مجلة الرسالة/العدد 265/بين العقاد والرافعي
مجلة الرسالة/العدد 265/بين العقاد والرافعي
غزل العقاد
للأستاذ سيد قطب
- 14 -
لا يزال صاحبنا (الغمراوي) ماضياً في طريقه، عند السفح من مدارج الإحساس والفن والحياة. وما يزال يظن المسألة ردوداً ومحالا. بينما نحن لم نرد إلا أن ينتفع هو وأمثاله ومن هم خير منهم كذلك بما نكتب، وأن يخرجوا قليلا من ذلك الطابق المغلق الذي ينزوون فيه، إلى عالم النور والطلاقة والفن الجميل، المتحرر من القيود والقشور، فيحسوا - ولو مرة - دفعة الحياة، وطلاقة الفن، وفسحة الشعور. ومن حسن الحظ أن يكون الحديث اليوم عن (غزل العقاد) فليحاولوا أن يثبوا ونحن نأخذ بيدهم إلى هذا (العالم) العبقري الفسيح. وإلا فليعذرونا إن نحن جاوزنا الجحور والمغاور، إلى المرج الواسع، أو العيلم المسجور!
الإحساس الساذج الفطري بالحب قريب في منبته من إحساس الجوع والظمأ، ومطلب قريب لا يعلو كثيراً على مطالب الجسد؛ والمتعة فيه غذاء من أغذية الدم واللحم، والحرمان نوع من الخمص والطوى، والآلام لون من وخز الجلد أو لذع النار، أو لفحة السموم. والتعبير عن كل ذلك شبيه بالضحكة والصرخة والآهة والأنين، من أنواع التعبير الفطري عن اللذة والألم
والشاعر حين يقف في إحساسه بالحب، أو التعبير عنه، عند هذا الحد لا يستحق منا لقب الشاعر - بله الشاعر الكبير - وهو لا يستحق هذا اللقب، حتى يكون له في حبه منحى خاص (ليكون شاعراً) وفلسفة شاملة تجعل من هذا الحب مجتمعاً للأحاسيس الفريدة بأعماق الحياة وأصولها وتتصل بوشائج الطبيعة الكبرى، وغاياتها البعيدة، وأنماطها الأصيلة (ليكون شاعراً كبيراً)
فليس الحب الفني، ولا التعبير عنه من السهولة كما يتصورها الكثيرون من ناشئة الشعراء، ومقلدي النقاد، إنما هما عمل عسير في الاستيعاب والتصوير، وما نقرأ لتسعين في المائة من الشعراء، إلا ضحكات وابتسامات أو صرخات وآهات، يحسبونها غاية الح وغاية التعبير!
لا تقل: إنني أحب؛ وإنني أستمتع بالحب، أو أتعذب وأتألم ثم تحسب نفسك شاعراً، حتى تقول لنا: إنني أحب على لون خاص، وأستمتع بالحب بطريقة خاصة، أو أتعذب وأتألم على لون من ألوان العذاب والآلام. ولا تقل: (أنا أطلب الجمال) وتسكت فلا بد أن تبين لنا ما نوع الجمال أو أنواعه التي تستهويك، وما المعاني التي يشعها فيك هذا الجمال، وماذا تفهم من الصلات بينه وبين غايات الحياة الكبرى، وماذا بينه من الوشائج وبين الطبيعة في كيانها ومراميها
والعقاد وحده في الشعر العربي كله هو الذي يقول لنا هذا في عمق ودقة وقصد، ويصوره بأوضح وأصح ما يستطاع. وأقول (في الشعر العربي كله) وأنا أعني ما أقول، فما يوجد شاعر واحد يجتمع له في شعره العربي ما اجتمع للعقاد، وتتوفر في نفسه هذه الأوتار المتعددة، التي يوقع عليها الحب هذه النغمات كلها، ويخرجها هكذا واضحة سليمة
نعم، يوجد بعض هذه الأوتار، متفرقاً في نفوس الشعراء ولكنها لا تجتمع هذا الاجتماع، ولا تلتئم هذا الالتئام في نفس واحدة، وما يوجد منها متفرقاً لا يبلغ في تفرده وخصوصه وطرافته هذا المبلغ عند أولئك الشعراء
فإذا خطر لأحد أولئك الذين يفغرون أفواههم لسماع هذا الكلام، ويستنكرون تقرير الحقائق وليس لهم من البرهان على إنكارهم إلا إشارات الصم والبكم، فليأتوا بنظائر لكل هذه الأوتار والنغمات لشاعر عربي واحد حتى الآن، أو لعشرة مجتمعين في جميع العصور
