مجلة الرسالة/العدد 258/صحيفة أدب وأخلاق

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 258/صحيفة أدب وأخلاق

ملاحظات: بتاريخ: 13 - 06 - 1938


عطفة القاياتي

للأستاذ حسن القاياتي

عطفة القاياتي فيما نتشهى ونتوسل، و (وعطفة الآلايلي) فيما تسمى ولا نحب، تلك عطفتنا العتيدة، قائمة حيث يحتضنها (باب زويلة) عند ملتقاه بالسكرية، فهي على يسرى المقبل من حي الحسين بن علي، الذاهب إلى (باب زويلة)

عن يساري إذا دخلت من البا
ب وإن كنت خارجاً عن يميني

تلك (عطفة الألايلي) في بهرتها دارنا القديمة الصغيرة (دار القاياتي): مسلك ضنك ملتو كمجرى النفس وجحر الأفعى؛ أشد من عرين الليث ظلمة ورهبة، وأضيق مسلكاً من لهاة الليث

يتصدر العطفة ربع قديم عادي البنية، ترحل عنه أهلوه من قدمه وخلوقته فهو خلاء قفر قام حرباً على المجتازين خشية التزلزل والتهادي.

أجل أيها الربع الذي خف آهله
لقد بلغت فيك النوى ما تحاوله

ربع معطل خلاء، عطل من الغيد والصباحة، لا يطل اليوم من شرفاته ولا نوافذه الحسن، ولا تشرف كعهدها ربات الدل.

فنوافذه الخالية الساجية كالعيون الثاكلة المفجعة لا يشرف منها الحب ولا تطلع الفتنة

يناوح هذا الربع المعطل بيت واهن متهالك، طالما تهدم وابتنى، وابتنى فتهدم، أحوالاً وأفانين حتى انتسخ البيت الأصيل وأعيد خلقاً آخر بالترقيع، فهو البيت وليس هو البيت كما قيل في طيلسان ابن حرب:

بقى الرفو وانقضى الطيلسان،
لكثرة عرضه على الرفو والرفاء

يسلم عطفتنا هذا الربع إلى ربع ثان يسايره أعرق منه في البلى والخلوقة يملك حيزها الأكبر؛ شهدت بالأمس قطانه من الطبقة الدنيا المبتئسة يترحلون عنه خشية التداعي ويتناشدون بكاء على العطفة أو بكاء على الربع وعطفه

ما ربع ميَّة معموراً يطيف به
غيلان أبهى رباً من ربعها الخرب

ثم تتسلسل يمنة ويسرة ومنازل العطفة بعد هذين الربعين بيتاً بيتاً فتشاكل هي كما تشاك أهلوها وهناً وضعة. وناهيك ساكنو الربوع حتى تشافه بيتنا الصغير فإذا هو معها كما قيل للعبادي: أي حماريك شر؟ قال: هذا ثم هذا. تشابهت هذه البيوت في الرثاثة والزراية حتى لتحسبها من التشابه بيتاً واحداً مردد الصورة، أو تحسب كل بيت منها إيطاء مع جاره وصاحبه، وليس في الحارة كلها بيت للقصيد.

وعلى هذا الذي نصف تمضي فتتصل الطليعة الأولى من حارتنا حتى تفضي إلى منزل قائم تبلغك هذه الكلمة حديثاً عنه: منزل يتصدر كأنما تختتم به العطفة أو تسد، ولكنها تستمر فتطرد بعده؛ بيد أنها تتشعب إلى شعبتين، تأخذ إحداهما ذات اليمين والثانية ذات الشمال كما تبسط ذراعيك للعناق!

