مجلة الرسالة/العدد 26/الكتب
مجلة الرسالة/العدد 26/الكتب
هدية الكروان
مجموعة أشعار للأستاذ عباس محمود العقاد
كلمة تقدير ونقد للأديب عبد الرحمن صدقي
بات العقاد يصغي لهتفات الكروان في الليالي الحسان السواحر، ويتطلع إلى مجال الربيع من زهر وعطر، ويتملى بجمال الحياة من حب وحسن، ويخف لشباب النفس من عطف وبشر. ومن هذه جميعا اقتبس مجموعة أشعاره الجديدة (هدية الكروان). وهي وان لم تكن جميعا منظومة في مناجاة الكروان، إلا أنها في موسيقيتها كأنما تعارض الكروان وتساجله.
هذه خلاصة قولي في الديوان الأخير. وهذه الخلاصة نفسها مقتبسة من مقدمة الديوان نفسه نظما ونثرا! ولا عجب فالعقاد جبار لا يكاد يدع بعد مقاله مجالاً لقول قائل
ولقد عرض الشاعر في مقدمته المنثورة لطائره الصيدح في كلمات مشرقة ناصعة البيان، رخيمة الحواشي مصقولة الأطراف كحب الجمان، غنية بالمعاني الصادقة. قال:
(تسمعه الفينة بعد الفينة في جنح الليل الساكن النائم البعيد القرار، فيشبه لك الزاهد المتهجد الذي يرفع صوته بالتسبيح والابتهال فترة بعد فترة، ويشبه لك الحارس الساهر العساس الذي يتعهد الليل بالرعاية بين لحظة ولحظة. وينطلق بالغناء في مفاجأة منتظرة أو انتظار مفاجئ فلا تدري أهي صيحة جذل أم هي صيحة روعة وإجفال. ولكنك تشعر بالجذل والروعة والإجفال تتقارب وتتمازج في نفسك حتى لا تتفرق. كأنك تصغي إلى طفل يرتاع وهو جذلان، ويجذل وهو مرتاع، ويطلب الخطر ويشتهيه لأن الخطر في حسه طرافة وحركة، فهو من عالم التفاؤل والإقبال لا من عالم التشاؤم والنكوص
(ويطلع عليك بهتافه من هنا وهناك وعن اليمين وعن الشمال وعلى الأرض وفوق الذرى. فيخيل إليك أنك تستمع إلى روح هائم لا يقيده المكان ولا يعرف المسافة، أطلقوه في الدنيا على حين غرة فسحرته فتنة الدنيا وخلبته محاسن الليل فهو لا يعرف القرار ولا يصبر في مطار)
(فأنت تتلقى من صوت هذا الطائر الأليف النافر عالما من معان وأشجان يتجاوب فيه تقديس المصلي القانت وحدب الحارس الأمين وروح الطفولة ومناجاة الخطر المقبول وهيام الروح المنهوم بالحياة والجمال: عالم لا نظير له فيما نسمع من غناء الطير بهذه الديار)
هذا الوصف الرائع من العقاد لا يفوقه موسيقية وجيشانا، ولا يدق عنه معنى واحساسا، ولا يزيد عليه تصرفا وافتنانا إلا نظم العقاد.
وأشعار (هدية الكروان) كسابقها في وحي الأربعين، تنزع إلى الموسيقى في تقطيع أوزانها وعذوبة نظم ألفاظها ولطف وجدانياتها. تخلق حولك جوا من الموسيقى الرفيعة الساحرة تشيع روحها وتشيع حتى تملأ عليك الفضاء وتملك منك المشاعر، وحتى لتحس ان الموسيقى ليست لشعره أداة تعبير فحسب، بل هي عنصره الصميم
وأظهر ما تظهر هذه الميزة في أنشودة (ما احب الكروان) فقد افترق الشاعر وصاحب له فتراه يواعده النجوى واللقاء على البعد عند سماعها هتفات الكروان:
ما أحب الكروان!
