مجلة الرسالة/العدد 26/استدراك

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 26/استدراك

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 01 - 1934



كتب إلينا الأديب محمد حسنين احمد يلاحظ على عبارة وردت في مقالة (فلسطين) المنشور في العدد الماضي بقلم مستر كنيث وليمامس، يستفاد منها أن مستر لويد جورج كان رئيسا للوزارة البريطانية قبل الحرب، ويقول ان الحقيقة ليست كذلك، والواقع ان هذه العبارة وردت بنصها في مقال الكاتب الإنجليزي ونقلتها الرسالة مترجمة كما وردت. وهي سهو من الكاتب بلا ريب، لان لويد جورج كان قبيل الحرب وزيرا للمالية في وزارة مستر اسكويث، ثم كان في بداية الحرب وزيرا للذخائر في هذه الوزارة أيضا ولم يتول الرياسة إلا في ديسمبر سنة 1916. والمرجح ان كاتب المقال يقصد (أثناء الحرب) (لا قبل الحرب)

العلوم

في النبات، وحشة وأنيسة

للدكتور أحمد زكي

كلما كثر السكان وضاقت المناطق العامرة بالناس، نزحوا عن أوطانهم طلب الوسعة في الأرض وما يستتبعها من الوسعة في العيش، والاستعمار دأب الإنسان من قديم. إلا أن صفات العصر وأساليب الوقت في مرافق الحياة كانت تؤثر فيه فيتئد حينا ويسرع حينا. فلما كانت الدواب وسيلة التقلب في جَنَبات اليابسة، والشراُع حامل الإنسان على ظهر المائعة ودفاع الإنسان لما يلقى من وحش جائع وناب كاشر سيفاً ورمحا، وأدائه في تذليل الأرض مِعولا وفأسا، وسقايته لها رهينة بما يجد عفوا من نبع يتفجر أو نهر يزخر، أو مطر يهطل حينا ويمتنع حينا، وعلمه بزراعتها علما يسيرا علمته إياه التجربة المبتَدَهة والأخطاء المتكررة، كان استعماره للأرض بطيئا، وانتشار الجنس الإنساني على هذه الكرة محدودا. وكان يزيد في بطئ استعماره وقلة انتشاره ما في طبيعته من حب ارتباط بأرض ألفها ومهابط اعتادها، وذكرى لماضيه أوثقها بحاضره، وعادة يسرت حاضره فأمل اضطرادها في تيسير مستقبله، أما وقد تغيرت صفات العصر وتبدلت أساليب العيش، فأصبح البخار دابته على اليابسة والمائعة، والبنزين مطيته يشق به الأرض ويفلق الهواء، واصبح دفاعه الحديدَ الصارخ والجمر الطائر، وأداته في تذليل الأرض المكنات الكثيرة تديرها الأكف القليلة، وسقايته لها ترتبط بإرادته أكثر من إرادة الماء، وترتهن بهندسته أكثر نم ارتهانها بالأمطار والانواء، وصار علمه بزراعتها علماً غزيراً علمته إياه التجربة المقصودة والأبحاث المنتظمة، فقد أسرع الاستعمار إسراعا لم يعهده التاريخ، حتى ليُنذر بأن لا تبقى رقعة من الأرض لا تطؤها قدم مستعمر. حتى الروابط التي كانت تربط الإنسان بأرضه الأولى، فتمنعه، أن ينزح النزحة الأولى، قد هانت بسهولة المواصلات وسرعتها لانه إذا هو استبدل جديداً بقديميستطيع الآن إلى حد كبير ان يجمع بين موطن عتيق وموطن مستحدث، ويمد خيوطه طويلة ميسورة إلى سلف وراءه وخلف أمامه، ويؤلف في سهولة بين ما استدبر من أمسه واستقبل من غده

جميلٌ أن يرى الإنسان الحضارة تعم الأرض، ومعجبٌ مُزهٍ أن تلفّ العمارة المعمورةَ لفَ الهواء لها، ولكنها خسارة كبرى كذلك أن تذهب هذه الحضارة والعمارة بكل حيوان يَستْأنس، وبكل نبات لا يخضع لترويض الإنسان. لقد ضاع من أمثال هذا الحيوان ما ضاع، أو قلّ حتى إذن بالضياع، وانقرض من النبات ما انقرض، أو إذن بالانقراض وارتفعت أصوات في العصور القريبة تنبه إلى ذلك وتطلب حماية المستوحش من الحيوان، والنبات على السواء، وانعقدت أخيرا بلندن جمعية غرضها حماية الأصقاع الأفريقية الوسطى من التعمير وحفظها من عبث المدينة، وصيانتها صيانة الأثر الحي الخالد، وهي صيانة بالسلب، وحفظبالترك، فلا تكلف دينارا ولا درهما. وفي الحق كيف تجوز علينا صيانة المعابد ورعاية الهياكل والاعتزاز بصحاف من خزف ودوارق من صلصال وهي جميعا من صنع الإنسان المتحضر، فلا تزيد أعمارها عن قليل من آلاف السنين، ثم لا نصون آثارا أذهب من هذه في القدم وأبعد في العراقة من الإنسان. تلك يستعاض عنها إذا افتقدت، ويقام على أنقاضها إذا تهدمت، أما هذه فما ذهب منها فلغير رجعة، وما فني فلغير إيجاد. تلك تعيدها الصناعة، وهذه لا يعيدها إلا الخلق، والخلق ليس من عمل الإنسان.