تبارك الله ما أشرف وأنبل! ما شهدنا كهذه العطفة عطفة زهراء سامية ولا قطان عطفة جلهم بل كلهم من الطبقة الدنيا المتواضعة الوادعة، (إسكاف) إلى جانب (كناس) و (نجار) لدى (أديب)، وما إلى هؤلاء. أجل، لقد تنجب الحارات ولا كمن أنجبت حارتنا من (عزام) الإسكاف و (موسى) الزبال و (كريمة) النجار و (السيد) الشاعر

وما شر الثلاثة أمَّ عمرو
بصاحبك الذي لا تصبحينا

تلك حلية السكان في عطفتنا. ألست تشهدهم أيها القارئ ملء النفس، فكيف ظنك بزميلك الشاعر الفحل وقد خرج على هذا الملأ في وجاهته وزينته؟ أليس يزدهيك منه أنه أظهر أهل الحي نبلاً وأبينهم وجاهة؟

لم أر شيئاً حسناً
منذ دخلت اليمنا
فيا شقاء بلدة
أجمل من فيها أنا

ليس هذا وحده مما يشق على النفس والبصر فقد انتحى قاصية من العطفة حمام عتيق ومستوقد حمام سالت عليهما (الصحة) عجلات ومركبات تحمل القمامة ذهابا وجيئة، حتى إذا التقت مركب في مسالكها بمركب غصت بهما حلاقم العطفة وسد متنفس الطريق فقل في حبسة بل غصة صادعة كغصة الماء لا يسيغها الماء!

لو بغير الماء حلقي شرِق
كنت كالغصان بالماء اعتصاري

إذا راح سدنة حمامنا أو اغتدوا عليه يحملون قدور (الفول المدمس) المنتفخة السوداء فقل في أشباه الحلاليف تحمل الحلاليف!!

أنا أبن الذي لا ننْزل الدهرَ قدرُه
وإن نزلت يوماً فسوف تعود
ترى الناس أفواجاً إلى ضوء ناره
فمنهم قيام حولها وقعود

على أننا وإن تناولنا قدور (الفول المدمس) بهذه الدعابة فما نتغمد لها فضيلة ولا نغض من قدر، تلك أسوة البائسين بالسراة ومائدة المفلوكين معاً والمالكين، على حالة من المدنية شحيحة مناعة ليس لنا فيها طعام ابن جدعان ولا جفنة آل المحلق

نفى الذل عن آل المحلق جفنة
كجابيةِ السَّيْح العراقي تَفهَقُ

لقد رمتنا هذه الحضارة والمدنية بمأدبات ومطاعم باخلة جل ما تتسمح به قدور وصحاف قدرتها الصناعة تقديراً فهي دقيقة زهراء كالدراهم والدنانير، غالية كأنما تطبخ فيها الدراهم والدنانير:

رأيت قدور الناس سوداً من الصّلَي
وقدر الرقاشيين زهراء كالبدر
إذا ما تنادوا للرحيل سعى بها
أمامهم الحوليُّ من ولد الذر

يعصف بنا مستوقد الحمام عصفته ويهب إعصاره، فحسبك أن تتعرف أن الله إنما أجرى الهواء طلقاً ليشتمه الناس غيرنا نسيما عليلا وحياة ولا نتجرعه نحن إلا حرقة أو غلة، فهو زفرة حرى أو تنهد. طالما أظلتنا غاشية كثيفة هوجاء من دخان هذا المستوقد بل جبل النار يظلم لها يومنا الطلق الأضحيان حتى ليخيل إلينا أن يومنا قد رغب عن لونه الأبيض الوضاح، أو كأنما صيغت لنا خاصة شمس سوداء تقد من أديم الليل!!

أما وقع العجلات من مركبات (الصحة) زائرات المستوقد لا في الفينات والفترات بل في اليوم الأطول والليل الأليل فإنما يكون على أشده إذا تحين الأديب لخواطره الشعرية ساعة من فترة الأحياء وهدأة الحياة!!