هل سمعت الكروان؟
موعدي يا صاحبي يوم افترقنا ... حيث كانت جيرة أو حيث كنا
هاتف يهتف بالأسماع وهنا ... هو ذاك الكروان! هو هذا الكروان!
الكراوين كثير أو قليل ... عندنا او عندكم بين النخيل
ثم صوت عابر كل سبيل ... هو صوت الكروان! في سبيل الكروان
لي صدى منه فلا تنسى صداك ... هو شاديك بلا ريب هناك
فإذا ما عسس الليل دعاك ... ذاك داعي الكروان، هل أجبت الكروان؟
مفرد لكنه يؤنسنا ... ساهر لكنه ينعسنا
واحد أو مائة ترجعه ... عندنا أو عندكم مطلعة
ذاك شيء واحد نسمعه ... في أوان وبيان، هو صوت الكروان
واحد بين عصور وعصور ... نحن نستحي به تلك الدهور
لم يفتنا غابر الدنيا الغرور ... في أوان الكروان، ما احب الكروان
وقد ألم الشاعر ببضع لمسات من ريشته المنغومة في خفة وإيجاز بليغ بحركة الكروان وطفراته في مطاره، وسرعة انتقاله هنا وهناك في الفضاء الداجي، فلا تكاد تسمعه من بعيد إلا ويصبح أقرب قريب، ولا تكاد تقول مع الشاعر: هو (ذاك) الكروان حتى تردف كما أردف: هو (هذا الكروان وحتى تجمل معه هذين معاً فتقول: هو صوت عابر كل سبيل
ولما كانت هذه الأنشودة من مستوحيات الإلهام في لحظاته النادرة، فقد اجتمع فيها ما توسع الشاعر في تنويعه وترجيعه في غيرها من القصائد الجزلة والأناشيد المطربة. وتطيب لنا الإشارة إلى مواضع هذا الترجيع تنويها بطبيعة الشاعر المطبوع الذي يعيش في معانيه! وتعيش معانيه في منبت مريع التربة خصيب فهي لا تني فيه أبداً متفتحة نامية، وأنفاسها أبداً خفاقة مرددة، وحرارتها أبداً مذكوة متجددة.
فلا غرو إذن إذا رأيت هذه الإشارة إلى طفرات الكروان يرددها الشاعر بين آن وآن، موضحا موكداً:
بينا أقول هنا، إذا بك من هنا ... في جنح هذا الليل أبعد باعد
لوددت يا كروان لو ألقيت لي ... صوتين منك على مكان واحد
وكما المع الشاعر في أنشودته إلى أنك لا تدري عند سماعك هتافات الكروان المتقطعة المنتقلة المتشابهة، أهو واحد أو مائة، فقد ترنم بهذا المعنى في مقطوعة صغيرة هزجة النبرات متجاوبة الأصداء
ألف صدى لهاتف ... منفرد على الذرى؟
أم ألف شاد رددت ... هتافها مكررا؟
أم ذاك روح أطلقو ... هـ في الدنى محيرا
فردوها مستغربا ... وطافها مستبشرا
فلا يقال مقبل ... حتى يقال أدبرا؟
هن كراوين الليا - لي أو فقل هو الكرا
وفي عزلة هذه الليالي الساجية يساهر شاعرنا هذا الطائر الساهر، ويأنس به ويصغي لدعواته، وقد يهفو أحيانا على جناح الفكر، فيذكر الطيور المغردة في الفجر فيجري على لسانه:
لهجت طيور بالضحى وتكفلت ... بالليل حنجرة المغني الخالد ثم تأخذ الشاعر النشوة وأي نشوة، ويهز أعطافه الطرب وأي طرب، فيغني طائره المغني أمتع الغناء وأعذبه:
الليل يا كروان=بشراك طاب الأوان
بشراك؟ بل أنت بشرى ... تهفو لها الإذان
ان كان في السمع طيف ... فأنت يا كروان
صوت ولا جثمان ... لحن ولا عيدان
كأنه هاتف في ... فضائه حيران
أو رجع صوت قديم ... يعيده الحسبان
ليل الطبيعة صمت ... وأنت فيه لسان
وظلمة الليل سر ... فاقرأه يا ترجمان
واملأ من الليل نفسا ... عزيزة لا تهان
لا هتفة فيه تبقى ... إلى غد أو إذان
الليل يا كروان ... والعالم الغفلان
ونسمة الصيف تسري ... وفي يديك العنان
والصبح أول مرسى ... يرتاده الركبان
الليل يا كروان! ... الصبح يا كروان!
