مجلة الرسالة/العدد 263/من الذكريات الجميلة
مجلة الرسالة/العدد 263/من الذكريات الجميلة
على ذكر الجدال في الشرق والغرب
عرفت في باريس عام 1925 الآنسة (فرناند) ابنة أحد القضاة في محكمة (ديجون). كانت طالبة بالسنة الأخيرة من كلية الحقوق، وكان لها بالمستشرق المرحوم (ب. كازانوفا) أستاذ الأدب العربي في الكوليج دي فرانس صلة قرابة أو صداقة، فعرفني إليها لتكون لي في مدينة النور ما كانت (بياتْرِكْس) لدانتي في جنة الفردوس
وكانت هذه الفتاة آية في الجمال والذكاء والظَّرف؛ وكان أعجب ما فيها أنها تؤلف في نفسها بين المتناقضات فلا يكاد النظر العادي يلحظ ما بينها من التنافي! فهي منطقية الفكر حرة العقيدة؛ وهي خيالية الذهن شاعرية العواطف؛ تؤمن بنيتشه كما تؤمن بالمسيح، وتقدس جمهورية الثورة كما تقدس مَلَكية البربون، وتُشيد بفتح العرب للأَندلس كما تشيد بغزو الصليبين للقدس، وتعجب بروحية الشرق كما تعجب بمادية الغرب، وتحدثك في ذلك كله حديث المطلع المقتنع الفاهم؛ فإذا أخذت عليها شذوذاً في قياس القضية، أو نشوزاً في سياق الحديث، عمدت إلى المزاح البارع أو التهكم اللاذع أو الأسلوب الخطابي فتميت على لسانك البيان، وتُطير من عقلك الدليل
أدهشني منها إلمامها بأدب العرب وحكمة الإِسلام وفلسفة الشرق. فلما عرفت اتصال سببها بالأستاذ كازانوفا وهو الذي جعل فنَّه أساطير الشرق وأدب القرآن، عزوت إليه هذا الميل وذلك العلم؛ وعرفت منها بعدئذ أنها كانت تستمع إلى محاضراته في التفسير ومسامراته في الآداب، وأنه أهدى إليها (حديقة الزهور) لصاحب المعالي الأستاذ واصف غالي، وأعارها ترجمة ألف ليلة وليلة لماردروس، فكان أكثر حديثها عن بغداد ودورها التي تفيض بالنعيم والسحر، وتنفح بالبخور والعطر، وتمرح بالقيان والغزل؛ وعن دمشق باب الجزيرة إلى الفردوس، وطريق البادية إلى الحضارة، وملتقى القبائل والقوافل في الخانات المملوءة بالسماسرة والتجار، والأسواق المحفوفة بالمغامرات والأسرار، والغوطة الفياضة بالجمال والحب؛ ثم عن مصر التي خلقت المدنية، وأنشأت الفن، وشرعت الدين، وولدت موسى، وآوت عيسى، وتوجت الملوك بالشمس، وكفنتهم بالخلود، ودفنتهم في الذهب. ثم كانت تتحرق شوقاً إلى النيل وأيامه المشمسة التي يضحك فيها القطن، ولياليه المقمرة التي يح بها النخيل. فكنت أقرن شوقها إلى مصر بالدعاء إلى الله أن يهيئ لهذا المحيا الفاتن أن يتفتح نظيراً في جوها الإِضحيان الطليق
أدينا الامتحان معاً؛ ثم أرسلت نفسي الحشيمة على هواها ومناها، فزرنا معابد الطبيعة في فنسين وسان كلو وفنتينبلو، وحججنا محاريب الفن في اللوفر والأوبرا وفرساي. وكنت يومئذ أترجم (رفائيل) فكان ما أقرأ وما أكتب وما أسمع وما أرى نَسَقاً عجيباً من الجمال والجلال والفن والشعر والحب والتأمل والاستغراق، لا يدع للخيال الوثاب مَسْبحاً، ولا للنفس الطماحة رغبة. ثم أحَمَّ الفراق فرجعتُ إلى مصر ولحقت هي بأهلها في مدينة (رويَّان)
وكان بيني وبينها رسائل مسكية المداد، وردية الورق، تؤلف كتاباً من شعر القلب والعقل تناول فيما تناول الفروق الناشئة بين الشرق والغرب من اختلاف وجهة نظريهما إلى الحياة، إذْ هي في نظر الشرقي دار ممر، وفي نظر الغربي دار إقامة
وفي فبراير من عام 1928 زارت مصر هي وزوجها، وهو ضابط فرنسي كان في طريقه إلى عمله في جيش سورية؛ فكنت لهما ترجماناً ودليلاً مدى أسبوعين إلى مخلفات الفراعين، وطلول الفسطاط، وقطائع ابن طولون، وقاهرة المعز. وسنحت الفرصة المرجوة فاجتمع القلبان والذوقان على فتون الشرق الحبيب. ورأيت من (مدام روجيه) عزوفاً قوياً عن الشوارع الأوربية في مصر الحديثة، وولوعاً شديداً بالتجوال في الغورية والنحاسين والجمالية وخان الخليلي، وشوقاً ملحاً إلى استطلاع المجهول، واستكناه الغامض، واستخبار الناس، واستحضار الماضي. وكانت كلما أوغلت في هذه الأحياء، واستبطنت دخائل هذه الأشياء، شعرت بالحاجة إلى زيادة الإِيغال وإطالة النظر وإدامة التقصي، كأنما كانت تبحث عن شيء تعتقد وجوده ولا تراه، ثم قالت ذات مساء وهي على شرفة القلعة تشاهد مغرب الشمس من وراء الأهرام:
رباه!! إن من وراء هذه الآثار التي أجهدها الدهر، وهذه المآثر التي شوهها الجهل، وهؤلاء الناس الذين مسخهم الفقر، لروحاً خفية تبعث من خلال هذه الأغشية الكثيفة هذا الشعاع اللطيف الذي يشرق في هذه الوجوه الشقية المحرومة فيبدد عنها كُرَب العيش
هذه هي روح الشرق الإِلهية المجهولة، فمن زعم أنه يحكم عليها من وراء هذه الأخلاق المنحلة، والنظم المعتلة، والمشاهد الزرية، كان كالذي لم ير الشمس ثم يحكم عليها من وراء الغمام والقتام والبعد! اجلوا عن هذا الروح العظيم هذه الغشاوة، واكشفوا عن هذا الجوهر الكريم هذا الرغام، ثم اجعلوه إلى جانب الغرب الخلاق بالعلم، البراق بالصنعة، واحكموا بينهما فلعلكم بذلك تكونون أدنى إلى السداد
أحمد حَسن الزياتْ