مجلة الرسالة/العدد 266/جورجياس أو البيان
مجلة الرسالة/العدد 266/جورجياس أو البيان
لأفلاطون
للأستاذ محمد حسن ظاظا
- 7 -
(تنزل (جورجياس) من آثار (أفلاطون) منزلة الشرف، لأنها
أجمل محاوراته وأكملها وأجدرها جميعاً بأن تكون (إنجيلا)
للفلسفة!)
(رينو فييه)
(إنما تحيا الأخلاق الفاضلة دائما وتنتصر لأنها أقوى وأقدر
من جميع الهادمين!)
(جورجياس: أفلاطون)
الأشخاص
1 - سقراط: بطل المحاورة: (ط)
2 - جورجياس: السفسطائي: (ج)
3 - شيريفين: تلميذ سقراط: (س)
4 - بولوس: تلميذ جورجياس: (ب)
5 - كاليكليس: الأثيني: (ك)
ط - (مخاطباً جورجياس) وقد قلت زيادة على ذلك أن الخطيب يولد من الاعتقاد فينا ينفع الجسد أكثر مما يولد الطبيب!؟
ج - نعم. قلت هذا ولو أن عمل الخطيب يختص بالجمهور!
ط - وتقصد بالجمهور الجهلة من غير شك لأنه واضح أن الخطيب لا يفضُل الطبيب أمام جمع من المتعلمين؟!
ج - إنك تقول حقاً!
ط - وما دام الخطيب أجدر بالإقناع من الطبيب فهو أجدر به أيضاً من العارف؟!
ج - بلا شك!
ط - حتى ولو كان هو في نفسه غير طبيب، أليس كذلك؟
ج - بلى
ط - ولكن واضح أن ذلك الذي هو ليس من الطبيب في شيء يجهل الأشياء التي يحذق علمها الطبيب؟!
ج - نعم - هذا واضح -
ط - وهكذا يصبح الجاهل أقدر من العالم على إقناع الجهلة في اللحظة التي يصبح فيها الخطيب أليق للإقناع من الطبيب؟ أليس ذلك معقولاً؟ أم ترى عندك شئ آخر؟
ج - كلا، فهذا هو الذي يحدث في هذه اللحظة
ط - وهذه الخاصة التي يمتاز بها الخطيب وفنه: أليست واحدة بالنسبة للفنون الأخرى؟ أعني ليس ضرورياً أن يعنى رجل البيان بطبيعة الأشياء، وحسبه أن يلتمس طريقة ما للإقناع بحيث يبدو في عين الجهلة من الناس كما لو كان أكثر علماً من أولئك الذين يجيدون هذه الفنون؟
ج - أليس جميلاً يا سقراط ألا نكون محتاجين إلى تعلم فن آخر غير ذلك الفن الذي لا ينبغي أن نتنازل عنه قط لأي محترف آخر؟
ط - سنبحث حالاً فيما إذا كان الخطيب يتنازل عنه من هذه الناحية للغير أو لا يتنازل حسبما يتطلب الموضوع. ولكن لننظر أولاً فيما إذا كان الخطيب يستطيع إزاء الحق والباطل، والجمال والقبح، والخير والشر: أن يكون كما يكون بالنسبة لما يجلب الصحة ولموضاعات الفنون الأخرى، بحيث يجهل ما هو الخير وما هو الشر، وما هو الجمال، وما هو القبح، وما هو الحق، وما هو الباطل، ولكنه يتخيل مع ذلك وسيلة للإقناع بهذه الموضاعات، ويبدو في عين الجهلة كما لو كان أكثر علماً من العلماء، بينما هو نفسه جاهل خاوي الوفاض! أو فلنر بالأحرى إذا كان لازماً وضرورياً لمن يريد أن يدرس البيان أن يبحث عن كل هذا وبمهر فيه قبل أن يتلقى دروسك؛ أم أنك - وأنت أستاذ البيان - سوف لا تعلم شيئاً من كل هذه الأشياء إذا لم بك لديه معرفة بها لأن هذا ليس من شأنك؛ وأنك فقط ستسلك معه - في هذه الحال - سلوكاً يجعله يبدو كما لو كان عارفاً بها، وبخلع عليه الخير دون أن يكون رجل خير بالفعل! أم (لا هذا ولا ذاك) لأنك سوف لا تستطيع أن تعلمه البيان مطلقاً قبل أن يعرف الحقيقة المتصلة بهذه الموضوعات على الأقل؟ فماذا ترى في هذا يا جورجياس؟ وهل ترى - وحق جوبتير - أننا نتقدم في خواص البيان كما وعدت أنت منذ لحظة؟
ج - أرى يا سقراط أنه عندما لا يكون لديه شيء عن كل هذه الموضاعات فإنه يستطيع أن يتعلمه مني!