وهنا يحسن بي الصمت هنية تاركا في سمعي ومسامع القراء، وفي نفوسنا المتضعضعة السكرى جميعا، هذه الأصداء المشجية والمعاني السرية المجلوة
ننتقل بعدئذ إلى بقية الديوان، لا للكلام عنه - فأن الشعر الغنائي حظه الأجدر به الإنشاد والتطريب، لا المبالغة في الدرس والتنقيب - وإنما لنومئ إيماءة المعجب المسحور بطرف البنان، إلى بعض المقطوعات الغرر الحسان، أمثال: - جمال يتجدد - بما فيه من فلسفة للحب عميقة الأثر غنية. .، - واليوم الموعود - للمحب المشوق إليه شوق لاعج يتعجله الأيام، ولو اختلت سيرة الشموس، وانفرط نظام الدهر. . . .، و - الثوب الأزرق - وهو آية في الطلاوة وظرف الهندام وملاحة القالب،. . . و - الحب المثال - وقد خلعت المحبة بقدرتها الخالقة على كيان المحبوب شتى السمات والشكول، كلما اقترح الخيال المتفنن، وهفت بدوات الهوى المتقلب، وخيلت مقادير الأحلام. .، و - قبلة من غير تقبيل - ما للمجتمع عليها من رقابة، ولا له إليها من سبيل. . .، وذلكم الإحصاء المنمق البديع بعنوان - تسلم - وبمقتضاه يسلم الشاعر المهجور محاسن الدنيا ومجالي فتنتها لهاجره، ويسردها بين يديه، في يوم عودته كما خلفها يوم قطيعته، فالشاعر لم يفد منها متعة ولا معنى، ولم يعرف لها استعمالا، كأنما كانت الدنيا هامدة واقفة الحركة أثناء هذه الغيبة المريرة. .، ثم - حلم اليقظة - و - كلماتي - و - بلدي - و - سريان روح - و - صنوف الحب - وهذه جميعا كما ترى أغاني حب ترى فيها الشاعر عاكفاً على الجمال كأنه العابد المتبتل، يمسح بيده الملتهبة على تمثاله، ويتدله في لثمه وتقديسه، ومع هذا الاستغراق من الشاعر في حسه، وتهالكه على حبه، فليس في غزله أثر للترقق المخنث، والاسترخاء المهين والتباكي الهازل، كما أن هذه العبادة الوثنية في الشاعر للأشكال المحسوسة والصور المفرغة، مقرونة على الدوام بالتصعيد المعنوي والتجريد الروحي، فلا محسوس عنده إلا يشف عن معنى ويقوم رمزا على فكرة، ولا معنى عنده إلا يبرز في محسوس ويتجسد فيه
وهاكم ما يقوله صاحبنا نفسه في ما يسميه - الفن الحي أو الحياة الفنية -:
خذ من الجسم كل معنى، وجسم ... من معاني النفوس ما كان بكرا
حبذا العيش يبدع الفكر جسما ... ويرى للحياة فناً وشعرا
ويرى الفن كالحياة حياة، ... ويرى للحياة فناً وشعرا
ضل من يفصل الحياتين جهلا، ... واهتدى من حوى الحياتين طرا
ونحب، ونحن بمعرض الإشارة إلى أغاني الغزل، أن نعرض تحت أنظار شاعرنا الكبير أن بعض المقطوعات كالمنديل والفنجان والرقية وساعي البريد لا تقع في نفوسنا موقع سائر أغانيه، ولسنا نجهل أن من بين شعراء الشرق والغرب من عالجوا أمثال هذه العادات الشعبية والمواضيع الدارجة في شعرهم ولكنها بعد دون العقاد، وتناولها على هذه الصورة فيه ترخص ظاهر
ونزيد بهذه المناسبة - أن بالديوان منظومة عن البيرة على لسان طفل، وهي في وهمنا وبحسب ذوقنا محسوبة على الفكاهة ولا فكاهة فيها، وليست من الفكاهة في قليل ولا كثير،. ونحن نعرف للعقاد غيرها كثيرا أبدع في نوعه منها وأفكه، وقد ترفع الأستاذ عن نشرها وحق له هذا الترفع.