وفوق هذا فالحيوان المستوحش والنبات البريّ، ان رثت صلتهما بالإنسان في نظام الخليقة العام. وتباعدت منابتها عن منبتة في جدول الاجناس، فان بينهما صلات قريبة وبين ما استأنس الإنسان منهما فكل حيوان مستأنس كان متوحشا يوما ما ونحن الذين أنّسنَاه، وكل نبات كان مستوحشا كذاك يوما ما ونحن الذين ألفناه، ولا يزال يوجد في الوحشي من الحيوان والنبات أشباه ونظائر لتلك التي تعيش بيننا في رخاوة ودعة، ولكن هذه النظائر كانت قليلة فزادت قلَّة، وهذه الأشباه كانت نادرة فزادت ندرة، فإذا نحن إذنا للعمارة أن تمتد بلا حدّ فقد قطعنا آخر الخيوط الواهنة التي تربط حاضر الأحياء بماضيهم، وطمسنا في رقعة الأحياء الخانات القليلة الباقية التي فاتها الطمس، وجئنا على آخر الأدلة الحية على أصل الإنسان والحيوان والأواصر التي بينهما

متى كان تأنيس النبات وأين كان؛ ومن أول من قام به - كلها أسئلة لا يستطيع إجابتها إلا بالحدس والظن وإعمال الخيال. والخيال إذا أصاب مرة أخطأ مرارا، ولكن مما لا شك فيه أن هذا كان والإنسان في حداثته الأولى، قبل التاريخ المعروف، وقبل العصور التي سّجل أحداثها الحجر. ففي مقابر المصريين فيما قبل عصر الأسر وفي العراق في منازل عريقة في القدم. وكذلك في الحفائر عن بقايا سكان مناطق البحيرات السويسرية والإيطالية كشفوا عن حبوب من القمح في درجة عاليه من التقدم النباتي ما كان يبلغها لولا تدريب سبق، طال حتى ضاع أصله في الأحقاب القديمة وامتد إلى الوراء حتى اختفى في حلوكة العصور الأولى. ان مكتشفات الإنسان كثيرة واختراعاته الخطيرة عديدة، وكلها كان لها نصيب في تقدم الانسان، وقد تختلف في المفاضلة بين هذا المخترع وذلك المبتدع، ولكن قليل من يماري في أن أكبر اكتشاف وأخطر ابتداع ساق قدم الإنسان إلى أول الدرجات من سلم الرقيّ الذي نراه اليوم، ذلك الاكتشاف الذي امحي أصله بإمحاء الحياة الأولى، وضاع سره مع سر الإنسان القديم، ذلك إمكان تأنيس النبات - تلك الحقيقة التي فطن إليها آباؤنا الأولون من أن بعض النباتات يمكن ترويضها وتمريضها وتَنْشِئتها وهدهدتها فتعطي ثمرات كثيرة وغلاّت وفيرة تكون غذاء مأمونا مضمونا يسكن الإنسان إليه في المكان الواحد العام بعد العام؛ لا يقلقه الترحل ولا تتلاقفه السهول والجبال. تلك الحقيقة التي خلقت أولى الصناعات وأكثرها تأصلا وعراقة، تلك الزراعة التي كانت وما زالت أس المدنيات جميعها،

إن النباتات القابلة للتأنيس قليلة، وقليل من هذه ما يعطي حبا أو ثمراً يصح أن يتخذ غذاء أساسيا كافيا للإنسان، وهذه متفرقة على سطح البسيطة، وهي كالحيوان لها مواطن خاصة من سطح الأرض، فمنها الأفريقي والأسيوي والأمريكي، وفي هذه المواطن دون سواها نشأت المدنيات البائدة، حتى ليكاد الفكر والبحث يردّ كل مدنية قديمة إلى حب أساسي، وكل حضارة بائدة إلى ثمر أصلي. فالمدنيات الأمريكية قبل كولومبس تركزت في الأصقاع الاستوائية وامتاز كل منها بغلة كانت أساسا لمدنية، فغلة المكسيك الذرة، وغلة بوليفيا واكوادور وبيرو البطاطس، فحضارة المكسيك العتيقة التي كشفت عنها الحفائر الحديثة حضارة ذرويه، وحضارة أمريكا الجنوبية بطاطسية