وقبل أن نعرف (ما الحب) عند العقاد، لا بد أن نعرف (ما الجمال) الذي يثير هذا الحب، ويدفعه إلى الغزل والتعبير
عرف القراء مما نقلناه عن رأي (شوبنهور) في الجمال، وتعليق (العقاد) عليه، أنه يرى الجمال في (الحرية) وفي العدد الفائت من الرسالة توضيح لهذا الرأي حين يقول:
(رأيي في الجسم الجميل إنه الجسم الذي لا فضول فيه، وأنه الجسم الذي تراه فيخيل إليك أن كل عضو فيه يحمل نفسه غير محمول على سواه
(من هنا جمال الرأس الطامح والجيد المشرئب، والصدر البارز، والخصر المرهف الممشوق، والردف المائل، والساق التي يبدو لك من خفتها وانطلاقها واستوائها، أنها لا تحمل شيئاً من الأشياء ولا تنهض بعبء من الأعباء)
ويقول من الكلمة نفسها في وصف فتاة:
(على شاطئ الإسكندرية - والمصادفة من أجمل المصادفات - طيارة في الهواء، وفتاة على الأرض هي أولى بالطيران من تلك الحديدة الصاعدة، بل هي تطير ولا يتخيلها الناظر إلا طائرة، تفلت من لحظات العيون، وخطرات الأرواح
(لا تحس العين أنها أدركتها، لأنها إذا أدركتها تأملت فيها، وسرحت في معانيها، فإذا هي بعيد بعيد، أبعد من الفراش الذي يقع عليه الطفل، فإذا هو على الغصن، ويثب إليه في غصنه فإذا هو في الهواء)
وقد عثرت أخيراً في الديوان على امتداد لهذا الرأي، يريد أن تبلغ الحرية بالجمال ألا يشعرنا حين ننظره بتعلقنا وتقيدنا به، بل يطلقنا نسبح في الآفاق، ونسمو على الحدود والقيود
والجميل الحق ما يذهلنا ... عنه، لا ما فيه للحس إسار
والجمال عوض عن شين كثير من النفوس في هذه الحياة، وتكفير منها عن هذا الشين، كما أنه رمز لآمال الحياة في مستقبلها الموموق، تشير به إلى ما يختلج في صدرها من الشوق للكمال:
أغلى جمالَك في النواظِر أنه ... عوض لشين في النفوس كثير
وأنا لَهُ منّا المقادةَ أنه ... في الأرض رمز كمالها المحظور
وفي الجمال غناء عن الدنيا كلها، وهو نعيم قريب كالنعيم المتخيل في الآخرة كذلك، فهو نعيم الدنيا حين يقول:
إن نفوْني اليوم من دنياهمو ... وأباحوا لي من الزاد المرام
ثم قالوا ما تشأ منها فخذ ... قلت: هذا. وعلى الدنيا السلام
قلت: هذا، وتطلعت إلى ... هوة الغيب وفي الثغر ابتسام
كيف لا يبسم من قبلته ... تنظم الأوطار طرا في نظام؟
وإذا قبلته مستضحكا ... في تخوم الكون والكون سدام
فهو سخري بالذي ودعته ... واغتباطي بمقامي حيث قام وهو نعيم قريب كنعيم الآخرة البعيد حين يقول:
أيها الباحث عن كوثره ... في السموات. لقد شط المزار
إنما الكوثر ثغر باسم ... من حبيب لك مأمون النفار
والوجه الجميل، هو (الصدق) في هذه الحياة، الذي ينفي عن النفس الريب والشكوك فيها
لك وجه كأنه طابع الصد ... ق على صفحة الزمان المئوف
إن يوماً يمر بي لا أراه ... هو يوم أعده في الريوف
وهو كذلك داعية الرجاء في هذه الدنيا، ومنبع التفاؤل والقبول:
أرى لك أنت فلسفة صراحا ... بلمح العين أقرؤها جميعا
أذم العيش في ألفي كتاب ... وتَعرضُ لي فأمدحه سريعا!
والجمال هو الفضيلة، أو الفضيلة هي الجمال:
شرعك الحسن. فما لا يحسن ... فهو لا يحلو وإن حل الحرام
ليس في الحق أثام بيّن ... غير مسخ الحسن أو نقص التمام
ما عدا هذين مما يمكن ... فاستبحه وعلى الدنيا السلام
ولهذا يحلل الجمال كل شئ، ويمنحه الفضيلة والعفة والثناء:
كل الثياب لمن يزي ... نُ ثيابَه عفٌّ حميد!