ونحسب في تعليل ما تقدم أن سهولة النظم، وسرعة استجابة اللفظ، ولين أداة التعبير في قبضة صناع اليدين مثله، جعلته ينظم كل خاطرة ترد على ذهنه في شتى المناسبات. ولو أنه يعاني في النظم صعوبة وعنتا لأدخر الجهد الناصب لما هو أولى به من موضوعات وأحاسيس احتضنها ورخم عليها طويلا كعهدنا به أبدا. على أنه من حق الشاعر الكبير الذي يرضينا بنيف ومائة وخمسين صفحة أن يكون له رأيه وحريته في بضع صفحات، إذا هي لم ترعنا فلعلها ترضي الآلاف من قرائه ذوي الفضل، وترضيه هو من ناحية فنية لم نعرفها بعد، أو لما يعلق بها عنده من ذكريات شخصية غإليه
بقيت كلمة إعجاب بقصيدتين إلى صديقين يوجه في إحداهما تهنئة وفي الأخرى تقريظا وفي هذه الأخيرة يقول في وصف نفس صديقه:
جبلت كالفراش في أمة الط - ير خفوقاً بين الندى والضياء
واستوت في الحياة فوق جناح ... مستطار الخطى رقيق الغشاء
ولا شك في انه لم توصف نفس بأجمل من هذين البيتين بغض النظر عمن قيلا فيه
كما ان قصائد (تجريبي) و (يوم شتاء) و (القديس) تلفت قارئ الصفات والتأملات كل منهما بصفة متميزة، لاسيما (القديس) فهي مطوية على ليل سر عميق. وأخيراً (ليالي رأس البر) وهي من القصائد الخوالد تنبه فينا تلك الحالة النفسية الغامضة، التي نحس فيها اتصال مشاهد هذا العالم المشهود بمعاني العالم المستور، وقد اختار لها الشاعر وزناً طويلا، وقافية كأنفاس الحالم الممدودة فكأنما يسري القارئ منها في عالم النسيان والرضوان
حقاً هو كتيب صغير ولكنه ديوان كبير
عبد الرحمن صدقي
المآسي في الجمال والشعر والحب
للأستاذ الحوماني
قبل أن أتحدث عن هذا الكتاب القيم يجدر بي أن أتقدم بالشكر إلى الأستاذ الجليل صاحب الرسالة فقد هداني به إلى نوع من الأدب طالما تمنيت أن يجري على لسان عربي وإلى لون من الجمال والفن كثيراً ما نزعت نفسي إليه، حتى ألقيته اليوم بين دفتي هذا السفر الجليل.