وليس معنى هذا أن تلك البلاد لم تنتج من النباتات غير الذرة والبطاطس، فقد أنتجت أنواعا من الخضر والفواكه لكنها ثانوية في تغذية الإنسان. وفي الدنيا القديمة، أو التي لا نزال نسميها الدنيا القديمة على الاعتبار الخاطئ، ان أمريكا لم يكن لها حياة مسرفة كذلك في القديم قبل أن (اكتشفها) كولومبس، تركزت فيها المدنيات حول المناطق التي تنتج أغذية أساسية لحياة الإنسان. وهي القمح والشعير والقرطم والشيلم وتنبت فيما حول البحر الأبيض المتوسط وآسيا الصغرى والجانب الجنوبي الغربي لآسيا، والأرز في الهند والصين. ولا نزال اليوم نجد نوعا من الأرز البري ينبت (شيطانيا) في الهند وفي جنوب الصين؛ وهو لا شك جَدٌّ لأنواع الرز الحديثة. كذلك نجد في آسيا الصغرى وفي الجنوب الغربي لآسيا أنواعا من النبات تمتّ إلى القمح والشعير والقرطم بوشائج من الرحم على بعدها بيِّنة واضحة

ومن المدهش أن نباتات أمريكا فيما قبل (كولومبس) أي عام 1500 ميلادية تختلف كل الاختلاف عن نباتات الدنيا القديمة. فلم يكن بينهما نبات مشترك واحد. كان في أمريكا الذرة والبطاطس والبطاطا وأنواع من الفول والطماطم والفلفل والفول السوداني والأناناس والجوافة والكاكاو وغير هذه من أجناس أخرى غير مشهورة لدى الناس. ولم يكن في أمريكا في تلك العهود من حيوانات الدنيا القديمة غير الكلب. وكان في الدنيا القديمة من النباتات المستأنسة القمح والشيلم والشعير والقرطم والدخن، والأرز وكلها حبوب أساسية في تغذية الانسان، واللفت والبصل والسبانخ والخس والحمص والعدس والسمسم وغيرها

قال العمدة النباتي (ألفونس دي كندول) في كتابه الأثري (أصل النباتات المزروعة) عام 1882: (وفي تتبع تاريخ هذه النباتات لم أجد أثرا لصلة كانت بين سكان الدنيا القديمة وسكان الدنيا الجديدة فيما قبل العصر الكولومبسي) وقال العالم الأحدث فافيلوف (1931): (ان الزراعة في أمريكا قبل العهد الكولومبسي نشأت نشوءاً مستقلا عن الزراعة في الدنيا القديمة، فإذا نحن قلنا مع أغلب البحاث ان سكان أمريكا القديمة أتوا من آسيا وجب أن نقول أيضا أنهم أتوا فارغة أو طابهم من كل نبات أسيوي. ومعنى هذا إن النبات في الدنيا الجديدة استأنست عن أجناس وحشية نبتت في تلك الأصقاع ذاتها) ولكن لما فتح كولومبسي أمريكا للعالم القديم، وصح عند الناس أن بلداً كبيرا واسع الغنى خبيئ الثورة قد انكشف، ركبوا إليه أفواجا بأهلهم ومتاعهم وحملوا معهم ما عرفوا من الحيوان وما ألفوا من النبات وبذوره. وبذلك نقلوا المستأنس من الحيوان والنبات إلى ذلك البلد الجديد، ورجعوا إلى بلدهم القديم بنبات تلك القارة الجديدة الواسعة وبحيوانها. ودارت الأفلاك بالسنوات والأحقاب. والإنسان دائب في مزج أحياء المشرق بأحياء المغرب غير متعمد ذلك ولا قاصد إليه، حتى ضاعت المواطن الأولى لتلك النباتات وأمحت قوميتها، وتأقلمت فاستترت سيماء الأجنبية منها، واستعربت فاختفت مظنة العجمة فيها. أو استعجمت فذهبت العروبة عنها، فالمصري يزرع الذرة والبطاطس ويحسب أنها مصرية وهي أمريكية، والأمريكي يزرع الأرز والموز وجوز الهند ويحسب أنها أمريكية وهي أسيوية. وما جرى بين أمريكا والدنيا القديمة جرى لا شك بين تلك القارات فيما بينها وبين أصقاع القارة الواحدة

اختلطت نباتات الأرض فاستبهمت أصولها، وانتشرت حيواناتها في البلاد فأصبحت كل أرض بلدها، فهل يكون للإنسان، وهو جنس واحد من الحيوان. مثل هذا المآل؟

احمد زكي