يميناً لقد عشت هذا الزمن الحفيل لا أتفهم كلمة المعري في شعر (ابن هانئ الأندلسي) حيث يقول: (ما أشبه شعر ابن هانئ إلا برحى تطحن القرون) حتى إذا رصفت عطفتنا بالحجر وتخطرت عليها مركبات الصحة، أيقنت إنما نحن في مطحن للقرون

هذا بعد أن رصفت العطفة بالحجر، أما قبل ذلك فقد كانت تستهل علينا السماء في الشتوة شآبيب كأنما تخرقت بها السماء حتى تتوحل الأرض فأكثر مشية السكان إذ ذاك مشية المقيد في الوحل عليَّ

وإلا ما بكاءُ الغمائم
وفىَّ وإلا فيم نوحَ الحمائم؟

حمام السكرية وناهيك: حمام صحب الزمن حتى تحدث به التاريخ وظل ماثلا حتى زرناه، أنقسم بنصفين فهو حمامان، قسم للجنس النشيط له باب من السكرية، وقسم للجنس اللطيف الدخلة إليه من عطفتنا؛ بيد أن شطره الجميل قد عطل عندنا من العمل فعطل الحي من الحسن

كانت تبتكر إلى حمام السكرية هذا أسراب من الغيد الفواتن بل زهرات الصباحة من كل رشيقة القد نفاثة العينين بالسحر، فيلتقي لأجلهن عنده فصائل من عبدة الحسن رواد الغزل قوامها شباب من الطبقة الدنيا، فما شاء الحسن، لا، بل ما شاء الفحش من كلمة غزل حارة أو قالة عوراء تنظر إلي نظرة خائنة أو تجميشة باليد، ثم ما شاء الشغب والفتنة من تهاتر وإلحاد في الحسن. فكم صريع هناك في معترك الغزل والجدل بأعين الفتيات الساحرات وأيدي (الفتوات)

فتية تلك للشغب والشر خليقة بهذه الكلمة الفكهة من زميلنا الأستاذ علي شوقي قال:

(وملطعين) على الطريق تراهم
يتحرشون برائح أو غادي
فئة تقول لها إذا حييتها:
يا معشر السفهاء والأوغاد

إن للغزل في مصر كلها مغاني ومواقف غراء مشهورة، منها حمام السكرية. فأن عد العرب من مغاني صبابتهم ومآلف غزلهم بانة الوعساء والرقمتين، عددنا المحملين وبين النهدين، أو تذاكروا (نجدا) (وسفح زرود)، فخرنا (بالمحمدي) و (أبي السعود)،

أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها
مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب
ولا برزن من الحمام مائلة
أوراكهن صقيلات العراقيب
حسن الحضارة مجلوب بتطرية
وفي البداوة حسن غير مجلوب

لم يكن للعطفة فيما سلف عهد بالنور فكانت الحوذية والمكارون يربطون حميرهم ومركباتهم في جنبتيها، فإذا أقبل الداخل إلى أهله في الظلمة لم يرعه إلا صدمة من مركبة مسندة أو رمحة من حمار مرتبط

أنا أعمي وصاحب القوم أعمى
فدعونا في ظلمة نتصادم

فإذا هو دامي الجبين، دامي الفؤاد من شجى ولوعة

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم

زَيّن لنا هذا بل زين لنا حسن الجِدَّ ولا نكذب الله، أن نكتب إلى ولاة الأمر في طلب النور، ونمى إلينا حديث ذلك الكاتب الكبير الذي طلب إليه أن يكتب رسالة إلي وليّ أمر في طلب النور للمساجد فارتج عليه ولم يدر كيف يكتب، فبينما هو نائم جاءه إبليس فقال له أكتب: إن في النور أنساً للسابلة ونفياً للريب والوحشة عن بيوت الله. فبدا لنا أن نساجل هذا الكاتب ونساير أسلوبه هذا في استجداء النور لعطفتنا وبيوتنا لا لبيت الله، وهممنا بأن أكتب هذه الكلمة على طرازه الإبليسي؛ بيد أنني قَنَيْت الحياء فلم أكتب وليتني كتبت:

أيتها الوزارة الأريحية:

نحن أهل (عطفة الألايلي) في ظلمة مطبقة، المشتكي إلى الله منها ثم إليك، فهل أنت متسمحة فمحسنة إلينا بخطرة من النور ولمحة من الضوء فان في النور تنويهاً بمواقف الغزل عندنا والصبابة، وأنساً لمآلف الصبوة، وهداية لمواقع القبلات والنظرات فلا يجمل أن يسلم الجمال ومناغاته إلى الظلمة وحيرة الموقف وإلى مثل كلمة الشاعر:

وبان بارق ذاك الثغر يوضح لي
مواقع اللثم في داج من الظلم

على أن في النور عدا هاتيك الخلال النذير، من رمح الحمير، والنجاة من المركبات.

