انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 26/من الأدب الفارسي

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 26/من الأدب الفارسي



إيوان كسرى بين التاريخ والشعر

للدكتور عبد الوهاب عزام

المدائن أو مدائن كسرى اسم لطائفة من المدن قامت على جانبي دجلة في عهد الدولة الساسانية. أعظمها على الشاطئ الشرقي طيسفون، وتخص باسم المدائن في التاريخ الإسلامي. وهي محلتان: المدينة العتيقة إلى الشمال وهي مدينة قديمة قامت قبل عهد الساسانيين وكان بها القصر الأبيض الذي بناه بعض المتأخرين من الاشكانيين أو الأوائل من الساسانيين، والمحلة الجنوبية تسمى اسفانبر وكان بها القصر الذي عرف عند العرب باسم (إيوان كسرى) ويظن أن بانيه سابور الأول (241 - 272 م)

وقد اضمحلت المدائن على مر الزمان حتى لم يبقى منها في القرن السابع الهجري إلا قرية صغيرة حملت هذا الاسم العظيم، يقول ياقوت: (فأما في وقتنا هذا فالمسمى بهذا الاسم بليدة شبيهة بالقرية بينها وبين بغداد ستة فراسخ. وأهلها فلاحون يزرعون ويحصدون والغالب على أهلها التشيع على مذهب الإمامية) وليس في موضع المدائن الشرقية اليوم إلا قرية صغيرة جداً فيها مسجد سلمان الفارسي رضي الله عنه على نحو 30 كيلو إلى الجنوب الشرقي من بغداد.

وعلى مقربة من هذه القرية التي تسمى (سلمان باك) أي سليمان المطهر، يرى اليوم (طاق كسرى) وهو الذي سماه العرب والفرس في العهد الإسلامي إيوان كسرى أو إيوان المدائن. وهو بقية من بنية عظيمة بناها سابور الأول وعمرها كسرى أنوشروان وتدل الخرائب حول هذا الطاق أن البناء كان 400 متر في عرض 300، ويظن أن البناء كله بقى إلى عهد العباسيين، وأن المنصور أو الرشيد حاول أن يهدمه ثم كف عنه. ثم تعاورته غير الزمان حتى لم يبق منه في القرن السابع الهجري إلا الإيوان. يقول ياقوت في الكلام عن الإيوان: (رأيته وقد بقى منه طاق الإيوان حسب) وقد بقى هذا الطاق وجناحان من البناء على جانبيه يمتدان زهاء مائة متر إلى زمن قريب. ثم انقض الجناح الشمالي (5 أبريل سنة 1888 م) وبقى الإيوان وجناحه الأيسر. وظاهر من بقية هذا الجدار أن علوه كان نحو 25 مترا وأن القصر كان ذا ثلاث طبقات. وقد سقط بعض سقف الطاق وجداره الخلفي وبقى معظم العقد والجداران الجانبيان في علو وجلال يرتاع لهما كل زائر، وقد زرت بقية الأحداث من هذا الإيوان يوم الاثنين 22 رمضان سنة 1349 في بعثة كلية الآداب من الجامعة المصرية فشهدت جلاد الزمان والإنسان، وتخيلت الطاق نسرا قشعما أنحت عليه الخطوب فحصت ريشه وذهبت بجناح، وهاضت الآخر ولكنه بقى متجلدا مستكبرا يقلب عينيه في لوح الجو محاولا أن يسمو إلى ملكه الواسع في عنان السماء. وصدقت قول البحتري:

فهو يبدي تجلدا وعليه ... كلكل من كلاكل الدهر مرسى

وأما القصر الأبيض أو أبيض المدائن فقد هدم في عهد المكتفي بالله العباسي سنة 290 وبنى بأنقاضه قصر التاج، ولكن كثيرا من المؤخرين يخلط بين الإيوان والقصر الأبيض كما يتبين من معجم البلدان وغيره

رويت في إيوان كسرى أشعار ذكر بعضها ياقوت في معجم البلدان. ومنها بيتان خطهما على الإيوان الملك العزيز جلال الدولة البويهي:

