مجلة الرسالة/العدد 259/بين العرب والفرس

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 259/بين العرب والفرس

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 06 - 1938


بمناسبة المصاهرة الملكية

من دلائل التوفيق وبشائر النُّجح في توثيق ما أوهن الدهر من أواصر الأخوة بين دول الشرق الإسلامي، أصهار العرش الإيراني العريق إلى العرش المصري المؤثّل. فإن الغفوة الثقيلة الطويلة التي غفاها الشرق في ظلال الضراعة والجهالة والخمول، قطعت الأسباب بين حاضره وماضيه، ومزقت الأوصال بين قاصيه ودانيه، فأصبح فلولاً لجيش باد، وطلولاً لمجد تقوض. فلما أذن الله لليل الشرق أن يُصبح، أيقظ العرب والترك والفرس، وهم الأمم الثلاث اللاتي سطعت بهن شمسه، وازدهر بمجدهن أمسه، وانتشر بفضلهن نوره، فانتعش ما ذوى من رجائه، وتجدد ما خوي من بنائه، وهبت العبقريات الساميَّة والآرية والطورانية تتفتح مرة أخرى في ربيع الإسلام الدائم. وحضارة الإسلام، وإن شئت فقل حضارة الدنيا، كانت نتاجاً لازدواج الوحي العربي بالخيال الفارسي، نشأ منه هذا الأدب الإنساني الذي حلل نوازع النفس، وهذا الفن العالمي الذي صور مدارك الحسَّ، وهذا التصوف الفلسفي الذي ترجم غوامض الروح، وذلك النظام الاجتماعي الذي جعل الحياة فناً وتمدين الناس طريقة

نعم كان لابد للفرس من العرب ليبصروا نور الحق، ويدركوا سمو النفس، ويعرفوا كلمة الله؛ وكان لا بد للعرب من الفرس ليعرفوا الدنيا، ويذوقوا النعيم، ويتعلموا الملك. فلما جمع الله الشعبين العظيمين بالإسلام، وربط بينهما بالضرورة، نزت في رأسيهما عصبية الدم النبيل وعزة النفس الحرة، فأدلَّ العرب بالدين والفتح والعروبة، وتبجح الفرس بالسلطان التليد والتاريخ المجيد والحضارة الرفيعة، فكان بين الأمتين ازورار طبيعي إذا اشتد كان عداوة، وإذا خف كان مصانعة.

والشخصية العربية الغلابة التي استطاعت أن تذيب في جنسها كل جنس، وتبيد بلغتها كل لغة، لم تستطيع أن تعرّب الفرس ولا أن تقهر الفارسية. فبقي استقلال إيران في القومية والطبيعة واللغة، وزال أو كاد في السياسة والعقلية والأدب. ثم تَنَزَّكت الخلافة فتترك هوى العرب؛ وأرَّث العثمانيون النار الخابية بين الشعبين بالخلاف المذهبي، فانفرجت الحال وتنكر الأمر، حتى قامت القيامة الصغرى في الحرب العالمية الكبرى، ووقف الشرق العزيز حيال الغرب المقتدر، يحاوله في وجوده، ويصاوله على استقلاله، فتخفف الترك من تكاليف الماضي المشترك، وفروا بأنفسهم آوين إلى الأجواء الغربية، تاركين للعرب والفرس إنهاض الشرق الإسلامي اليوم، كما أنهضوه من دونهم بالأمس، فلم يكن للشقيقتين العريقتين بد من التكاتف على حمل هذه الأمانة العظيمة

إن الروابط الدينية والثقافية والتاريخية والاجتماعية التي تربط الفرس بالعرب لا يقوى على فصمها الدهر، لأنها جزء من وجودهما العقلي والروحي لا سلطان لنعرة الجنس عليه، ولا حيلة لأهواء السياسة فيه. وسيكون هُّم القيادة في الشعبين إحكام هذه الروابط بالتآلف والتحالف والمودة لأن، وَحْدة الغرب تقتضي ضم الشتات بإزائها، ونهضة الشرق تتطلب التكاتف على حمل أعبائها

إن مصاهرة إيران لمصر حادث جليل المغزى سيكون له في سياسة الشرق الأدنى عظيم الأثر. وبحَسْبك أن تعلم أن طهران كادت تنهج سبيل أنقرة في مجافاة الإسلام ومجانبة العرب، فاتصالها بالقاهرة المحافظة على عقيدتها وشرقيتها وتقاليدها يفصلها عن القافلة الشاردة، ويمُسكها على سَنَنِها الموروث، فتتطور ولا تتغير، وتتقدم ولا تحيد. فإذا نظرتَ إلى ما وراء ذلك رأيت هذه العلاقة الملكية الكريمة سفير وئام وسلام بين دولتين تجاورتا خمسة عشر قرناً ولا تزالان تطويان الصدور على حزازات الماضي. وستكون فاتحة الخير أن ينعقد في حاضرة النيل مجلس إسلامي عام ينتظم أقطاب الدين والعلم في أقطار الإسلام ليديروا الرأي فيه على ما أصاب المسلمين من صَدَعات الشيَع وضلالات البدع واختلافات المذاهب. ومن اليقين الجازم أن الدين - وهو دستور الأمة الإسلامية - إذا خلص من شوائب الجهل والغرض ضمن لأهله وحدة الرأي ووحدة الهوى ووحدة الغاية

ذلك إلهام الله في سياسة الفاروق المعظم. فهو يدبر الأمر ويمضيه على توجيه من فطرته ودليل من قلبه. وكأنما اصطفاه الله اصطفاءً لهذه الساعة المشهودة من حياة الشرق، فزوده بالقول الثابت والرأي الثاقب والسداد المرتَجَل والتوفيق الملهَم. فهو يولي وجهه شطر النور الأزلي الأبدي الذي ينبثق في مثل هذه الفترات المرَيجة فيبدد ظلام الحيرة، ويجمع شتات الوحدة، ويسدد الخطى الضالة في الطريق الأمينة

إن دلائل الحال تعلن أن عهد الفاروق الموموق سيكون عهد الوحدة العربية، والجامعة الإسلامية، والعصبة الشرقية؛ فهل آن لنصف الكرة الأول أن يهب من سباته. ويبرهن بيقظته على استمرار حياته؟

أحمد حسن الزيات