (وكان فتى جميلا لولا ثياب الغلمان لحسبته أنثى. . .!) - ورآه الرافعي كثيراً في صحبة الكاظمي، فوعى أسمه وصورته، ثم كان اسمه عند الرافعي من بعد علما على كل غلام متأنث. . .

. . . قلت للرافعي: (هذا ابن فلان الحاكم، وهذا الشرطي الذي يتبعه هو من جنود أبيه، وإن من خبره. . .)

قال الرافعي: (وهذا موضوع جديد!)

فهذا كان سبب إنشائه قصة (الطفولتان)

وكان الرافعي مؤمن بالغيب إيمانا عميقا لا ينفذ إليه الشك. وكان له عن الشياطين والملائكة، وعن الوحي والإلهام، وعن تجاوب الأرواح في اليقظة والنوم، أحاديث ينكرها كثير من شباب هذا الجيل. . .

. . . وكان له - إلى إيمانه وتديُّنه - نزوات بشرية تعقبها التوبة والندم، فكان أكثر وقته على تربص دائم من وسوسة الشيطان، فكان إذا مرت أمامه امرأة فأتبعها عينيه، أو سمع حديثاً عن غائب فتعقبه بالحديث عن بعض شأنه، أو ناله أحد بمساءة فردها إليه، استعاذ وحوقل، وقال: هذا من عمل الشيطان!. . . وإذا همت نفسه بشيء تنكره المروءة، أودعته داعية من هواه إلى ما يتحرج منه المؤمن، أو صرفه شأن من شئون الحياة عن واجب من واجبه، حمل نفسه على ما لا تحتمل، وأنكر على نفسه ما همت به أو دعت إليه أو انصرفت عنه، وذم الشيطان وتجنى عليه الذنب. وفي مقالته (دعابة إبليس) حديث يحقق هذا المعنى

. . . فأني لَمعَه ذات مساء إذ جاءه البريد برسالة من آنسة في دمشق، ومعها صورتها مهداة إليه، تبثه لواعجها وأشجانها، وتشكو إليه أنها. . . مفتقرة إلى رجل!

ونظر الرافعي إلى صورة الفتاة فأطال النظر، ووقف الشيطان بينه وبين الصورة يحاول أن يزيدها في وهمه حسنا إلى حسن، ويرسم له خطة. . .

ثم وضع الرافعي الصورة في غلافها وهو يقول: (أعوذ بالله من الشيطان. . . أَما إنه. . .)

وقال شاب في المجلس: (وهل الشيطان إلا هوى النفس؟)

وقال الرافعي: (وهل تنكر. . .؟)

وطال الجدل، ومضى الحديث في فنون. . .

من هذا الحديث وهذه الحادثة كانت مقالة (الشيطان)

وكان لولده الأستاذ سامي زوج لم يدخل بها، وقد مرضت بذات الصدر بعدما سماها وعقد عليها؛ فأقامت زمناً في مصحة حلوان؛ ثم ارتدت إلى طنطا لتقيم بين أسرتها ما بقي، وزوجها حفيٌّ بها قائم على شئونها، ثم جاء موعدها فدعا الرافعي ليراها فجلس إلى جانبها لحظات وهي تحتضر، فكان له من هذا المجلس القصير، مقالة (عروس تزف إلى قبرها!)

كنت ليلتئذ على موعد معه في القهوة، فظللت أنتظره ساعات ولم يخلف الرافعي موعده معي مرة من قبل، فلما طال بي الانتظار مضيت لشأني. وفي الصباح جاءني نعي الفتاة فعرفت عذره؛ فلما كان العصر ذهبت في نفر من الأصحاب لتعزيته في دار صهره، والتمسناه فما وجدناه، وسألنا عنه فعرفنا أنه آب إلى داره بعد الجنازة لبعض شأنه؛ ولقيته بعدها فعرفت أنه ترك المأتم والمعزين ليفرغ لكتابة مقالة قبل أن تذهب معانيه من نفسه!

يرحمه الله! لم يكن يمر به حادث يألم له، أو يقع له حظ يسرُّ به إلا كان له من هذا وذلك مادة للفكر والبيان، وكأنما كل ما في الحياة من مسرات وآلام مسخرة لفنه؛ فهي عند الناس مسرات وآلام، وهي له أقدار مقدورة ليبدع بها ما يبدع في تصوير الحياة على طبيعتها وفي شتى ألوانها، ليزيد بها في البيان العربي ثروة تبقى على العصور، وهو إخلاص للفن لم أعرفه في أحد غير الرافعي!

وإذ ذكرت السبب الذي دعا الرافعي إلى إنشاء مقالة (عروس تزف إلى قبرها!) أراني مسوقاً إلى ذكر حيث بيني وبين الرافعي يتصل بهذا الموضوع، وإنه ليدل على خلق الرافعي وطبعه، وهو بسبب مما سميته فيه من قبل (فلسفة الرضا)

لم يكن لأحد رأي في خطبة هذه العروس إلى سامي، ولكنه هو خطبها لنفسه، وكان يحبها ويرجوها لنفسه من زمان، ولم يكن بينهما حجاب، فإنها بنت خاله؛ فلما أجمع أمره على خطبتها بعدما تخرج وصار له مرتب يكفيه، ذهب يعرض أمره على والده، فعارضه فيما ذهب إليه لسبب سببه، ولكنه مع اعتداده برأيه في هذه المعارضة تركه لهواه ولم يفرض عليه رأيه؛ إذ كان يرى من حق ولده أن يختار زوجته لنفسه، فليس له عليه في هذا الشأن إلا أن يبذل له النصح، ثم يدع له الخيرة في أمره

وخطب سامي فتاته، وعقد عَقده. وكان حموه يعمل في مال فأكلته الأزمة، وقُدر عليه رزقه بعد سعة؛ ثم مرضت الفتاة مرضها، فأكرمها زوجها وأقام على شئونها، وأنفق ما أنفق في طبها وعلاجها سنتين أو يزيد، بين طنطا وحلوان!