والجمال حرم مقدس يحترمه الخصوم والأصدقاء ويلقون لديه السلاح حيث لا تصنع ذلك المعاهدات و (عصبة الأمم) والشرائع والقوانين:
حرم بميدان الحيا ... ة وملجأ لا يعتسف
والجمال الإنساني يرقرق جمال الكون ويصفيه، ويظهره خلاصة نقية:
لا أرى الدنيا على نور الضحى ... حبذا الدنيا على نور العيون
هي كالراووق للنور فلا ... نور إلا صفوها العذب المصون
وهذا الجمال خلاصة جمال الدنيا، وخلاصة تجارب الحياة في مثل الكمال. وله في هذا قطعتان بارعتان: الأولى بعنوان (نشوء وارتقاء)، يتحدث فيها عن جميل كان مولده في الشتاء:
زانك الله بصفو ... وسلام يا شتاء طال بي فكر الليالي ... أو ما فيك عزاء؟
قال لي: هاك فخذها ... زهرة مني إليك
ذات حسن وحياء ... ولها فضل لديك
وسمت بالفكر فاقبس ... فكرة في راحتيك
قلت: حقَّا يا شتاء ... هي حسن وحياء
غير أني وهي صمت ... ليس لي فيها عزاء
قال: يرضيك إذن شا ... دٍ من الطير مجيد
هو للجنة يدعى ... وله منها نشيد
يعشق الليل وإن لم ... يك فيه بوليد
قلت: حقَّا يا شتاء ... هو حسن وغناء
غير أني وهو صوت ... ليس لي فيه عزاء
قال: يرضيك إذن سا ... رٍ من البرق بشير
يصدع الظلماء، يزجي ... عارض الغيث، ينير
فيه من قلبك نبض ... ومن اللمح سمير
قلت: دعني يا شتاء ... من شعاع في فضاء
أئذا جاد بغيث ... كان لي فيه عزاء؟
قال: والشمس فما ظن ... ك بالشمس ذكاء؟
كلما عدت بها سبّ ... ح عشاق السماء
قلت: حقَّا يا شتاء ... هي نور ورجاء
غير أني وهي صبح ... ما عزائي في المساء؟
قال لي: أنفدت كنزي ... كله بين يديك
غير ذخر من بني الإنس ... ان أبقيه عليك
فيه من صبح ومن لي ... ل قصارى غايتيك
أتراه؟ قلت: حقَّا ... هو في الدنيا العزاء
هو حب وحياة ... وربيع يا شتاء! من بني الإنسان في ذا ... ت شتاء ولدا
زينة للعين والل ... ب وللقلب بدا
طاهر كالمزنة البيضا ... ء صاف كالندى
كنبات الروض مفت ... ن الحلي جم الحياء
وارف كالظل مُحْيٍ ... في شذاه كالهواء
يا شتائي فيم إخفا ... ؤك هذا السر عني
أي روض أي برق ... أي شمس فيك أعني
أنا مستغن به عن ... ها فماذا عنه يغني؟
قد تعلمتَ وأيقن ... ت أفانين السخاء
منذ عشرين وخمس ... من سني الدهر سواء
تم عندي كل ما تع ... طي إذا تم العطاء
وجميل كل بدء ... ينتهي خير انتهاء
وجميل زهرك النا ... مي على هذا النماء
صدق العلم وقال ال ... حب حقَّا يا شتاء
سنة الزهر نشوء ... في المعاني وارتقاء
هذه قطعة لا أجدني مضطراً لشرح ما فيها من الجدة والطرافة، فوق الدلالة على فكرتها المقصودة، وفوق تناسقها الفني مع طبيعة الشتاء التي لا تمنح ذخرها إلا ذرة ذرة على ظن وبخل. فمن لم يحس هذا كله بمجرد قراءتها، فخسارة ألف خسارة أن نضيع الوقت في أن نخلق له إحساساً وما نحن بقادرين. وأما الثانية فبعنوان (الثوب الأزرق) وهي كزميلتها في الطرافة البارعة:
الأزرق الساحر بالصفاء ... تجربة في البحر والسماء
جرّبها (مُفصّل) الأشياء ... لتلبسيه بعد في الأزياء
مجوّد الإتقان والرواء ... ما ازدان بالأنجم والضياء
ولا بمحض الزبد الوضاء ... زينته بالطلعة الغراء
ونضرة الخدّين والسيماء ... ولمعة العينين في استحياء إن فاتني تقبيله في الماء ... وفي جمال القبة الزرقاء
فلي من الأزرق ذي البهاء ... يخطر فيه زينة الأحياء
مُقَبّلٌ مبتسم الأضواء ... مردّد الأنغام فالأصداء
وقبلة منه على رضاء ... غني عن الأجواء والأرجاء
وعن شآبيب من الدأماء ... وعنك يا دنيا بلا استثناء