فلما استجابت الوزارة لهذه الضراعة والتخشع بعد أن كتبنا إليها - ولكن في غير هذه اللغة - استجابت لنا بمصباحين ضئيلين فاتري اللمح باهتي اللون كان العهد بالنور قبلهما أن تتحلل الظلمة تحته، ولكنه نور افتر من (بارق ذاك الثغر) يتحلل تحت الظلمة

أما صرعى الكلاب والهررة الأليفة المفدَّاة وما إليها من الفيران وبنات عرس فما تطوي لها جثة من جنبات العطفة وأقطارها ولا تكتم رائحة وإنما تحشر في بطون الهوام والطير وتصعد معها أرواح الساكنين من صرعى الجراثيم والعلل

ستقبرني الطير كيلا أكون
سواءً وأمواتهم في الرجم

ليست صناديق القمامة التي ترصدها الوزارة في الطرقات والميادين إلا صورة كاذبة مختالة للنظافة كأنما تدفع بها عن العاصمة معرة النقص من القادرين أو تكف أو بها لذعة العيون والَحدَق على فرط القذر والدمامة، كما تعلق تميمة القروية البلهاء الغريرة على محيّا وليدتها الدميمة خيفة العين ليس لدينا شيء معجب بحمد الله بل كل ما تباشره العين مما يشق على النفس والبصر، سوي مدرسة أولية وسبيل أثري تحت المدرسة يتصدران العطفة. أما المدرسة فتحمل إلينا من ذكر العلم والتربية ما يندى على الكبد الحرَّى برداً وروحا؛ وأما السبيل فان يكن عطل آنفاً حتى ما يبض بقطرة ماء في طاعة المدنية والوقاية فهو يذكرنا بإحسان أسلافنا الأولين وبرَّهم كالمحيا الفاتن شيَّع عهد الصبا والفتنة وغيض منه ماء الحسن ربما أذكرك بتقاسيمه أيام كان يشرق بماء الحسن والفتنة

تبتكر الشمس فيبتكر معها قطعان من الباعة والصناع من صائح بالبامية والقلقاس، إلى مبيض النحاس، فينعقون بسلعهم المتعارفة تناهق الحمر فيمنعون القائلة الشهية يومهم الأطول، حتى إذا تمشت الشمس إلى المغيب، خلفتهم فصائل أخرى من الطراز الساخر تدق الدفوف، وتضرب بالكفوف، ثم تتغنى بكل ما تتغنى به الإذاعة العامة، فهم إذاعة متنقلة ليس يدري المستمع إليهم: أباعة هم يتغنون، أم مغنون يبيعون؟!

طال ليلي وبتْ كالمجنون
واعترتني الهموم بالماطرون

هذا بعض ما نلقي في عطفتنا وفي دارنا، إلى أطفال من نشء الغوغاء والسوقيين، لهم عدة التراب كثرة، في خسة التراب، مباءة أمراض، ومسيل أقذار، وخريجو شغب وقحة، ونبت تشرد وجهل، كأنما عوض أهلوهم بكثرتهم ما افتقدوا من عزة العلم والجلال

يا فراخ المزابل
ونتاج الأراذل
اسمعوا لا سمعتمو
غير زور وباطل

نشء من الغوغاء لهم على ضؤولة الجراثيم فتك الجراثيم، تفتك بالعلات ويفتكون بالعلات والجهالات

أليست هذه الطفولة العابثة اللاهية هي الطفولة العاطلة المتشردة حذرك النعل بالنعل؟ وإذا كان يجمل بالدولة أن تحمل نشء الأمة على العلم والثقافة بسيف الإكراه القانوني فليس بمستنكر عليها أن تحمل هذا النشء على حذق الصناعات والفنون بالإكراه القانوني، ولئن كان العلم سبيل العيش والحياة، فإن الصناعات والعمل عيش وحياة

(البقية في العدد القادم)

حسن القاياتي