ترى الكتب أنماطا مختلفة، فمنها ما يعتمد على زخرف القول ويستند إلى الدجل والتمويه، فلا تكاد تظهر حتى يذهب الزمان بما حوت من بهرج زائف، فتصبح كأن لم تكن بالأمس، كالفقاقيع لا تكاد تظهر حتى تنطفئ. ومنها ما يصدر عن القلب فيفيض بخلجات النفي، ويجيش بنزعات الوجدان ويزخر بخطرات الضمير: ومصير هذا النوع إلى الخلود، لأنه والحياة شيء واحد فيبقى ما بقيت الحياة.
وكتاب الأستاذ الحوماني من هذا النوع الخالد فهو مرآة صافية رفعها الكاتب الفذ فانعكست فيها الطبيعة، بما حوت من ضروب الفن وضروب المذاهب.
يقع بصرك على الكتاب فتحس أن له شخصية ممتازة، فهو مطبوع طبعا جيداً، وهو كما ترى من عنوانه سلسلة من المآسي، ولقد حليت زوايا غلافه بخطوط عريضة سوداء قوية الإشارة واضحة الدلالة، وتوسطت هذا الغلاف الأنيق صورة نقشتها ريشة ماهرة لفتاة بارعة الجمال تنحدر الدموع من عينيها الواسعتين الضارعتين وقد اشتبكت يداها على صدرها في شكل يحرك القلب ويثير الشجن. أما الوجه فانه مزيج مدهش من الجمال البارع والعفاف الوادع والالم اللاذع، وتحت هذه الصورة نقش اسم (أمل) بطلة القصة ومحور الجمال فيها.
وهي قصة قوية إذا بدأتها فلن يشغلك عنها شاغل ولن تضعها حتى تتمها، وهي إلى جانب ذلك مؤثرة إلى أقصى حدود التأثير، لا يتمالك ذو العاطفة الحساسة دمعة حين قراءتها ومؤداها أن خالدا ذلك البطل العربي، رحل عن بلاده الشام حين عافت نفسه الأبية أن تقيم على الضيم، فهبط الحجاز وأقام هناك زمناً في ضيافة عربي كريم هو الشيخ أبي وسيم، ولقد كان هناك موضع حفاوته وحفاوة ابنه وسيم. وسرعان ما أحب وسيما واحبه وسيم.
ماتت زوجه وهو بعيد عنها وبقيت ابنته أمل تعاني بؤس الحياة، وكانت تحب ابن عمها (ناظما) وكان يحبها، ولكنه كان فتى طائشا يطلق العنان لشهواته ويفهم من الحب غير ما تفهم أمل، فحبب إليها المجون ورغبها في التبرج والخلاعة، ولكنه فشل في إغرائها ورحل إلى بيروت حيث اللهو والمجون فلما علمت بذلك ابنة عمه تبعته لترى بنفسها ما ينغمس فيه من المفاسد، فرأته هناك من حيث لا يراها يغازل فتاة من بنات الهوى تدعى جوزفين فبرح بها الألم وكتبت إليه تلومه، ولكنه رد عليها ساخرا، وكرر الدعوة إليها لتحيا معه هذه الحياة. وفي تلك الأثناء كان أبوها في طريقه إلى بلده دمشق فقضى نحبه على مقربة من العقبة، ولقد ترك خطابين أحدهما لابنته والثاني لوسيم، وأوصى بأن يسلما إليهما في وقت واحد، وهرعت أمل إلى قبر أبيها هالعة جازعة والتقت هناك بوسيم واكبا على القبر يبكيان فلما أفاقا وجد كل منهما في صاحبه ضالته فربط الحب قلبيهما برباط وثيق. وحملها وسيم إلى التهامي. وأخذ ناظم يرسل إليها الخطابات يستحلفها ويعلن التوبة بين يديها فسافرت لتراه قبل موته وهو على فراش المرض فلم تكد توافيه حتى اسلم الروح وبكته ابنة عمه ولبست الحداد وأقامت بدمشق أياما. وهنا شبت نار الحرب بالبلاد العربية واشترك فيها وسيم، وجعل يدون مذكراته عن حبه ويشاء القدر الساخر أن يذهب ضحية الزلزال وهو يبحث عن أمل بعد أن وضعت الحرب أوزارها فحملت مذكراته إلى أمل البائسة.