وغير هاتين القصيدتين كثير من الحديث عن هذه الفكرة الصحيحة الطريفة مثل:
وكل ما في الكون من روعة ... لها نظير فيك حيّ جديد
بل أنت دنيا غير هذي الدنا ... وكل حب فيك كون وليد
ويقول عن القماريّ:
وللأناسي حسن لا أبوح به ... هل تعرف الطير ما حسن الأناسي
غنت لزهر وسلسال ولو رشفت ... ثغر المباسم جنت بالأغاني
لذلك فالكون حفي بهذا الجمال الإنساني فخور به:
فلو لم نولّ القلبَ شطرك لامنا ... على الجهل كون بالجمال فخور
ويتضح هذا في قصيدة (عيد ميلاد)
تهيأ الكون من قديم ... ليوم ميلادك السعيد
فعابد الكوكب العظيم ... أحيي ببشراك يوم عيد
ومولد (السيد) الرحيم ... وافقه المولد الجديد
يوم تهدَّي على المديح ... وزفه الخلد بالثناء
فالدهر في عمره الفسيح ... عوّده البشر والدعاء
والإله حفيٌّ كذلك بهذا الجمال، فقد تبارت الشفاه في مزاياها، وتقدم جبابرة العالمين يُدِلون بقوتهم ونادى العبقريون الملهمون بمزاياهم:
وأقبل سرب الظباء الملا ... ح رخيم البغام مليح الكحل
فقال وفي قوله لثغة ... كأنك ترشف منها العسل
لنا القول فيكم رجال الكلا ... م لنا القول فيكم رجال العمل
لمسنا شفاها ففاضت سنى ... وجرنا على جائر فاعتدل ومنا تذوقون طعم الحيا ... ة وهل طعمها غير طعم القبل
تسمونها قبلة واسمها ... رحيق الخلود وريا الأمل
فماذا تظنه كان رأي الإله الذي جلس ليحكم في المباراة؟
فأطرق ربهمو لحظة ... ونادى بأقربهم فامتثل
وقبّل مبسمه قبلة ... تضرم منها مكان الخجل
وقال: أجل! تلك أغلى الشفا ... هـ فأصغوا جميعاً وقالوا: أجل!
ومتى برز هذا الجمال الإنساني، فقد بطل كل جمال، حتى نظم الشعر الذي يستعز به العقاد، فهو يخاطب (جيرة البحر) بعد أن سماهن (المعاني الحية) وبعد أن قال لهن: إن الإله والبحر والشمس وهبوا لهن هبات وافرة:
ورأيت رفرفة النسي ... م على الجسوم الطائرة
فالآن ماذا تنظرون ... من النفوس الشاعرة
لم يبق في كنز الخيال ... بقية من نادرة
برزت معاني الشعر في ... ثوب الحياة الظاهرة
أنتم معانيه فما ... تغني النفوس الحائرة
أنتم عرائسه وها ... تيك المسارح عامرة
هيهات ما لممثل ... أو شاعر من خاطرة
ما الترجمان وتلك أسْ ... رار التراجم سافرة
فإذا بخلنا بالقصي ... د فعاذر أو عاذره
ومتى كان ذلك شأن الجمال الإنساني البارع، فهو يخاطب جميلا:
يغنيك حسن أنت لابس تاجه ... عن دولة السفاح والإسكندر
وما على الفنان إذن إلا أن يسمع نصيحته الشاعرة:
قسم حياتك بين حسن بارع ... يذكي الحياة وحكمة تنميها
ما في سوى الحظين من أمنية ... للمرء ينشدها ويستبقيها
وإنه ليعيش هكذا؛ وقد فهم الجمال، وعرف صنوفه، ولاحظه في كل جميل، وانتهى فيه إلى رأي، وعلم غاية الحياة منه وقصد الطبيعة فيه، على هدى وبصيرة هذه أبيات متفرقة أو قصائد كاملة عرضناها عرضاً سريعاً وهي ليست كل شئ في ديوان العقاد عن مجرد (تعريف الجمال) عنده، وهي وحدها ذخيرة نفسية وغزلية، لو قالها شاعر وسكت، لكان شاعراً كبيراً ممتازاً، وهي مع ذلك نصف (المقدمة) للكلام عن (غزل العقاد)!
وما من شك أن الإحساس بالجمال هكذا، عمل متعب عسير، غير ميسور لكل الطبائع، وهو في حاجة إلى طبيعة عميقة، ونفس فسيحة، وشعور واغل في قلب الحياة، يسمع نبضاته، ويحس آماله، ويستشعر أشواقه، ويشاركه خفقه وهو ينبض بالجمال
وقد استغرق هذا حديث اليوم كله، فأما رأي العقاد في (الحب) فسأتناوله في حديث آخر، وحينئذ نخلص إلى (غزل العقاد) في هينة واطمئنان
(حلوان)
سيد قطب