وتداعت فنون الحديث يوماً بيني وبين الرافعي حتى جاء ذكر سامي وزوجته، وكانت ما تزال في مصحة حلوان؛ فقال لي الرافعي: (أنظر! إنها حكمة الله فيما يجري به القدر! ظلّت البشرية إن هي حاولت النفاذ إلى الغيب لتتحكم في أقدار الناس. . . ليس للإنسان خيرة من أمره، ولكنه قدر مقدور منذ الأزل يربط أسباباً بأسباب، ويجري بالحياة وحدة متماسكة، فما يجري هنا هو بسبب ما يجري هناك، فلا انفصال لشيء منها عن شيء. . . تُرى مَنذا كان ينفق على هذه المسكينة ليطب لها من دائها لو لم تكن الأقدار قد أحكمتْ نظامَها وكان سامي هو زوجها؟ هل كان إصراره على الزواج منها بعدما قدمت له من الرأي والنصيحة إلا لأنه في تدبير القدر المرجوٌّ لهذا الواجب من بعد. لقد كنت مستيقناً من أول يوم أن من وراء هذا الزواج حكمة خافية، وإنني اليوم وقد انكشف لي هذا السر العجيب في حكمته البالغة لأشعر بكثير من الرضى إلى ما كان!)

ثم كتب بين مقالة (بين خروفين)

وهي تمتّ بسبب إلى مقالة (حديث قطين)؛ وفيها حديث عن ولده عبد الرحمن، وهو أصغر بنيه؛ وكان الرافعي يرجوه ليكون من أهل الأدب؛ فما يزال يستحثه ويحمله على الدأب والمثابرة ليكون كما يرجو أبوه، ويحمله بذلك الرجاء على ما لا يحتمله. وكان (الإيحاء) وسيلة الرافعي إلى تشجيعه وتحميسه إلى العمل؛ ويبدو مَثل من هذا الإيحاء فيما تحدث به الرافعي عنه في أول هذا المقال

وكان الرافعي معنياً بمستقبل أولاده عناية كبيرة، فكان يحملهم على العمل بوسائل شتى. وكثيراً ما كان يرسم لهم الخطة للتحصيل والمذاكرة، وقد وجدت بين أوراقه حديثاً له إلى ولده إبراهيم ينصحه ويرسم له منهجاً ليهيئ نفسه للامتحان، لو أنه اتبعه لكان اليوم غير ما هو!

ومن أجل أولاده أنشأ كثيراً من المقالات عن عيوب الامتحانات لمناسبات مختلفة كان ينشرها في المقطم؛ وكانت له طلبات ومقترحات إلى وزارة المعارف أجابت أكثرها ولم ينتفع بها أحد من ولده ومن أجلهم أنشأها! أنشأ هذه المقالة قبيل عيد الأضحى، وكان اشترى خروفين للتضحية أودعهما فوق سطح الدار إلى ميعاد؛ فما نزعه إلى كتابة هذا المقال إلا هذان الخروفان، ثم حاجته إلى أن يقدم إلى ولده نموذجاً في الإنشاء يعينه على بعض واجبه المدرسي

وكان للرافعي رأي فيما تنقل الصحف من أخبار تركيا تفسره مقالة (تاريخ يتكلم)

وقد دعاه إلى إنشاء هذا المقال أخبار تناقلتها الصحف في ذلك الوقت عن أحداث تجري في تركيا، رأى فيها مشابهة من حوادث سبقتها في مصر قبل ذلك بألف سنة في أيام الحاكم بأمر الله الفاطمي

وفي أحيان كثيرة كانت تثور نفس الرافعي لما يسمع من أخبار تركيا فيهمْ أن يكتب ثم يمنعه من ذلك خشيته أن يكون فيما يكتبه شيء يقفه موقف المسئول عن غلطة تعكر صفاء ما بين الدولتين؛ ثم جاءت مناسبة هذه المقالة فأنشأها وجعل الحديث فيها عن الحاكم بأمر الله وهو يعني رئيس الجمهورية التركية؛ وكانت هذه التعمية وسيلته ليتهرب من التبعة السياسية، ومنها كان الغموض في كثير من معانيه؛ فمن شاء فليعد إلى هذا المقال ليقرأه وقد عرف داعيه، فلعله لا يجد فيه غموضاً من بعد

ومن أجل هذا السبب ولهذا المقصد نفسه كان مقالة (كفر الذبابة) الذي أنشأه على أسلوب كليلة ودمنة بعد ذلك بأشهر.

(سيدي بشر)

محمد سعيد العريان