مجلة الرسالة/العدد 258/من ذكريات الريف
مجلة الرسالة/العدد 258/من ذكريات الريف
ليالي الحصاد. . .
يا حبِّةِ الأَمْح زيدي ... وأملي المخازن علِينا
إنت دَهبْ مَلوِ إيدي ... لُولاكْ مَرُحْنا وجينا
يا شمعة العز إيدي ... واجلي بنوركْ عِنينا
داعيدْ حبايْبي وعيدي ... يا رب عودُهْ عَلِينا
بهذه الأغنية الرقيقة كان صوت أمينة الوتري الرخيم يموج لذيذاً في مسمع الليل المقمر الساجي؛ وكان أترابها يرجعن عليها اللحن ومناجلهن في أيديهن تجز سيقان القمح فتسمع لها في خلال النغم خشخشة آلة موسيقية غريبة!
كان ذلك في ليلة بين أواخر مايو وأوائل يونية، والزرع قد استحصد وتهالك بعضه على بعض من الذبول واليبس، فلم يعد يقوى على حمل سنبله. وكان الحاصدون والحاصدات قد خرجوا عشاء إلى الحقول الذهبية، في أيديهم المناجل، وعلى أكتافهم الأردية، وهم يوقعون على طرق الربيع العشيبة أهازيج الجذل والأمل، فباتت القرية هامدة كأنما ضرب على آذانها الموت فلا تسمع سامراً على مصطبة ولا نابحاً على تل. فأخذني منها ما يأخذ السائر الوحد من الغابة اللفة أو المقبرة الفسيحة. فخرجت أنشد الفرجة والأنس في حقل من حقولنا القريبة، وكنت أعلم أن في حصاده جوقة من الأوانس الحسان الوجه والصوت. فلما غمرني ليل الحقول، وملكني سلطان الطبيعة، أحسست في نفسي دنيا جديدة لم أحسها من قبل في نهار الناس ولا في ليل القرية! فقد كان القمر حينئذ في الفخت يرسل أضواءه اللينة الرخية، هادئة كإشعاع الحلم، شاحبة كإسفار الأمل، فيلون الغيطان والغدران والطرق بلون الفضة الكابية؛ ونسيم آذار الندي العبهري ينفح بطراءة الفردوس الإنسان والحيوان والشجر، فينتعش الهامد ويتنفس المكروب وتتندى الحصائد؛ فتسمع الجنادب تصر في هشيم البرسيم، والضفادع تنق على حفافي الترع، والسواقي تنوح على رءوس الزروع، والحاصدات يغنين في مزارع القمح، وطيور المساء تبغم على أعالي الدوح، وكلاب الحراسة تنبح على أطراف البيادر، فيكون من كل أولئك إيقاع موسيقي عجيب يبعث الروعة في النفس، ويلقي الشعر على الخاطر! على أن هذه الأصوات المتجاوبة على نشوزها لم تكن هي مبعث السحر الذي غلب على مشاعري؛ إنما كان مبعثه ذلك السجو العميق السحيق الذي ضرب على حياة الليل فهيمن على كل حس وسيطر على كل حركة فما نسمع الأصداء في جوف هذا السكون، إلا كما ترى الأنداء في رمال المفازة
كنت أمشي بين هذه الظواهر الليلية وئيد الخطو رزين الخيال مرهف الحساسة، لا أجد في طبعي ما كنت أجد في النهار من مرح الصبى وخفة الحداثة، فكأنما يضع الليل من ثقله على الجسد والفكر والشعور فيتغلب على المرء الهدوء والبطء. ذلك إلى أن الجو الاجتماعي في القرى ليالي الحصاد، يختلف عنه فيها أيام الجني. ففي حصاد القمح يأخذ القرويين حال من التدين الذاكر الشاكر، لأنهم يتقبلون فضل الله في هذه الحبة المقدسة ليحفظوا بها البدن، ويمسكوا عليها الروح؛ فهي عندهم مرادفة للحياة، يسمون خبزها (العيش) و (النعمة)، ويتحرون في كسبها الحل والحرمة، ويذكرونها فيذكرون الرزق والصدقة والزكاة والبركة
أما في جني القطن فيدركهم مس من الطمع والغرور فيحبون الدنيا ويعشقون المال ويرغبون في اللهو ويذكرونه فيذكرون الربا والثراء والرواج والزواج والهم
كنت لدى ساقية الغيط الراقدة في كلةٍ من أغصان الصفصاف المرسلة حين ارتفع صوت أمينة الحنون بالأغنية التي ذكرت بعضها في مطلع هذا الفصل. وكان الحصدة من رجال ونساء يزحفون إلى القمح بمناجلهم صفاً فيتركونه ورائهم أضغاثاً من الحصيد منظومة الأسافل والسنابل، ثم يعودون الحين بعد الحين فيركمونها حزماً غليظة ويدعونها تنتظر النقل على الجمال إلى البيدر
وأجمل ما في ليالي الحصاد منظر الحقول المنبسطة على مدى الطرف وقد ضربت في صفرتها أضواء القمر فابيضت ابيضاض المصريات الحسان؛ ومجالس الشباب والشواب على حصائد القمح الوثيرة يديرون بينهم سقاط لحديث الفكه، ويتبادلون في احتشام كنايات الغزل الحي؛ وغناء الفتيات وزمر الفتية يتواردان على سمعك من قريب ومن بعيد، فيفعلان في نفسك ما لا يفعله الموسيقار الحاذق؛ ثم نوم هؤلاء وهؤلاء في الهزيع الأخير على فرش من الحصيد تكلاهم عين العفاف وتتمثل في أحلامهم صور الفضيلة. فإذا ما تنفس الصبح على وجوههم المطلولة هبوا إلى القناة يتوضئون ويصلون، ثم يعودون إلى مناجلهم على أنشط ما يكون الفتى، وأرضى ما يكون المؤمن
أبداً لا أنسى أنني قضيت معهم تلك الليلة، ثم نمت هذه النومة، وقمت هذه القومة، وأسفر على ذلك الصباح الضاحك المنضور فأبصرت مسالك القرية تسيل بحاملات الفطور للحصاد، وسائقات الماشية للمرعى، ولاقطات السنبل من بنات الفقر، فكان لي من جمال تلك العشية وضحاها، لذة لا أزال أنعم بذكراها، وأتمناها!
احمد حسن الزيات