أخاف أن يذهب هذا التلخيص بجمال القصة وأدعو الشبان مخلصا إلى قراءتها في إمعان. فليس جمالها في حوادثها فحسب بل فيما، تفيض به من دروس وعبر، وأحاديث عن الجمال والشعر والحب ووصف شائق للكون والطبيعة، كل ذلك في تعمق وخبرة وبعد نظر أما أسلوب الحوماني فهو ذلك الأسلوب العربي المتين، دقيق العبارات موسيقي الوقع مشرق، الألفاظ؛ قوي المبنى، واضح المعنى حتى ليعد في ذاته ناحية هامة من نواحي الجمال في الكتاب ولو ضيق المقام لأوردت بعض عبارته على أنني لو فعلت ذلك لاضطررت إلى إيراد الكتاب كله، فهو قطعة متسقة من الفن.
أما بناء القصة فقد سار فيه المؤلف على نهج فريد، فابتدأه بأن ترك كل فرد يتناجى ونفسه بعيدا عن بقية الأشخاص، ثم أخذ بعد ذلك يسرد الحوادث حتى اختتم الكتاب، بمذكرات وسيم وبتلك المفاجأة المؤلمة التي حملتها فريدة الوصيفة إلى سيدتها أمل. ولقد أضاف هذا إلى الكتاب قوة ونجاه من السامة الملل.
وأني أتقدم بخالص التهنئة إلى الأستاذ الحوماني راجيا إياه ان يزيد الأدب من نفثاته الرائعة التي تعد مفخرة للعربية وأهلها
محمود الخفيف
الوصية
هذه القصة التمثيلية التي تقع في فصل واحد ذي ثلاثة مناظر والتي ألفها ج. م. باري، قد نقلها إلى العربية الأستاذ خطاب عطيه
أما القصة فهازلة، تريك رجلا يصطحب زوجته إلى مكتب محام ليوصي لها بكل ما يملك بعد موته، مع انه لا يملك شيئا. ولكن شاء الدهر أن تنمو ثروة الرجل وتطرد في النمو، وكلما ازدادت نماء سارع إلى تعديل الوصية حتى تلائم موقفه الجديد، وظل كذلك يحرص على تأكيد الوصية بما له إلى زوجته حتى رزاءه القدر بموتها! وإذن فلابد أن يقلب الوصية رأسا على عقب، ولكن من ذا عسى أن يظفر بتلك الثروة الضخمة؟ انه يفكر أن يوصي بها إلى ستة رجال كانوا قد نازلون في ميدان الجهاد فصرعهم! ولكن ظرفا طارئا قد انعرج به عن هذا التفكير السقيم، واعتزم من فوره أن يبذلها في سبيل المرضى الذين يذهبون ضحية الفقر والإهمال. وهكذا أراد الكاتب إلا تكون الوصية لأشخاص الفناء، بل انتهى بها إلى عمل الخير لأنه خالد لا يزول
والأستاذ خطاب يشكر لنقله هذه القصة إلى العربية لأغذاء قراء العربية بمحصول جديد، كما أعان طلاب السنتين الرابعة والخامسة الثانويتين لأنها مقررة في منهجهم الدراسي. ولكن هل يسمح لنا بأن نأخذ عليه عبارته الركيكة الضعيفة التي بلغت من الإسراف في الركة والضعف حد الارتباك والتعقيد وحتى تمنيت في كثير من المواضع أن يكون إلى جانبي الأصل الإنجليزي لأستعين به على فهم الترجمة العربية! ولا شك في انه قد أساء بذلك بعض الشيء إلى الأدب الذي نقل عنه واللغة التي نقل إليها
ز. ن. محمود