ط - أرجو أن تقف هنا فإن إجابتك حسنة للغاية! أليكما تستطيع أن تجعل من أحد الناس خطيباً يجب أن يكون (هذا الراغب في الخطابة) عارفاً بالظلم والعدل، سواء أتت هذه المعرفة قبل مجيئه إلى مدرستك، أم منك أنت؟
ج - لا تناقض في هذا!
ط - ولكن ماذا؟ أيكون هذا الذي تعلم (النجارة) نجاراً أم لا يكون؟
ج - يكون نجاراً
ط - وعندما يتعلم الإنسان الموسيقى، ألا يكون موسيقياً؟
ج - بلى
ط - وعندما يتعلم الطب، ألا يكون طبيباً؟ وبالاختصار فيما يتعلق بالفنون الأخرى - ألا يكون الإنسان كما ينبغي أن يكون تلميذ كل فن منها عندما يتعلم كل ما يتعلق بها؟
ج - أوافق على هذا
ط - ويكون - لنفس السبب - كل من تعلم ما يختص بالعدالة عادلاً!؟
ج - دون تناقض
ط - ولكن هل يؤدي الرجل العادل في مظهره أعمالاً عادلة؟
ج - نعم
ط - وإذاً يجب أن يكون الخطيب عادلاً، وأن يكون الرجل العادل راغباً في أداء الأفعال العادلة!؟
ج - هذا ما يلوح - على الأقل -!
ط - ولا يرغب الرجل العادل أبداً في ارتكاب ظلامة ما؟!
ج - هذه نتيجة محتومة!
ط - ويجب بالأحرى أن يكون الخطيب بعد كل ما قيل رجلاً عادلاً؟!
ج - نعم
ط - وإذاً فلن يرغب الخطيب في ارتكاب ظلامة ما؟!
ج - يلوح أن لا
ط - وهل تذكر أنك قلت منذ قليل إنه لا يجوز أن نقف في وجه مدرب الألعاب وننفيه من المدينة لأن أحد المصارعين أساء استعمال الملاكمة وارتكب بها عملاً ظالماً، وإنه - لنفس السبب أيضاً - إذا أساء أحد الخطباء استعمال البيان يجب ألا نُرجع الخطأ لأستاذه وننفيه من المملكة، بل يجب أن نلقي المسئولية على الفاعل الذي لم يستعمل البيان كما ينبغي؟ أقلت هذا أم لم تقله؟؟
ج - قلتُه
ط - وهل ترى هذا الخطيب نفسه عاجزاً عن ارتكاب ظلامة ما أو سوف لا نراه؟
ج - سنراه!
ط - وقد قررنا من المبدأ يا جورجياس أن موضوع البيان هو الكلام الذي يعالج العدل والظلم لا الزوج والفرد، أليس هذا حقاً؟
ج - بلى
ط - عندما تكلمت بهذا النحو ظننت أن البيان لا يستطيع أن يكون أبداً شيئاً ظالماً لأن كلامه يدور دائماً حول العدالة. ولكن عندما سمعت بعد قليل أن الخطيب يستطيع أن يستخدم البيان استخداماً ظالماً عجبت واعتقدت أن قوليك متناقضان. وهذا ما جعلني أقول إنك إذا كنت ترى معي أن المعارضة خير فأننا نستطيع أن نواصل المناقشة، وإلا فلنتركها حيث وقفنا؛ فلما أن درسنا الموضوع فيما بعد رأيت بنفسك أننا قد اتفقنا على أن الخطيب لا يستطيع أن يستخدم البيان استخداماً ظالماً ولا أن يرغب بنفسه في ارتكاب ظلامة ما وأرى - وحق الكلب - أن هذه ليست بمادة مناقشة يسيرة يا جورجياس، وإذاً فلنبحث في عمق ما يجب أن نراه في ذلك الشأن
ب - ماذا يا سقراط؟ أعندك حقيقة الفكرة التي قد ذكرتها عن البيان؟
(يتبع)
محمد حسن ظاظا