يا أيها المغرور بالدنيا اعتبر ... بديار كسرى فهي معتبر الورى

غنيت زمانا بالملوك وأصبحت ... من بعد حادثة الزمان كما ترى

وأعظم ما نظم في الإيوان قصيدتان: قصيدة البحتري وقصيدة فارسية نظمها الخاقاني الشاعر الفارسي المتوفى سنة 595 والبحتري يذكر في قصيدته ثلاثة أسماء: أبيض المدائن، والإيوان. والجرمان. والظاهر ان ابيض المدائن في شعره غير الايوان، وإن خلط المؤرخين بينهما، وكأن هذا الخلط كان بعد عصر البحتري وبعد أن هدم الخليفة المكتفي القصر الأبيض سنة 290. فالبحتري يصف في قصيدته أبنية عدة لا بناء واحدا.

وقراء العربية يعرفون سينية البحتري، فلا حاجة إلى إثبات بعضها هنا. وحسبي أن أترجم قصيدة الخاقاني. ويرى القارئ أن الشاعر اقتصر منها على الرثاء والبكاء ولم يصف وصف البحتري وقد حذفت منها بضع أبيات بنيت على جناسات، ورموز مألوفة في الفارسية ولا يمكن نقلها إلى العربية نقلا معجبا:

هيا أيها القلب المعتبر أنعم النظر، فما إيوان المدائن إلا مرآة العبر. عرج عن طريق دجلة إلى المدائن للذكرى، وأسل على تراب المدائن دجلة أخرى. إن دجلة لتبكي حتى تحسبها مائة دجلة من الدمع القاني - وانه لدمع نقطر به الاهداب نارا. هذه دجلة تضرم قلبها الحسرات، فهل سمعت بماء تحرقه الجمرات؟ أسعد دجلة بالبكاء كل حين، واجعل لها زكاة من دمعك وان يكن البحر يأخذ الزكاة منها. لو مزجت دجلة آهاتها بحرقة قلبها لا نقلب نصفها جمدا، ونصفها للنار موقدا هلم فناد الإيوان بلسان الدمع حينا بعد حين فلعل قلبك يستمع جواب الإيوان الحزين. ان هذه الشرفات لا تفتأ ترسل إليك العظات فأصخ واحسن الاستماع إليها: إنها تقول: أنت من التراب، ونحن هنا من ترابك، فامنحنا بعض خطواتك، ولا تبخل علينا بعبراتك. إن برءوسنا صداعا من نعيب البوم فهات من دمعك الجلاب، وخفف عنا هذه الهموم. قد كنا مجالس للعدل وقد أصابنا من جور الزمان ما ترى، فكيف بقصور الجائرين ماذا أعد لها من النوائب؟ ما الذي نكس هذا الإيوان الذي يحاكي الفلك؟ احكم الفلك الدائر، أم قضاء مدير الفلك القادر؟

أيها الضاحك من عيني الباكية! تقول ما يبكيه ها هنا. إن العين التي لا تبكي هنا جديرة أن يبكى عليها. هلم فتمثل الإيوان والكوفة معا، ثم سعر من القلب تنورا وأفض من العين طوفانا. . . ذلك الإيوان الذي نقشت خدود الرجال على تراب عتبته جدارا من الدمى والصور. وتلك هي السدة التي كان يقف بها ملوك الديلم وبابل، والهند والتركستان. تصور ذلك العهد، وانظر بعين الفكر تر الصفوف مترادفة، والمواكب متزاحمة.

لا تعجب فليس عجبا أن ترى في بستان هذه الدنيا أسراب البوم بعد البلابل، وزفرات البكاء بعد ألحان الغناء. . . . سكرى هذه الأرض، فقد شربت مكان الخمر دم قلب أنوشروان في كأس من رأس هرمز. تقول أين ذهب أصحاب التيجان واحدا إثر واحد. فانظر فهذه الأرض حبلى بهم إلى الأبد. . . ان دم قلب شيرين هذه الخمر التي تشربها، وهذا الدن الذي يضعه الدهقان ماء برويز وطينته. كم ابتلع هذا التراب من أجساد الجبابرة ثم لا يزال نهما لا يشبع. .!!

إن القادمين من السفر يأتون بالهدايا لإخوانهم. وهذه القصة هدية إلى قلوب الأخوان. يا خاقاني استجد العبرة على هذه الأبواب ليقف الخاقان مستجديا على بابك. اهـ

عبد الوهاب عزام